الطائفية في عهد الاحتلال البريطاني وحرب الجهاد (الفصل الرابع)

عبدالخالق حسين
Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com

2010 / 7 / 20

 

سياسة فرق تسد

اتبع الإنكليز في تعاملهم مع الشعوب المستعمرة سياستهم المعروفة (فرق تسد)، وكانوا يعتمدون على الأقلية في أي بلد يسيطرون عليه وذلك من أجل خلق فجوة عميقة بين هذه الأقلية وبقية الشعب. فمن جهة تؤدي سياسة الاعتماد على الأقلية واضطهاد الأغلبية على تفتيت الوحدة الوطنية وتجعل الشعب مفككاً، وضعيفاً إزاء المستعمِر في نضاله من أجل التحرر. كذلك تجعل الأقلية الحاكمة ضعيفة إزاء الأغلبية المحكومة، فتضطر إلى الاعتماد على الدعم الخارجي من أجل استمرارها في السلطة، واضطهاد وقمع الأغلبية في الداخل، وبالتالي مناهضة الديمقراطية لأن الديمقراطية تعني حكم الأكثرية. وهكذا في منح الحكم للأقلية مصلحة متبادلة، تسهيل سيطرة المستعمر على حكومة الأقلية مقابل ضمان ولاء سلطة الأقلية للمستعمر.

 

وعملاً بسياستها بدعم الأقلية هذه، كانت الحكومة البريطانية قد انتصرت للشيعة في العراق إبان الحكم العثماني، لأن الطائفة الشيعية كانت تشكل الأقلية في الإمبراطورية العثمانية رغم أنها ليست كذلك في العراق، إذ تفيد الكتب التاريخية أن في الكثير من المناسبات تدخلت القنصلية البريطانية في صالح الشيعة في أواخر القرن التاسع عشر عندما كانت تتعرض للاضطهاد من قبل السلطات العثمانية في العراق، فكانت تعمل بريطانيا ذلك على أمل زعزعة الحكم التركي بالاعتماد على الأقليات من شعوبها. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد انتصر الإنكليز للشيعة في بعض الحالات التي كانوا يتعرضون فيها لمذبحة، أو لمشكلة مباشرة مع السلطة العثمانية، ففي حرب نجيب باشا عام 1843 ضد أهالي كربلاء، تدخل القنصل البريطاني طرفاً لتسوية النزاع. كما تدخل الدبلوماسيون الإنكليز في المشكلة التي تعرض لها الإمام محمد الشيرازي إثناء إقامته في سامراء أواخر القرن التاسع عشر لصالح الشيعة هناك، إلا إن الإمام الشيرازي رفض مقابلة القنصل البريطاني، وبعث له من يبلغه بكلمته وهي "نحن مسلمون فلا حاجة لتدخلكم بيننا"، فرجع القنصل خائباً. (يونس السامرائي، تاريخ سامراء، ص 54)

 

ولكن هذه السياسة (نصرة الإنكليز للشيعة) تغيرت بعد الحرب العالمية الأولى وبعد طرد الأتراك من العراق، حيث برز العرب الشيعة كأكثرية في العراق، و العرب السنة هم الأقلية. لذلك قرر المستعمرون الإنكليز حكم العراق على أساس الطائفية، والاعتماد على الأقلية العربية السنية حيث كانت نسبتهم لمجموع سكان العراق حوالي 19 بالمائة، والشيعة (55%) ونسبة الأكراد 18%. أما مجموع الشعب آنذاك فقد كان =2643000 نسمة، حسب الإحصاء السكاني الذي أجرته الإدارة البريطانية عام 1919. (حسن العلوي، الشيعة والدولة القومية في العراق ص37-38).

 

ولعل أدق إحصائية نشرت عن التوزيع السكاني في العراق هي المستمدة من الإحصاء الرسمي الذي أجرته الحكومة العراقية عام 1947، كما نشرها حنا بطاطو في كتابه الموسوم: (الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية في العراق، النسخة الإنكليزية، ص 40) كما يلي:

 

جدول يبيِّن سكان العراق وتوزيعهم العرقي، والديني، والمذهبي حسب الإحصاء الرسمي الذي أجرته الحكومة العراقية عام 1947، (وقد أهملنا التفاصيل الأخرى عن النسب الموزعة بين الريف والمدينة)*:

السكان                                           عدد النفوس   النسبة المئوية

الشيعة العرب                                    2344000       51.4%

السنة العرب                                     900000          19.7%

السنة الأكراد                                     840000         18.4%

الشيعة الإيرانيون                                52000             1.1%

السنة التركمان                                    50000            1.1%

الشيعة التركمان                                  42000            0.9%

الشيعة الأكراد (الفيلية)                         30000             0.6%

المسيحيون                                       149000          3.1%

اليهود                                              117000         2.6.%

اليزيدية والشبك                                   33000            0.8%

الصابئة                                              7000            0.2%

المجموع                                          4564000        100%                                   

* المصدر:Hanna Batatu, P40, Princeton University Press, New Jersy, 1978  

 

حرب الجهاد

وهناك عامل آخر دفع الإنكليز إلى اضطهاد العرب الشيعة وحرمانهم من التمتع بالحقوق وتكافؤ الفرص في بلادهم، وهو أن المرجعية الشيعية وعشائر الوسط والجنوب قد أعلنوا حرب الجهاد ضد الاحتلال البريطاني، ووقفوا إلى جانب الأتراك دفاعناً عن الدولة الإسلامية في الحرب العالمية الأولى. وهي مفارقة عجيبة أن يدافع الشيعة عن النظام العثماني التركي الذي كان يضطهدهم، ولم يعترف حتى بمذهبهم، بل كان يعتبرهم مرتدين عن الإسلام. وهذه المسألة مهمة تحتاج إلى وقفة لمناقشتها، لإعطاء القارئ الكريم صورة واضحة عنها، وما لها من دور إضافي في اتخاذ الإنكليز موقفاً مناوئاً للشيعة وزرعهم التمييز الطائفي ضدهم فيما بعد، والتي بقيت آثارها المدمرة لحد الآن.

فعند إعلان الحرب العالمية الأولى، قرر الحلفاء، بريطانيا، وفرنسا، وروسيا القيصرية القضاء على الدولة العثمانية (الرجل المريض). وهنا استجابت المرجعية الشيعية إلى فتوى شيخ الإسلام في إسطنبول خيري أفندي، في 7 تشرين الثاني 1914، بالنفير العام للدفاع عن دولة الخلافة الإسلامية. وكان البيان طويلاً جاء فيه: " إن بريطانيا وفرنسا وروسيا تستعبد المسلمين منذ زمن بعيد وتنتهك حرماتهم وهي تبغي إضعاف الخلافة لأنها ركيزة الإسلام ومناط قوته، ولهذا فإن أمير المؤمنين الخليفة يدعو المسلمين جميعاً من غير استثناء إلى الجهاد للدفاع عن قبر النبي  وبيت المقدس وكربلاء والنجف وعاصمة الخلافة. فيا أيها المسلمون من عاد حياً من جهاده نال سعادة كبرى، أما الذي يموت منكم فله أجر الشهادة ويذهب إلى الجنة حسبما وعدنا الله به." (علي الوردي، لمحات اجتماعية، ج4، ص19 نقلاً عن الكاتب التركي،Ahmed Amin (Op.cit.). p174-177)).

 

وقد رافقت هذه الفتاوى حملة دعائية واسعة من قبل الألمان، فكان الدعاة الألمان في البلاد الإسلامية يزعمون أن الشعب الألماني كله قد اعتنق الإسلام، حتى  القيصر غليوم نفسه قد اعتنق الإسلام أيضاً، ولهذا صار القيصر يُعرف بين المسلمين باسم "الحاج غليوم" تارة و "محمد وليم" تارة أخرى. ومحاولة الأوربيين نشر هكذا دعاية والإدعاء باعتناق الإسلام ليست جديدة في مثل هذه الأحوال. فقد فعل ذلك نابليون بونابرت في مصر عندما فتحها في عام 1798 حيث لبس العمامة وتحدث عن رؤيته للنبي محمد في المنام. (تاريخ الجبرتي)

 

وكان الشيخ مهدي الخالصي متحمساً للجهاد، وكتب في ذلك رسالة بعنوان: "الحسام البتار في جهاد الكفار" نشرتها جريدة "صدى الإسلام" على حلقات متتابعة.

وعلى الرغم من العلاقة العدائية بين السلطة العثمانية والطائفة الشيعية، كون المؤسسة الشيعية تاريخياً لا ترتبط بالسلطة كما هو معروف وفقاً لتقاليد الفكر الشيعي، فقد استجاب علماء الشيعة المجتهدون لهذه الفتوى بكل حماس، وأصدروا فتاوى لأبناء العشائر العراقية لإعلان الجهاد ضد المحتلين البريطانيين "الكفار". وكان على رأس المنتفضين للجهاد المجتهد السيد مهدي الحيدري، وهو في الثمانين من العمر، وأولاده الثلاثة وهم السيد عبد الحميد والسيد أحمد والسيد راضي. وجميعهم بدرجة الاجتهاد، وكذلك شيخ الشريعة، والشيخ مهدي الخالصي، والسيد عبد الرزاق الحلو. وقاد هؤلاء الزعماء حرب الجهاد في منطقة القرنة والحويزة. كما قاد الجهاد في منطقة الناصرية والشعيبة الفقيه والشاعر السيد محمد سعيد الحبوبي وهو في السبعين من عمره وكان أمين سره آنذاك السيد محسن الحكيم.

لقد قاد هؤلاء الزعماء الروحانيون أبناء العشائر العربية الشيعية من الوسط والجنوب لخوض حرب غير متكافئة، إذ لم يكن أبناء العشائر عندهم أية خبرة أو تدريب على السلاح، ولا الحكومة التركية جهزتهم بما فيه الكفاية من السلاح والعتاد لمواجهة الجيش البريطاني المحترف والمجهز بأرقى التجهيزات بما يناسب الوقت. وأنّىَ لهؤلاء الزعماء الروحانيين، المتفرغين للعلوم الدينية، والفقه والحلال والحرام أن يواجهوا مثل هذه الحرب ويحققوا النصر على جيش محترف، ليجدوا أنفسهم يقومون بأعمال لم يكونوا مهيئين لها، ألا وهي وظائف الجنرالات العسكرية. ومن الجهة الأخرى، سواء اتفقنا أم لم نتفق مع مبررات الفقهاء لحرب الجهاد، فهذا الموقف يعكس مدى إيمان هؤلاء بعدالة قضيتهم واستعدادهم للشهادة في سبيل الدفاع عن الإسلام. كذلك كان العداء بين الشعب العراقي والدولة التركية مستفحلاً لأربعة قرون بسبب ظلم الدولة لهم. فإذا استجاب أبناء العشائر لفتوى الجهاد، كان ذلك استجابة لعلمائهم المجتهدين وليس حباً بالحكومة التركية، ولا حتى الجيش العثماني كان يمكنه أن يضاهي بقوته وانضباطه وتجهيزاته في العراق الجيش البريطاني.

 

والجدير بالذكر أن رجال الدين السنة في العراق كانوا يتمتعون بنظر ثاقب للمستقبل، واتخذوا الموقف الصائب، فلم يستجيبوا لدعوة الجهاد إلا عدد قليل منهم، أما العدد الأكبر منهم فلم يكتفوا بالقعود عن الجهاد فحسب، وإنما بدؤوا يتصلون برجال الاحتلال البريطاني، عارضين عليهم تأييدهم. فقد عقد اجتماع مهم لهؤلاء العلماء والوجهاء في بغداد بدار عبد الرحمن الكيلاني، نقيب الأشراف، والزعيم الروحي للطائفة القادرية أواخر عام 1915م، واتخذ الاجتماع قراراً مهماً بإرسال تأييد للإنكليز، وعرض المجتمعون تقديم المساعدة للقوات البريطانية. تم هذا الاجتماع عندما كانت القوات البريطانية محاصرة من قبل القوات الإسلامية في حصار الكوت. (حسن العلوي، المصدر السابق، ص 56 عن كتاب وميض عمر نظمي ص111 عن وثيقة بريطانية).

وهكذا واصلت القوات البريطانية زحفها من الفاو ابتداءً من يوم 3 تشرين الأول 1914 شمالاً بقيادة الجنرال طاوزن وبدون مقاومة تذكر حتى ما قبل حصار الكوت. ومن الطرائف التي تذكر أنه في 31  أيار بدأ الهجوم ولأول مرة ظهرت ثلاث طائرات في سماء المعركة تستطلع مواقع الأتراك، فاشتد الرعب في قلوب الأتراك والمجاهدين الذين كانوا يقاتلون معهم. وقد بلغ تأثير الطائرات في نفوس العشائر أنهم أطلقوا عندئذٍ هوستهم المشهورة: "متعجب خالق له بعيرة". (علي الوردي، ج4، ص 161، عن كتاب تحسين العسكري (الثورة العربية الكبرى). بغداد 1936 ج1 ص 70.)

واجه الجيش البريطاني بقيادة طاوزن هزيمة كبرى في قاطع الكوت، حيث تمت محاصرته بناءاً على خطة القائد الألماني (فون در غولتز) الذي أنيطت به قيادة الجيش السادس في العراق. دام الحصار خمسة أشهر انتهت باستسلام القوات البريطانية في الكوت وكانت هزيمة منكرة في تاريخ الجيش البريطاني. ولكن بعد أشهر شنت القوات البريطانية هجوماً كاسحاً أدى إلى احتلال بغداد يوم 11 آذار 1917. وتمت مطاردة القوات التركية حتى أخرجتها من الموصل بعد يوم من إعلان الهدنة مع تركيا في 31 تشرين الأول 1918.

 

وكالعادة في مثل هذه الحالات، أي عند هزيمة نظام وسقوطه، تفشت حالة الفوضى والنهب التي لجأ إليها المجاهدون من أبناء العشائر، ولم يسلم من نهبهم حتى إنهم هجموا على خيمة مجتهد كبير بغية نهبها، وقد أسهب الدكتور الوردي في وصفها. (علي الوردي، لمحات ج4،  ص183.)

 

مناقشة حول حرب الجهاد، وهل كان الجهاد مبرراً؟

لنا أن نتساءل: هل كان الحكم التركي في العراق أو البلاد العربية، يستحق الدفاع عنه؟ وهل كان الاحتلال التركي للعراق يمثل حكماً إسلامياً مشروعاً، خاصة وإنهم كانوا يعتبرون الشيعة من المرتدين عن الإسلام، ومحرومين من أبسط حقوق الإنسان، ناهيك عن حقوق المواطنة؟

في الحقيقة كان هناك عداء متبادل بين الشيعة والحكم التركي ً. فقد سأمت الناس من الظلم والحروب، وكان التجنيد بلاءً، إذ بدأ حتى الجنود الأتراك يفرون من صفوف الجيش منذ أواخر عام 1916. أما الجنود العراقيون فقد سبقوا أولئك بمدة طويلة، أي منذ إعلان النفير العام وظلوا كذلك حتى نهاية الحرب العالمية الأولى… وقد اعتاد العراقيون على معاداة الدولة وهم يعتبرون التجنيد كالضريبة يجب التهرب منه بكل وسيلة تقع في أيديهم. (علي الوردي، لمحات، ج4، ص84).

ولذلك كان الناس يضمرون مشاعر العداء للأتراك بسبب مظالمهم، ولا يرون أي مبرر للدفاع عنهم من الإنكليز، لذلك يقول المؤرخ عباس العزاوي صاحب كتاب: العراق بين إحتلالين: " إن الأهلين صاروا لا يبالون بالهزيمة، وقد نفروا من الحرب العامة. وشاع على لسانهم "سفر علّكْ بدلاً من سفر برلكْ"، أي نفير الهزيمة لا نفير الحرب. وصاروا يذهبون مكبلَّين إلى الجبهات للقتال في صفوف الجيش العثماني" (عباس العزاوي، تاريخ العرق بين الاحتلالين، ج8 ص257.)

 

ما الذي كسبه الشيعة من حرب الجهاد؟

أعتقد إن استجابة رجال الدين الشيعة للجهاد ودفعهم لأبناء العشائر في الحرب على الجيش البريطاني المحتل، لا يخلو من حيرة، وتحتاج إلى إعادة نظر، ومناقشة عقلانية ومنطقية، بعيداً عن العواطف والحماس. فهناك تناقض أوقعت المرجعية الشيعية نفسها فيه، حيث انتفض الشيعة ضد الإنكليز الذين انتصروا لهم في الماضي. فأعلنوا الجهاد ضد الإنكليز دفاعاً عن الدولة العثمانية التي اضطهدتهم لأربعة قرون. وقد أعاد التاريخ نفسه على شكل مأساة عام 2003 عندما قاد السيد مقتدى الصدر، نجل المجتهد الشيعي محمد محمد صادق الصدر، مؤسس جيش المهدي، حرب الجهاد ضد القوات الأمريكية التي أسقطت أبشع نظام عرفه التاريخ في العراق ألا وهو نظام البعث الصدامي الذي قتل والده وأخويه وابن عم والده السيد محمد باقر الصدر وأخته بنت الهدى.

 

وقد ألصق الأتراك عقب هزيمتهم في معركة الشعيبة تهمة الخيانة بالعرب، وألقوا اللوم في هزيمتهم على المجاهدين العرب. ومن هنا جاءت عبارتهم المشهورة التي صار الناس يرددونها بعدهم كثيراً وهي عبارة "عرب خيانت!". لا أدري ماذا كان الأتراك يتوقعون من العرب بعد أن اضطهدوهم لأربعة قرون. وقد جرت في تلك الآونة محاورة عنيفة بين الضابط التركي أحمد بك أوراق  وبدر الرميض رئيس عشيرة بني مالك، فقد قال هذا الضابط بحضور جمع من العشائر: "أننا لو فتحنا الشعيبة والبصرة، علينا واجب ثان وهو فتح العراق وخاصة الفرات أولاً، وعشائر شط دجلة ثانياً، لأنهم خونة". فأجابه بدر الرميض قائلاً: "أنتم الخونة للإسلام! وتحزبكم ضد العرب كان كافياً لمصداق قولي! وأنتم أولى بالحرب والقتال ممن نحارب، ولولا فتوى علمائنا لما وجدتمونا في هذه الساحات التي نقاتل فيها". (علي الوردي، نفس المصدر، ص181-182.)

هذه المحاورة تكشف بوضوح مدى الحقد الذي كان يضمره الأتراك للعرب عموماً، ناهيك عن الشيعة الذين عانوا من ظلمهم بشكل مضاعف، ولم يلتفتوا إليهم إلا عند الحاجة واشتداد الأزمة وتعرض دولتهم للاحتلال البريطاني. ومع ذلك كان العرب قد استخدموا كبش فداء لتبرير هزيمة الأتراك أمام المحتلين، وكان في نيتهم إبادة العرب في حال انتصارهم على الإنكليز. وهذا ما صرح به القائد التركي خليل باشا للورنس إبان حصار الكوت حول تبادل الأسرى. (علي الوردي، نفس المصدر، ص277 عن كتاب  Ronald Miller-Op.cit-.)

 

التقارب الطائفي

رغم ويلات الحرب والكثير من النتائج السلبية التي انتهت إليها حرب الجهاد، إلا إنها لم تخلُ من جوانب إيجابية في التقارب المذهبي بين السنة والشيعة في تلك الفترة التاريخية المهمة التي لو تم استثمارها بحكمة، لكان العراق على غير ما هو عليه الآن، ولتخلص بشكل نهائي من الطائفية وشرورها. فرغم كون حركة الجهاد قد أخذت طابعاً شيعياً، إلا إنه كان هناك عدد غير قليل من رجال الدين السنة والجماهير العربية السنية قد انضمت إليها وبحماس.

فكان هناك تبادل زيارات بين فقهاء المذهبين في العتبات المقدسة. ويعلق الشيخ محمد رضا الشبيبي على ذلك قائلاً: " ولقد كانت زيارة أعلام الشيعة هذه للأعظمية وانبراؤهم فيها لتأليف القلوب أول زيارة في التاريخ وقعت من نوعها بين الفريقين، وقد حفظ لهم الأعظميون هذه اليد وشكروهم على تشريف الأعظمية". (علي الوردي، المصدر السابق)

 

مسؤولية صنع القرار ومسألة الصواب والخطأ

لا شك إن القرارات السياسية والدخول في حرب محسومة النتائج تحتاج إلى سياسيين وعسكريين محترفين لصنعها، ووضع الخطط اللازمة لها. وفقهاء الدين لم يتخصصوا لمثل هذه الأمور كما هو معروف، بل للفقه والأمور الدينية والتدريس والنظر في قضايا الحلال والحرام …الخ، إضافة إلى أنهم كانوا كبار السن، فما هو مدى صواب أو خطأ موقف المرجعية الشيعية في زج أنفسهم وأبناء طائفته في حرب الجهاد ضد الإنكليز؟

إن أقصر جواب على ذلك فيما يخص موقف رجال الدين هو أن الإنكليز في نظر المرجعية "كفار" والدولة التركية "دولة الإسلام" وعليه كان الدفاع عن الدولة الإسلامية هو دفاع عن الإسلام، وهو موقف الالتزام الديني.

فعندما نصدر حكماً على موقف معين، يلزمنا الإنصاف والدقة العلمية بأن نأخذ معايير الزمان بنظر الاعتبار. فلكل زمان معاييره في تقييم الأمور وإصدار الأحكام، وخاصة السياسية منها، وما هو الصحيح والخطأ، والحق والباطل بالنسبة لتلك المرحلة ومقاييسها وظروفها الشائكة آنذاك، فالأمور مقرونة بأوقاتها. 

لذا نهض زعماء الشيعة لنصرة الإسلام خوفاً من احتلال الوطن من قبل جيوش الكفار، ولا يمكن لشعب مسلم أن يحكمه كافر، حسب موقفهم الديني. وهذا الالتزام يتجاوز كل القوانين المنطقية الأخرى التي تعتمدها الأمور السياسية والعسكرية.

ولكن مع ذلك، وحتى لو استخدمنا الموقف الشيعي التقليدي، فالدولة العثمانية لم تكن تعترف بالمذهب الجعفري أصلاً، ولا الشيعة الجعفرية كانت تعترف لسلاطين آل عثمان بحق الخلافة الإسلامية، لأن المذهب الشيعي لا يعترف بالخلافة لغير العرب وفق الحديث المنسوب للنبي محمد: (الخلافة في قريش) إضافة ظلمهم المضاعف للشيعة، فلماذا ينهضون لنصرة دولة ظلمتهم لأربعة قرون ويعلنون الجهاد ضد بريطانيا التي كانت قد ساعدتهم وحمتهم من الاضطهاد التركي في عدة مناسبات قبل الحرب؟ كما وكانت الدولة العثمانية تحرم الشيعة من أموال الأوقاف، وعدم شمولهم بالمنح السلطانية والإقطاعيات.

والأهم من كل ذلك فإن لدى علماء الشيعة سنداً فقهياً واضحاً يبرر قعودهم عن الجهاد لو أرادوا، ألا وهو قاعدة الشيخ طاووس التي تقول: "إن الحاكم الكافر العادل أفضل من الحاكم المسلم الجائر".

ومن ظلم الأتراك للعراقيين، أنهم كانوا يستخدمون طريقة المصادرة للحصول على ما تحتاج إليه قواتهم، بينما كان الإنكليز يدفعون ثمن ما يأخذونه نقداً وبالأسعار التي يفرضها التجار. وقد حدث هذا في منطقة البصرة منذ بداية الحرب، فظهر من جراء ذلك عدد كبير من أغنياء الحرب في العراق. (علي الوردي، لمحات ج4، ص 498.)

فهل نجحت دعوة الجهاد بالقدر الذي توقعه الأتراك والألمان؟ إن أكثر المؤرخين يجيبون بالنفي، وأنها كانت فاشلة. ففي الوقت الذي كان المتوقع فيه أن يثور المسلمون في الهند وغيرها على الحلفاء، رأينا الكثيرين منهم يتطوعون في جيوش الحلفاء، وقد أخلص بعضهم في القتال إلى حد يثير الدهشة.

 

دفاعاً عن حرب الجهاد

يحاول الأستاذ حسن العلوي في كتابه (الشيعة والدولة القومية) الدفاع عن حرب الجهاد على إنها كانت حرب وطنية وقومية وإسلامية. في الحقيقة لم يكن دافع الجهاد وطنياً أو قومياً، بل كان دينياً إسلامياً، لأن في تلك الفترة كان الشعور الوطني والقومي غير واضح المعالم لدى رجال الدين وربما لحد الآن. فالإسلام دين أممي، ولا يعترف بحدود وطنية أو قومية.

كذلك إذا أخذنا الوطنية والقومية في نظر الاعتبار في هذه الحرب، فالعراق والبلدان العربية الأخرى كانت محتلة من قبل دولة أجنبية على أية حال، وهي الدولة العثمانية المتخلفة

التي حكمت الشعوب العربية لأربعة قرون باسم الإسلام، أغرقوها في غياهب ظلمات الجهل والتخلف، ودمروا حضارتها شر تدمير حتى أنهم حاولوا القضاء على اللغة العربية بتبنيهم سياسة تتريك العرب. فهل حقاً دولة كهذه تستحق الدفاع عنها ومن قبل محكوميها العرب ووصف تلك الحرب بأنها كانت بدوافع وطنية وقومية؟ لا أعتقد ذلك. وحتى طرح الدافع الإسلامي كان غير موفقاً، لأن الخلافة الإسلامية التي ادعت بها الدولة التركية كان غير معترف بها من قبل الشيعة ولا الشيعة معترف بهم من قبل الدولة العثمانية، خاصة وأن السلطان سليم الأول، والسلطان مراد الرابع قد استحصلا موافقة من رجال الدين في مرحلة من المراحل في اسطنبول لذبح الشيعة باعتبارهم مرتدين عن الإسلام. فكيف يتفق موقف رجال الدين الشيعة هذا في الدفاع عن الدولة التركية على إنه دفاع عن الإسلام؟؟ ومن هنا أرى أن موقف المرجعية في الدفاع عن الأتراك كان ضد مصلحة أبناء طائفتهم خاصة، والعراق عموماً.

 

والملاحظ أن بعض علماء الشيعة اعتادوا على أخذ مواقف ضج من ينتصر لهم. فبعد خمسة وأربعين عاماً من حرب الجهاد ضد محتل حاول خلاصهم من مضطهديهم، لتساهم مرة أخرى في إسقاط حكومة ثورة 14 تموز بقيادة الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم، التي كانت السلطة الوحيدة التي أنصفت الشيعة في العراق منذ عهد الخليفة العباسي المأمون. فلماذا يقف رجال الدين الشيعة في مثل هذه الأحوال ضد مصالح أبناء طائفتهم؟

وبالعودة إلى الأستاذ حسن العلوي، فإنه يرى في الموقف الشيعي المضاد لمصالح أبناء الطائفة، بأن الشيعة ليسوا طائفيين، فهم ثاروا ضد الإنكليز من منطلق الدفاع عن حكم الأتراك الإسلامي، وضد حكم البريطانيين "الكفار"، فدافعوا عن حكم الأتراك لأنه مسلم رغم طائفية الأتراك ومعاناة الشيعة من التمييز الطائفي. وبذلك أعطوا الأولوية للإسلام على الطائفة.

ويستدرك الأستاذ العلوي قائلاً: "لا ننسى أن التذكير بدور الشيعة في حركة الجهاد، قد لا يأتي بالثناء عليهم دائماً. فهناك مجال واسع للاعتقاد، بأنهم بسطاء ومثاليون ربطوا مصيرهم بمصير دولة مهزومة، كانت مثالاً للجور والاستبداد، وإنهم عاطفيون للغاية، حين استفزهم منظر الجيش غير المسلم الذي غزا أرض الإسلام، مما يعني وقوعهم تحت تأثير ديني قاهر". (حسن العلوي، الشيعة والدولة القومية، ص76.)

أجدني أتفق مع هذا التفسير أكثر من أي تفسير آخر للعلوي، وأرى أن قرار علماء أهل السنة في القعود عن الجهاد، وعدم الدفاع عن دولة خسارتها في الحرب كانت محسومة، رغم الامتيازات التي نالوها من تلك الدولة المنهارة، كان قراراً صائباً وحكيما. وهذا دليل على بعد نظر علماء أهل السنة وحكمتهم في أخذ مواقف تفيدهم وتفيد أبناء طائفتهم في المستقبل، وهذا ما حصل بالضبط.

 

منطق التاريخ و"نتائج غير مقصودة"

ومن جهة أخرى، فمن الصعوبة توجيه حركة التاريخ بالوجهة التي أراد لها صناع التاريخ، إذ يقول الفيلسوف والاقتصادي الاسكتلندي المعروف، آدم سميث في هذا الصدد: "نتائج غير مقصودة لأفعال مقصودة، ولكن في نهاية المطاف تكون في صالح المجتمع".

وهذا ينطبق تماما على حرب الجهاد التي أفتى بها وقادها رجال الدين الشيعة. فهم قادوا هذه الحرب الجهادية لنصرة الإسلام، وضد الاحتلال البريطاني. ولكن هذا الغرض لم يتحقق لأن الحلفاء قد انتصروا وانتهت الدولة العثمانية إلى الأبد، وخضع العراق، كما الأقطار العربية الأخرى، للحلفاء (بريطانيا وفرنسا). ولكن على الرغم من عدم تحقيق الأهداف المرجوة من حرب الجهاد، فقد نجمت عنها "نتائج غير مقصودة" وهي في غاية الأهمية ودون أن يقصدها قادة الجهاد في أول الأمر. فما هي النتائج غير المقصودة من الحرب العالمية الأولى وحرب الجهاد، وما فائدتها للشعب العراقي؟

 

لقد أدت الحرب الجهادية، وبدون وعي أو قصد من قادتها، إلى وضع الخميرة لنشوء الوعي الوطني والقومي، والوحدة الوطنية بين مكونات الشعب العراقي، والذي بدوره أدى فيما بعد إلى اندلاع ثورة العشرين الوطنية وتأسيس الدولة العراقية.

 

ويؤكد الباحث حنا بطاطو هذا الاستنتاج فيقول: " ولكن ما ساهم أكثر من أي شيء آخر في تقدم الشعور الجديد (الوطني) كان الغزو الإنكليزي 114-1918، أو بالأحرى المقاومة التي أثارها هذا الغزو ووصلت الذروة في انتفاضة العام 1920. وللمرة الأولى منذ قرون عديدة تتوحد جهود الشيعة والسنة سياسياً، وعشائر الفرات الأوسط مع سكان بغداد. وأقيمت احتفالات شيعية- سنية مشتركة لا سابق لها. وكانت هذه الاحتفالات دينية في ظاهرها وسياسية في الواقع، حيث أقيمت في كل مساجد الشيعة والسنة بالتناوب، فكانت الموالد النبوية في ذكرى مولد الرسول، وهي احتفالات سنية، تتبع مجالس تعزية لذكرى استشهاد الحسين، وهي احتفالات شيعية. وكانت الطقوس تبلغ ذروتها بخطابات وأشعار سياسية تهدد الإنكليز وتتوعدهم." ويضيف: " إن الثورة المسلحة.. قد أصبحت جزءً من الميثولوجيا الوطنية، وبالتالي عاملاً هاماً في انتشار الوعي الوطني". (حنا بطاطو، تاريخ العراق، الكتاب الأول، ص43 ، نقلاً عن علي البازركان، الوقائع الحقيقية في الثورة العراقية" بغداد 1954، ص 90 و94).

 

وهكذا نجد أن حرب الجهاد أيقظت في العراقيين مشاعر الوطنية، والقومية الكامنة التي حاولت الدولة العثمانية قتلها خلال أربعة قرون من حكمها لهم، فكانت المشاعر إزاء الأتراك قبل الحرب العالمية الأولى قد تكيفت وتآلفت مع الحكم التركي باسم الإسلام والخلافة الإسلامية. فقد حصل نوع من الاندماج وتقبل الحاكم التركي رغم جوره، وكقدر مكتوب لا خلاص ولا مناص منه. فكان شعور العرب إزاء الأتراك على أساس ديني وغير أجنبي. ولكن ما أن تم طرد الأتراك وتواجد على أرض العرب محتلون "كفار" من بلاد غريبة دينياً، وقومياً، وثقافياً، حتى واستيقظ الوعي الوطني والقومي من سباته الطويل، الذي رفض ليس المحتل الأجنبي والإنكليزي "الكافر" فحسب، بل وحتى المحتل السابق (التركي) أيضاً. لذلك يمكن اعتبار حرب الجهاد مرحلة تحريك وتحفيز المشاعر الوطنية لدى الجماهير الشعبية، وإيقاظها من سباتها وبزوغ فجر جديد للنضال الوطني الحقيقي، والعمل على تأسيس الدولة العراقية الحديثة وذلك بالتحضير للثورة ضد الإنكليز، وفي هذه المرة بدوافع وطنية وقومية وإسلامية في نفس الوقت، ألا وهي ثورة العشرين الكبرى التي انطلقت شرارتها في الرميثة في الثلاثين من حزيران عام 1920، وانتشرت كالنار في الهشيم في جميع مناطق الفرات الأوسط خاصة، والعراق عموماً، والتي أرغمت الاحتلال البريطاني على تأسيس الحكم الوطني ومن ثم الدولة العراقية المستقلة، والتي هي موضعنا في الفصل القادم.

ـــــــــــــــــــ

الفصول السابقة:

الطائفية السياسية في العراق (مقدمة: لماذا هذا الكتاب؟)

http://www.abdulkhaliqhussein.com/?news=385

 

الفصل الأول: دور الطائفية في الأزمة العراقية*

http://www.abdulkhaliqhussein.com/news/342.html

 

الفصل الثاني: جذور الانقسام السني – الشيعي في الإسلام*

http://www.abdulkhaliqhussein.com/news/384.html

 

الفصل الثالث: الطائفية في العهد العثماني (الفصل الثالث)

http://www.abdulkhaliqhussein.com/?news=386

 

ـــــــــــــ

العنوان الإلكتروني  Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com

 

 الموقع الشخصي  http://www.abdulkhaliqhussein.com/



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن