هيغل والتنوير

هاشم صالح

2002 / 7 / 26

 

مرَّ هيغل بالمرحلة التنويرية، مثله في ذلك مثل معظم فلاسفة عصره. ففي ذلك الوقت ما كان بإمكان أي مفكر حقيقي الا ان يواجه المسألة الدينية في لحظة ما من لحظات حياته. بل ان مسألة العلاقة مع المسيحية أو بالاحرى مع التصور التقليدي لها كانت تشكل المسألة الكبرى بالنسبة للفلسفة والفلاسفة. يعرف ذلك كل من غاص في اعماق الفكر الاوروبي وتابع تطوره التاريخي. اما الآن فقد تغير الوضع في اوروبا الى درجة ان فلاسفتها قد يمضون كل حياتهم في البحث والتفكير دون ان يقولوا كلمة واحدة عن القضية الدينية. لم تعد تشغلهم كما كانت تشغل اسلافهم قبل قرن او قرنين من الزمن. اصبحت مملولة أو تحصيل حاصل. هذا كل ما في الأمر لا أكثر ولا أقل..
والواقع ان الفلسفة هي بنت عصرها كما كان يقول هيغل شخصياً. وبالتالي فينبغي ان نزيل من أذهاننا تلك الفكرة الشائعة كثيراً في بعض الاوساط التي تقول بأن الفيلسوف يقول كلاماً تجريدياً عمومياً يتجاوز كل العصور ولا يرتبط بأي عصر أو زمن أو مجتمع محدد. هذا النوع من التفلسف اذا ما وجد لم يعد يقنع احداً. الفيلسوف الذي لا يعالج المشاكل الاساسية المطروحة في عصره والتي تقلق مجتمعه ليس فيلسوفاً ولا يستحق هذا الاسم.
مهما يكن من أمر فإن هيغل كان قد واجه المسألة الدينية وهو في الخامسة والعشرين عندما ألف كتابه «حياة يسوع» عام 1795. وفي هذا الكتاب الذي لم يتجرأ على نشره فوراً، نلاحظ انه يقدم صورة تاريخية ـ اي عقلانية ـ عن مؤسس المسيحية. فالمسيح كما يفهمه هيغل يبدو كمعلم اخلاقي على الطريقة الكانطية اكثر مما هو شخصية خارقة او فوق تاريخية. فلم يعد يسوع يصنع المعجزات هنا وهناك كما تصوره لنا الكتب التقليدية، ولم تعد هناك أسرار تحيط به. وانما اصبح يعلم الحرية الداخلية والكرامة الانسانية، كما يفعل اي فيلسوف من فلاسفة التنوير، وان بشكل أكمل.
ثم ألف هيغل بعد ذلك بعام واحد كتاباً آخر مهماً عن الدين هو: دوغمائية الدين المسيحي. وفي هذا الكتاب الذي لم ينشر ايضا في حياته يدرس هيغل نفس العقائد المسيحية التي كان فولتير قد انتقدها. ولكنه يطبق منهجية مختلفة عن منهجية فولتير. انها منهجية داخلية اكثر مما هي خارجية. ففولتير كان ينتقد الارثوذكسية المسيحية (أي الاصولية) من موقع خارجي مضاد. واما هيغل فكان يتبع هذه المنهجية احياناً، ولكنه في معظم الاحيان كان يمشي مع العقيدة من الداخل وبشكل ديالكتيكي لكي يبين ضرورتها التاريخية أو الوظيفة التي أدتها في لحظة ما. ثم يبين بعدئذ كيف انها تحولت الى عكسها. فما كان عقلانياً في الدين المسيحي يصبح مع الزمن دوغمائياً.
انه يتحول الى طقوس وشعائر ومؤسسات فرغت من معناها الاصلي، الأولي. بمعنى آخر فإنه يتحول الى قشور وقوالب يابسة جافة محنطة أو متحنطة.. وعلى الدين الحقيقي ان يتخلص من هذه القشور لكي يعود الى معناه الحي، الى منبعه الاصلي.
فالدين المسيحي بمرور الزمن وبسبب صراعات البشر واهوائهم تحول الى ايديولوجيا سلطوية، قمعية في مرحلة ما من مراحل التاريخ. وهذا ما يدعوه بالدوغمائية.
ولكن فيما بعد، فهم هيغل ان الدين اذا ما فرغ من دوغمائيته وطقوسه وشعائره فإنه لا يعود ديناً على الاطلاق! وعندئذ وقف هيغل امام خيارين: فإما ان يتخلى كليا عن الدين الدوغمائي لصالح العقلانية الفلسفية الراديكالية، واما ان يجعل الفلسفة تتعايش او تتجاور مع الدين. ولكن هذا التعايش يبدو مصطنعاً وغير مفهوم بعد ان قام هيغل بنقد العقائد المسيحية، والأسرار، والمعجزات، وما الى ذلك. ولهذا السبب اتهمه بعضهم باستخدام لغة مزدوجة: لغة الفلاسفة ولغة اللاهوتيين. فهل هناك حقيقة واحدة عقلانية للجميع؟ ام انه توجد حقيقتان: الأولى للفلاسفة والنخبة المثقفة، والثانية لعموم الشعب؟
ضمن هذا المنظور راح الدين المسيحي يتحول بفعل ضرورة تاريخية قاهرة الى عكسه! راح يصبح استلابياً مضاداً بمقاصده الأولى وجوهره. وعلى هذا النحو نفهم سبب تحالف الكنيسة المسيحية مع النظام الاقطاعي والاستبداد السياسي طيلة قرون وقرون. فالانجيل لا يقول بالتحالف مع الاغنياء ضد الفقراء، أو مع الاقوياء ضد الضعفاء. ومع ذلك فإن الكنيسة وافقت على هذا الشيء وشرعته. بل وحاولت ان تقنع البسطاء بقبوله. وهنا تكمن الوظيفة الاستلابية للدين.
بالطبع فإن مثل هذه الافكار كانت تبدو خطرة في وقتها ومدانة من قبل المجتمع في أغلبيته العظمى، ولهذا السبب لم ينشرها هيغل وانما ابقاها كمخطوطات في درج مكتبه.
كان يعرف ان هذه الافكار سابقة لأوانها، وان الشعب الالماني لن يقبل بها لأنه غير مهيأ لذلك او غير قادر عليه بكل بساطة. وهذا اكبر دليل على ان تغيير العقليات عملية خطيرة ولا تتم بين عشية وضحاها. ولذلك فأكثر ما يزعجني هو استعجال بعض المثقفين العرب للتغيير أو لحرق المراحل! وانا اقول بأن التغيير ينبغي ان يهضم مرحلة فمرحلة. ولا ينبغي ان ننتقل الى المرحلة التالية قبل ان تكون الأولى قد هضمت تماماً واستوعبت.
ينبغي العلم بأن فيخته، استاذ هيغل بشكل ما، على الاقل في البداية، كان قد دفع الثمن باهظاً بسبب اصطدامه برجال الدين. فقد طرد عام 1799، من جامعة «يينا» احدى الجامعات الالمانية الاكثر انفتاحاً وليبرالية في ذلك الزمان. فقد اتهموه بالالحاد ونموا عليه ووشوا به امام السلطات العليا التي تحل وتربط. وكل ذلك لماذا؟ لأنه اطلق تصريحاً عقلانياً حول الدين المسيحي. لا ريب في ان هذا التصريح كان متقدماً على الرأي العام الشائع، ولكنه كان خجولاً بالقياس الى ما كان هيغل يكتبه سرياً في نفس اللحظة في سويسرا.. لنستمع الآن الى ما قاله فيخته: «ان النظام الاخلاقي الحي والفعال هو الله نفسه. ونحن لسنا بحاجة الى عقيدة اخرى غير ذلك. لا يوجد في العقل اي باعث يدفعنا للخروج عن هذا النظام الاخلاقي الذي يمسك الكون كله. لسنا بحاجة للاعتقاد بوجود كائن خاص يكون بمثابة السبب للنتيجة. وبالتالي فالفهم السليم لا يستخلص مثل هذه النتيجة. وحدها فلسفة الخطأ تفعل ذلك..»
هذا الكلام يعتبر هرطقة: اي خروجاً على الفهم السائد للمسيحية في ذلك الزمان. ولذلك أدانوه وفصلوه من الجامعة. فتصور فيخته عن الله يختلف عن التصور المسيحي التقليدي الراسخ منذ مئات السنين والمتمثل بعقيدة التثليث انه معقلن اكثر من اللزوم...
بالطبع فإن هيغل يذهب بعيداً اكثر في اتجاه الهرطقة. والواقع ان مؤلفاته في فترة الشباب والتي لم تكشف للملأ الا بعد موته كانت اكثر راديكالية في نقد العقائد الدينية والسياسية في مؤلفات الكهولة او النضج. بعدئذ اصبح اكثر حذراً وتجربة، ان لم نقل اكثر خوفاً من العقاب. في شبابه الأول كان هيغل يكتب الرسائل الملتهبة الى صديقيه شيلنغ وهولدرلين ويعلن كرهه لكلية اللاهوت البروتسانتي ولطريقة تعليم الدين فيها. وكان يعبر عن أمله بانتصار الفلسفة الجديدة في المانيا: اي فلسفة كانط وفيخته، فلسفة العقل والنقد والحرية. واما اللاهوتيون والكهنة فكانوا يثيرون غيظه. والواقع انه لم يحبهم ابدا في حياته بصفتهم هيئة جماعية او منظمة كنسية. كان يخشاهم ويخشى ردود فعلهم ويعتبرهم خطرا على حرية الفكر. وأشد ما كان يزعجه هو محاولتهم الآن في الاستيلاء على الفلسفة الكانطية وتسخيرها لخدمة عقائدهم البالية التي عفى عليها الزمن. فبما ان فلسفة كانط نجحت وصعد نجمها في المانيا فإن الجميع حاولوا التقرب منها والاستئثار بها، بل وتطويعها لكي تتماشى مع افكارهم الخاصة.
وهذا ما يحصل عادة لكل شيء ينجح في التاريخ.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن