دور الفـرد في التاريـخ - عبد الكريم قاسم نموذجاً

عقيل الناصري
akeellof@hotmail.com

2004 / 8 / 20

  { الاستبداد ينفي وعي الذات }       
                     { صناع التاريخ الكبار.. قليلو العدد}
                                                       
                                             { الحرية الحقة- تعني الاستقلال الذاتي للارادة الذاتية}
                
                  { الالتزام الاخلاقي النابع من داخل الانسان يحتاج إلى وعي الذات أي شخصية انسانية متكاملة.}
                                  
                  
                                      " التاريخ ليس مذخر الحاضر حسب، وإنما أيضاً مولد المستقبل [1] "
                                                              جورج بوردو
 
التاريخ.. [2]هو لغة تحديد الزمن، وهو في الوقت نفسه تاريخ البشر الذين يصنعونه. هو نشاط الإنسان الساعي وراء غاياته. وبالتالي فهو علم البشر في الزمان.. علم الماضي وعلم المستقبل والإبداع يمثل روحه. وعند دراستنا للتغيرات الجذرية، كالثورات التي غيرت من مجرى الحياة والتاريخ للعالم أو لمنطقة منه، تقفز إلى الذهن دوما مسألة مهمة، تخص ماهية الدور الذي تضطلع به الشخصيات القيادية في الصيرورة التاريخية لهذا البلد أو ذاك ، لهذه الأمة أو تلك. وتشتق فلسفيا، ضمن سياق هذه المناقشات والسجالات، فكرة دور الإنسان/ الفرد في عملية التغيير لبيئته، لعالمه الذاتي، لتاريخيته ووعيه الاجتماعي بكل أبعاد تجلياته.
طرح الفكر الإنساني هذه الموضوعة على نفسه منذ أمد طويل وتمت معالجتها من مناظر فلسفية متباينة. أننا  ننطلق من تبني فكرة كون التاريخ هو قرين لعملية التغيير. يقول هيغل أن :
 " التاريخ هو عملية تغيير الإنسان لبيئته وأنه حيثما لا يوجد تغيير، فليس ثمة تاريخ ". ترى مِمَ يتألف تاريخ البشرية ؟ هل من أفعال شخصيات منفردة أم من جماهير الشعب؟ أم من كليهما؟ وأين تكمن الكفة الترجيحية لأي منهما؟.
إن فهم التاريخ واستيعابه عملية لا تخلو من الصعوبة، وتنجم صعوبتها من ضرورة أن الفهم " لا ينفصل عن الإقامة في التاريخ وصنعه والذي هو في الوقت نفسه صنع الإنسان لنفسه. وبعبارة أخرى إن صعوبة الفهم تبدأ من لا إمكانية النظر إلى التاريخ من زاوية متجردة كما هو الحال مع الطبيعة مثلاٌ. وبما أن التاريخ هو حصيلة تداخل الذاتي بالموضوعي، المرغوب بالمفروض والخيالي بالواقعي، فقد تعددت زوايا مقاربته: إنه كلية تبحث عن كليتها. تعددت المقاربات تحتمها عوامل نظرية أو أيديولوجية، تعكس الأولى مصالح اجتماعية أو نظرية، سياسية أو خلفيات ثقافية تفسر بالاستناد إليها أحداث الماضي ويعاد تشكيلها من حيث الأهمية والأسبقيات ... أما الثانية أي الاختلافات النظرية، فتفرض نفسها بالدرجة الأولى على المختصين بدراسة التاريخ وتأتي من مناهج البحث كما من المفاهيم [3] " .
لقد اختلف المؤرخون في تحديد علل التاريخ وأرأسيات مسبباته, طالما أن " أبجدية الفهم عندهم ذات ترتيب غير موحد، فمنهم من يقرأ التاريخ كسجل لإرادة الأفراد العظام[4] أو كأثر لعامل واحد، أو غاية نهائية محددة، ومنهم من يرجعه إلى تدخل العناية الإلهية أو يراه، كعملية خطية أو دورانية وبينهم آخرون يفرغونه من المعنى والقوانين. ولكل واحدة من هذه النظرات أو القراءات نقيضها الذي يعد إمساك الصورة بالمقلوب[5] " رغم أن الاختلاف يكمن في الأساس في ذات مفهوم الفرد و ماهيته، في طابعه الاجتماعي وأسنته.
 وتأسيساً على ذلك " لا يوجد ماضي واحد له تاريخ واحد بل ماضي لا متناهي، كل الإمكانيات فيه قادرة على تحويله إلى تاريخ صالح للاستعمال، ما دامت تلك الإمكانيات قادرة على جعل التاريخ يتخذ مسلكاً غير متوقعاً [6] ".
ومن الناحية المنهجية، علينا عند النظر إلى هذه المفاهيم، أن لا ننطلق من مواقع ( يقينية) تامة تنكر الحرية وتخضع العالم للجبرية، وللقوة الماورائية (الميتافيزيقية)، رغم إن إنكار حرية الإرادة لا يؤول دوماً إلى الجبرية، التي كما تبين كثير من الوقائع التاريخية، لم تكن بصورة دائمة معوقة للعمل الدائب في الممارسة، بل أحياناً سيكون "... الأمر على النقيض من ذلك، إذ كانت في بعض المراحل قاعدة سيكولوجية أساسية لمثل ذلك العمل ...[7] " .
 وفي المقابل يجب التمعن في ماهية طبيعة النشاط الإنساني ومدى حرية إرادته ودورها. إذ إن انعدام حرية الإرادة سينعكس في الذهنية الفردية حيث " استحالت التصرف بصورة مغايرة لسلوكه. وتلك حالة فكرية تنطبق عليها بدقة كلمات لوثر الشهيرة:أني أقف هنا ولا أستطيع سوى ذلك، وبفضلها يبدي البشر طاقة هائلة جداً وينجزون المآثر الأبعث على الدهشة... وعليه فالحرية هي مجرد الضرورة التي تحولت إلى الوعي...[8] ". وهي بهذا المعنى تعني تأكيد حقيقة الانسان بوصفه فرداً انسانياً أي تاكيد حقيقة ماهيته، وليس كذات مسخرة أو ذات تابعة تكتسب ماهيتها من تبعيتها. بل إن " كل شيء في الكون يقاس من حيث قيمته بالنسبة إلى الانسان [9] "
بمعنى أخر يجب التأكيد على أن " البشر كائنات فعالة، أنهم يغيرون الظروف التي تجابههم لمصلحتهم بالقدر الذي يستطيعون. تقول الموضوعة الثامنة[10]: (أن الحياة الاجتماعية كلها عملية في الجوهر وكل الأسرار الخفية والغوامض التي تجر النظرية على الصوفية إنما تجد حلها العقلاني في الممارسة الإنسانية وفي تفهم هذه الممارسة).
 لكن الممارسة الإنسانية وحدها ليست غاية، إذ يمكن لمجنون أو طاغية أن يقود الناس في (غابة العمى) إلى الكارثة [11]، حيث عندها يخيم القلق والخوف على حياتهم التي تصبح فقيرة, عقيمة, كريهة, موحشة, قصيرة الأمد ولا تستقيم الحياة السياسية والابداعية فيها, ولذا فهي لا تنتج حضارة ولا معرفة ولا ثقافة[12]. وبالتالي ينطبق عليه قول أفلاطون "الطاغية شخص كتب عليه أن يأكل اولاده ". كما أن ممارسته للسلطة يتسم بالتناقض.. إذ غالباً ما تكون كثير من قرارته مبنية على المزاجية و الانفعال, اللذان هما بطبيعتهما وقتيان ومتقلبان, وقد يكون القرار بالغ الخطورة لانه يمس مصائر بشرية. ولأنه عندما يحكم يذهب بعيداً في حكمه أبعد من أن يعالج الازمات التي فرضتها الحياة  وتاريخ العراق البعيد والقريب مملوء بالامثلة الدالة على الطغيان والقليل منها نقيضها.. وكان قاسم أحد هذه القلة.
 لذا يجب أن تكون " الممارسة مدركة: والإدراك هو وظيفة الفلسفة الثورية. وهذه الفلسفة لا تنطلق من جملة مقولات ولا من المبادئ العامة العريضة، بل من البشر. إنها تتفحص ما يفعلون، وتتساءل لماذا يفعلون ما يفعلون ولأي غرض وبأي دافع، إنها تعلم البشر ما يفعلون، أي أنها تتعلم من الممارسة لتعلم الممارسة فتصبح إدراكاً للذات [13] ".
للفعل البشري خاصية تكمن في كونه لا يقع في عداد الشروط التي لابد من توفرها في الفعل الطبيعي مثل خسوف الشمس والمد والجزر والزلازل والهزات الارضية، التي ستقع دون تدخل البشر أو أي عون من جانبهم. إن الإنسان يرى في افعاله مصبوغة بالضرورة في نظره, وبالتالي سيحاول البرهنة على قوة إرادته المشابه بقوة عناصر الطبيعة .
 كما أن العلاقة المتبادلة بين الفرد والمجتمع تختلف من فنرة تاريخية إلى أخرى، ولذلك لا يوجد شيء مجرد اسمه " المجتمع" بوجه عام وكذلك لا يوجد شيء مجرد اسمه " فرد "، طالما أنه دائماً نتاج نظام اجتماعي محدد تاريخياً أي أن الفرد هو كائن بشري بصفاته العقلية والاتفعالية والارادية المحددة اجنماعيا والمعبر عنها فردياً. والرابطة المتبادلة بين الفرد والمجتمع تميزها الرابطة الطبيعية بين المصالح الفردية والاجتماعية والانسجام بين هذه المصالح. طالما أن الفرد هو بعبارة أخرى يمثل المجمل الكلي للعلاقات الاجتماعية.
ويلعب عامل الحرية دوراً مهماً في تقرير الإرادة. والحرية هي على الدوام حرية من شيء ما، وستكون لا معنى لها إذا لم تكن، أو تعتقد على الأقل، بأنها النقيض من الإكراه – أي الإكراه الخارجي المفروض .. وهذا ما يطلق عليه بالحرية الصغرى، وهي الأساس في فهم الحرية الكبرى والتي تعني إدراك الضرورة. فمثلاً الرأسمالية، وخاصة في مراحلها الحالية، تقود في سياق تطورها إلى إنكار الخاص بالنسبة للأفراد وعدم تحقيق مثلهم العليا. هذه تمثل ضرورة تاريخية، أي أن الفرد يصبح من حيث هو أداة لتلك الضرورة ولكنه نظراً لأن وضعه الاجتماعي أنتج تكويناً خاصاً من تكوين أخر، فأنه لا يخدم فحسب من حيث هو أداة للضرورة ولا يستطيع أن يفعل ذلك، بل هو يرغب في ذلك باندفاع .. ولا يستطيع أن يكون شعاره مغاير لذلك. وهذه إحدى مظاهر الحرية.
إن مفهوم العلاقة بين الضرورة والحرية تعبران في جوهرهما عن العلاقة بين نشاط الناس والقوانين الموضوعية للطبيعة والمجتمع، على اساس تفاعلهما وتداخلهما الجدلي. وإن حل هذه العلاقة يقوم  "  على اساس تبين الضرورة الموضوعية بإعتبارها أولية بالمعنى المعرفي (الابستمولوجي) وبإعتبار ارادة الانسان ووعيه ثانويين مشتقين من الضرورة. والضرورة توجد في الطبيعة والمجتمع على شكل قوانين موضوعية... وكلما ازداد الانسان عمقاً في ادراك القوانين الموضوعية كلما ازداد نشاطه حرية ووعياً. والحد من الحرية الانسانية إنما يحدده اعتماد حرية الناس لا على الطبيعة فحسب، بل على القوى الاجتماعية التي تسودهم [14] ".
 " بمعنى أنها حرية نشأت عن الضرورة، في الوقت ذاته أنها أصبحت واحدة مع الضرورة. أنها الضرورة التي تحولت إلى حرية, ولا تصبح الضرورة حرية لأنها تلاشت، بل هي لا تصبح كذلك إلا لأن هويتها الكامنة قد تظاهرت. مثل هذه الحرية هي أيضاً حرية فيها درجة معينة من الإكراه، كما أنها النقيض من درجة معينة من التقيد.. والذي يعنى به هو الإكراه المعنوي الذي يشل طاقة الذاتيين الذين لم ينفصلوا عن الازدواجية، وهو ذات الإكراه الذي يسبب الألم للعاجزين عن ردم الهوة الفاصلة بين المثل العليا والواقع. وحالما يطرح الفرد نير ذلك القيد الأليم، فإنه يولد لحياة جديدة ومليئة وغير مألوفة لديه. وتصبح نشاطاته الحرة بمثابة التعبير الواعي والحر عن الضرورة، بمعنى ليست الحرية شيئاً سوى تأكيد الذات.. عندئذ يصبح الفرد قوة اجتماعية كبيرة[15] ".
بمعنى آخر إن الحرية الحقيقية تعني الاستقلال الذاتي أو " هي التحديد – الذاتي Self- Determination  أي أن يحدد الفرد نفسه بنفسه, فلا يكون مقيداً إلا بذاته ولا يطيع إلا ذاته العاقلة وحدها, وأن يسلك بناء على قواعد عامة يضعها لنفسه بإعتباره موجوداً عاقلاً تلك هي الحرية الحقة التي تعني الاستقلال الذاتي Autonomy للارادة الفردية  [16]".
ومن زاوية أخرى فإن وعي الضرورة المطلقة لظاهرة ما لا يمكن إلا أن " يشد من طاقة الإنسان المتعاطف مع هذه الظاهرة ويعتبر نفسه إحدى القوى التي كانت سبباً في قيامها. ويبرهن مثل هذا الإنسان الواعي لضرورتها، على جهل بالحساب إذا جلس هو مكتوف الذراعين ولم يفعل شيء[17] ".
وقبل الخوض في دور الفرد في التاريخ يمكن أن يُطرح ما له علاقة بصيرورة العملية التاريخية ذاتها، ترى هل هي نتاج لسلسلة مصادفات، أم أنها تخضع لسنن وقوانين عامة؟ يشكل هذا التساؤل بحد ذاته موقفاً تناقضياً. لأن التبني الأحادي الصرف سيقود هنا إما إلى الجبرية أو إلى العبثية. إذ أن إلغاء ما يحتويه كل جانب من ذرى الحقيقة الكامنة فيها، فهذا يعني أما تماهي العام في الخاص أو بالعكس تماهي الخاص بالعام.
 لقد سار على هدى هذا المنهج أغلب المؤرخين " ابتداءً من مؤرخي الماضي القديم- من هيرودوتس (أبي التاريخ)... وانتهاء ببعض المؤرخين المعاصرين... وقد تجسد هذا الموقف بأسطع صوره في نتاج الفيلسوف والكاتب والمؤرخ الانكليزي كارليل الذي كان يرى في التاريخ العالمي هو في جوهره تاريخ الرجال الأعاظم. وكان يعتبر أفعالهم روح التاريخ العالمي ويعتبر أمراً طبيعياً وجود (الهوة) بين الزعيم الهمام والجمهور الجبان الأعمى، حيث يعتبر تفوق البعض على سواهم نتيجة لتفوق الأبطال معنوياً وعقلياً... [18] ".
 وطور هذه الفكرة لاحقا الشاعر والفيلسوف الألماني نيتشة مؤسس نظرية (التفوق) وعبادة الشخصية الكاريزمية (الصمدانية[19]) النخبوية والتي وجدت صداها الانعكاسي، بهذه الدرجة أو تلك، في العديد من المدارس الفلسفية المعاصرة، والمثالية منها خاصة.[20]
وبالضد من هذه النظرة، فإن النظرية المادية عن التاريخ تفسح المجال عن فسحة للخاص ضمن  سيرورة القانون العام، أي أنها أعطت دوراً ومكانةً للطبيعة البشرية في صيرورة العملية التاريخية، وذلك عندما ترسم أهمية للعلاقة الجدلية بين كل الجانبين من الموضوع والذات واللذان يعتبران وحدة واحدة. فالذات تصبح موضوعاً في جانب أخر وبالتالي فهي تخضع لنظم وقواعد موضوعية.. وتبعاً لذلك لا توجد هوة فاصلة بين الذات والموضوع من حيث المبدأ. إذ يقوم تفاعلهما الجدلي على أساس الممارسة التاريخية/الاجتماعية للإنسان والتي هي وحدها تعطينا مفتاح لمعرفة نشاط الذات المعرفي.
 وهذا " يعني أن الإنسان لا يصبح ذاتاً إلا في التاريخ وفي المجتمع.. ولهذا السبب فهو ليس فرداً مجرداً، وإنما هو موجود اجتماعي، كل قدراته وإمكانياته تشكلها الممارسة ..." الواعية والعضوية  الفعالة " ... ومع ذلك فإن الإنسان/باعتباره القوة الايجابية في التفاعل بين الذات والموضوع- يعتمد على الموضوع في نشاطه. لأن الموضوع يضع حدوداً معينة لحرية الذات في الحركة... ونشاط الذات مشروط موضوعياً- أيضاً- بحاجاته وبمستوى الانتاج. والإنسان- في اعتماده على هذا، وأيضاً على مستوى المعرفة بالقوانين الموضوعية – يحدد لنفسه أهدافاً واعية، يطرأ نتيجة لبلوغه إياه تغيرعلى الموضوع والذات على السواء.ومع تطور المجتمع تلعب العوامل الذاتية دوراً يزداد كبراً باطراد ...[21] ".  
 لكن في الوقت نفسه لا يمكن اعتبار الطبيعة البشرية " السبب الأولي والأعم للتطور التاريخي، فإذا كانت هي ثابتة، عجزت عن تفسير المجرى المتغير جداً للتاريخ، وإذا كانت هي متغيرة، فمن الواضح أن تغيراتها بالذات رهن بالتطور التاريخي. ولابد لنا في الوقت الحاضر أن ننظر إلى تطور القوى المنتجة[22] من حيث هي السبب الأولي والأعم لحركة الجنس البشري التاريخية، وتطور القوى المنتجة هو الذي يقرر التبدلات المتتالية في علاقات البشر الاجتماعية. وأن أسباباً خاصة تعمل بصورة موازية لهذا السبب العام، ونقصد بها الأوضاع التاريخية التي يجري فيها تطور القوى المنتجة لشعب ما، والتي يخلقها بدورها في آخر الأمر تطور القوى نفسها عند الشعوب الأخرى، يعني السبب الشامل نفسه[23] ".
وتأسيساً على ذلك يجب عدم المبالغة في دور الفرد في التاريخ، وإعطاءه دوراً مطلقا فيه والانقياد الاعمى لسلطته وسطوته والمبالغة في مزاياه الفعلية. وفي الوقت نفسه يجب رفض التطرف المنادي باعتبار الفرد كمية مهملة والقائد ليس سوى لقب يعطى للأحداث، طالما أنه يمكن أن يكون قوة اجتماعية إذا تهيأت الظروف الملائمة له، من خلال التحكم بالطبيعة وباستعمال عقله.
ومن الضروري التفرقة بين دور الفرد/ القائد المستجيب للضرورة التاريخية وشخصية الفرد/ القائد الطاغية المغتصب للسلطة بالمؤامرات والذي لا يعبر في الجوهر إلا عن ذاتيته المفرطة, التي لا  حدود لسلطتها بإعتبار أن ما يقوله هو القانون, وهو لا يخضع للمُسائلة ولا المحاسبة و" يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم, ويحاكمهم بهواه لا بشريعتهم, ويعلم من نفسه أنه الغاصب والمعتدي , فيضع كعب رجله في أفواه ملايين من الناس لسدها عن النطق بالحق والتداعب لمطالبته  [24] ". بمعنى هنا " تحول الطاغية إلى ذئب ", كما يقول أفلاطون.[25] ويتحول الفعل الثقافي إلى حالة الخضوع والهيمنة الاحادية الجانب وتقوم على  مبدأين هما "مبدأ عبادة الفرد المستبد ومبدأ عبادة الثابت المألوف [26] " وتكون السلطة ذئبوية والثقافة ببغائية ومنطقها الداخلي الصمت والسكوت.
 ينصب الكلام هنا ليس عن فرد مجرد، بل عن كائن بشري بصفاته العقلية والانفعالية والإرادية المحددة اجتماعياً والمعبر عنها فردياً. أي فرد ينتمي إلى شكل اجتماعي محدد، ويعكس المجمل الكلي للعلاقات الاجتماعية، ومضمونه يتحدد في نهاية المطاف بالنظام المعين تاريخياً للمجتمع وماهية قانونه الأساسي. لأن بعض المفكرين رأوا في الفردية القوة المحركة الرئيسية و(الوحيدة تقريباً) للتطور التاريخي، ويعتقدون أن سير التاريخ تحدده رغبات وإرادات الرجال العظام وقدرتهم على التحكم بموجب إرادتهم الخاصة.. أكثر مما تحدده القوانين الموضوعية ونشاط الناس الاجتماعي.
إن هذا الرأي، حسب اعتقادنا، متحيز ومتطرف في الوقت ذاته, " لأن الفرد بدون مقدمات اجتماعية لا يمكن أن يخلق الأحداث، والكبرى على وجه الخصوص، طالما أن الظروف التاريخية الشاملة أقوى من قدرة أكثر الأفراد بأساً. والرجل العظيم يستنبط ذاته من طبيعة عصره وأنه مهما بالغ لم يكن ولن يكن قط من أصحاب الجبروت المطلق...[27] ".
 ومن هنا فالفرد ليس (أنا) معزولة.. لكنها مشروطة بشروط مادية واجتماعية. لأن " كل ما نؤكده هو أن الصفات الذهنية والخلقية لرجل يلعب في الحياة العامة دوراً أعظم أو أقل- مواهبه, ومعرفته, وحزمه أو تردده, وشجاعته أو جبنه, وقس على ذلك- لا يمكن إلا أن يكون لها أثر بالغ في مجرى الاحداث ونتائجها, ومع ذلك فإن هذه الصفات لا تجد تفسيرها في القوانين العامة لتطور الأمة حسب, بل هي تتطور دائماً وحتى درجة كبيرة جداً تحت زخم ما يمكن تسميته مصادفات الحياة الخاصة[28]".( التوكيدات منا – ع.ن).
لكن في الوقت نفسه، يجب عدم المبالغة في الاتجاه الذي يمنح القوة لقوانين التطور الاجتماعي العامة وعدم الإقرار المطلق بالعنصر البشري (الخاص) وأهميته وإرجاع مضامينها فقط لفعل القوانين العامة. إذ يستطيع أي قائد/زعيم في اتخاذ قرار مباغت، والذي يظهر في الغالب بدون مسببات منطقية أو معقولة، بإرادته الذاتية ويؤثر في مجرى الأحداث التاريخية بقوة كبيرة تغيير من مجراها العام، يقول براند رسل:
 " إن وقوع هنري الثامن في حب آنا بولين هو الذي أوجد الولايات المتحدة الأمريكية، لأنه أدى إلى القطيعة بين الفاتيكان وانكلترة بسبب تحول الأخيرة إلى البروتستانتية، ومن ثم عدم اعترافها بقرار بابا روما تسليم أمريكا إلى البرتغال وإسبانيا [29] ".
وينطبق هذا إلى حدٍ بعيد على دور الراهب راسبوتين في تاريخ روسيا القيصرية, الذي غير من مجراها العام وسرع في سقوطها، بالتظافر مع العوامل الاخرى. وكذلك ينطبق على الثورة الفرنسية العظمى إذ أن حصيلتها لم تقرره سيرورة السياق العام لمجراها الذي وصلت إليه وجاءت في أذيالها، بل ظواهر صغرى عديدة وهي كذلك لا تنتسب في خاصيتها إلى مقولة الظواهر الاجتماعية .
 وتأسيساً على ذلك فيمكننا القول إن مواهب الفرد وجملة السجايا الملازمة له وصفاته الذهنية وتركيبته السيكولوجية، سيكون لها أثر بالغ في مجرى الأحداث وعواقبها.[30] ربما هذه الصفات لا نجد لها تفسيراً في قوانين التطور العامة. ومع ذلك فإن هذا الأمر مناط في المطاف الأخير بالشروط الاجتماعية ومعطياتها.
 إن القادة " قادرون على التأثير في مصير المجتمع بفضل بعض السمات المحددة في طبيعتهم. كما أن تأثيرهم بالغ في بعض الأحيان. لكن إمكانية ممارسته ومداه يتحددان بفعل التنظيم الاجتماعي وحالة القوى. فليس خلق الفرد (مثلا) عاملاً في التطور الاجتماعي إلا حين تسمح به العلاقات الاجتماعية وحيث تسمح به وبقدر ما تسمح به. ورب قائل لنا أن مدى التأثير الشخصي يتوقف على المواهب الفرد أيضاً.. إننا نوافق على ذلك غير أن الفرد لا يستطيع أن يبرهن على مواهبه إلا حين يشغل مركزاً مناسباً في المجتمع. وبالتالي فالتنظيم الاجتماعي للبلد هو الذي يقرر في أية مرحلة معينة دور الافراد الموهوبين أو العاجزين وبالتالي ما يتصفون به من أهمية تاريخية.[31] " لأن الصفات الشخصية للقادة تُقرر الصفات الفردية للاحداث التاريخية.
ولكن  لابد من تحقيق شرطين كيما يكسب رجل ذو موهبة خصوصية نفوذا كبيرا على مجرى الاحداث.
" أولاً: يجب أن تجعله هذه الموهبة أفضل ملاءمة من أي امرئ آخر للحاجات الاجتماعية لعصر معين, فلو كان نابليون يملك موهبة بتهوفن الموسيقية بدلاً من عبقريته العسكرية الخاصة, لما أصبح بالطبع امبراطوراً.
ثاتياً: يجب ألا يسد النظام الاجتماعي القائم الطريق أمام شخص يملك الموهبة الضرورية والنافعة في ذلك الزمن المعين [32] ".
 على هذا المنوال دخلت التاريخ شخصيات أثرت في مجالات الحياة مثل: يوليوس قيصر وجنكيز خان، كرومويل ونابليون، وغيرهم.. لكن من كان قيصر لولا الفيلقيون المحاربون معه.. ومن هو جنكيز خان لولا عساكره، وكذلك كرومويل ونابليون لولا الفرسان بالنسبة للأول والجنود للثاني. وهكذا دواليك يمكن الدخول إلى الأغلبية المطلقة من القادة العظام. بمعنى أخر لا يجوز اعتبار الشخصية العظيمة بديلا للمجتمع، هذا الأمر غير مشروع وخال من المنطقية.
النظرة الموضوعية تلزمنا بعدم تناسي تأثير دور الشخصية[33] كما لا تجوز الانتقاص من دور الجماهير الشعبية في التاريخ، وبالنتيجة يمكن مقارنة دور الشخصية العظيمة بمثابة الشرارة التي تفجر الاحتقان في المنعطفات الحاسمة. ومع ذلك يبقى كل ذلك مرتبط بالصفة الاجتماعية للفرد – أي باكتسابه السجايا الإنسانية الخالصة من مصدريها:
-      الاجتماعي العام مثل القادرة على العمل والتفكير ... الخ
-  ومن السجايا الفردية التي تلازمه وحده وتميز شخصيته. وبالاشتراك مع تلك المستنبطة من الجماعة التي ينتمي إليها كالأمة، الطبقة، القبيلة، الحزب والطائفة..الخ.
وعند البحث في عناصر السلطة[34]، بالمفهوم العام, والتي تعني الخضوع لإرادة الآخرين، لدى القادة والنخب السياسية في الوقت الراهن، فيلاحظ عملياً أنها تتكون وتتبلور مكوناتها بالاساس من ثلاثة مصادر أراسية تتفاعل فيما بينها جدليا.وهي غالباً ما تختبئ خلف الادوات الداعمة لها وتلك المشتقة منها، هذه المصادر هي :
-       الشخصية ومقوماتها؛[35]
-       الملكية والثروة؛[36]
-       التنظيم، الرسمي واللارسمي.
وعلى العموم تظهر هذه المصادر بصورة متداخلة بعضها بالبعض الآخر وفي الغالب متحدة بشكل دائم، خاصةً في المجتمعات المتبلورة طبقياً. فالشخصية ومقومات الزعامة تتعزز أكثر فأكثر بالثروة والملكية والمقدرة المالية الداعمة والعكس بالعكس. وذات الشيء ينطبق على السلطة المستمدة مقوماتها من التنظيم وفعاليته (بغض النظر عن شكل تواجده وتطوره وسعة انتشاره وشكله الاجتماعي ودرجة حداثته وديمومته)، والتي ستتعزز مكانتها من خلال قوة وجاذبية الشخصية القيادية فيها، أو/و مع مصادر تمويل التنظيم. وستزداد مصادر القوة والسلطة فعاليةً إذا ارتبطت المصادر الثلاثة بعضها بالآخر.
وبالرغم من الدور المستقل النسبي لكل مصدر في تعزيز السلطة، إلا أنه يرتبط بطبيعة النظام الاجتماعي وماهية السطة فيه.. إن كانت علاقات السلطة الرئيسية تناحرية أم غير تناحرية، تعاضدية/ تكافلية أم قسرية/ دكتاتورية.. وكذلك حسب نوعية اسلوب الانتاج ودرجة تطور القوى المنتجة.. حيث سيتحدد على نوعهما وطبيعتها كيفية ممارسة السلطة نوعا وشكلا. فالنظام السياسي الذي " يشكل نمطاً مستمراً من العلاقات البشرية, فهو يتضمن, إلى حدود واسعة, الرقابة control والسلطة authority أو القوة  powerبالإضافة إلى مسألة التأثير في هذه السلطة أو القوة . وهناك عموماً حدود متباينة لدرجة تأثير الأفراد (والجماعات) في النظام السياسي نتيجة التباين في امتلاكهم الموارد السياسية, متمثلة في: الثروة والدخل, المنزلة الاجتماعية, العلافات ( بما في ذلك رابطة الدم/ النسب: اللأسرية, العشائرية, القبلية), المغلومات, القدرة على الترغيب والترهيب. علاوة على اختلاف امتلاكهم للمهارات والكفاءات التي يستخدم الأفراد من خلالها مواردهم السياسية, وتجد جذورها في اختلاف الهبات الطبيعية والفرص الاجتماعية والحوافز والبواعث والمواهب والقدرات على تعلم وممارسة المهارات السياسية. ولأخيراً, حجم الموارد التي يستخدمها الأفراد للأغراض السياسية. وتتوزع النوارد السياسية على نحو متباين في المجتمع نتيجة عوامل تقدمها: سوء توزيع الثروة والدخل, اختلافات وراثية, عوامل بيولوجية واجتماعية متوارثة ومكتسبة جنباً إلى جنب مع الاحتلاف في الخبرات والتجارب والمهارات, تباين التخصص الوظيفي, وغيرها  ".[37]  
ويمكننا أن نضيف إلى ذلك, درجة التحضر في ممارسات تجليات الوعي الاجتماعي:(الفلسفي والجمالي والحقوقي والسياسي والديني)، التي ستلعب دورا في نشوء المؤسسات الرقابية المتمثلة بمؤسسات المجتمع المدني المستقلة عن سيطرة الدولة، وبالتالي تحدد شكل ومضمون، كيفية ونوعية ممارسة السلطة .
يعطينا التاريخ الانساني كثير من الاشكال لتلك العلاقة القائمة بين قوة الشخصية والسلطة.. فهناك زعماء وقادة اغتصبوا السلطة ومارسوها بصورة مطلقة بفضل قوتهم الجسمانية، أو بسبب ما لهم من قوة مادية أو ما يتمتعون من شجاعة. في حين استولوا عليها أخرين بفضل مواهبهم وكفاءاتهم وقدرتهم على الاقناع وتغيير أراء الناس، ساعدتهم في ذلك قنوات عديدة كانت بمثابة حلقة الوصل بينهم وبين الناس، مثل: المؤسسات الاجتماعية أو/و الدينية أو/و السياسية، المستقلة عن السلطة ذاتها أو متداخلة معها.
تتفرع المصادر الأرأسية للسلطة، المذكورة أعلاه، بدورها إلى فروع رئيسية مشتقة منها، تتباين اشكالها حسب: طبيعة الظروف الزمانية/المكانية والاجتماعية الحسية السائدة في البلد ودرجة تطورها؛ والسلطة ذاتها وتبلورها؛ وجغرافية البلد ومكانته واستراتيجية موقعه؛ والتي على ضوءها يتحدد شكل وقوة تأثير السلطة وكيفية استخدامها.. بمعنى آخر إن هذه المصادر ليست متساوية في التأثير، كما أنها تتغيير من مرحلة لإخرى.
وعوداً لتاريخ العراق المعاصر وإستقراءً لمصادر السلطة السياسية فيه وتحليل واقعها، فيمكننا أن نصنف، على سبيل المثال المقارن، مصادر السلطة للنخبة السياسية التي حكمت آبان المرحلة الملكية، في مجموعة من المصادر، امتلك عضو النخبة بعضٌ منها مما أهلته إلىالولوج في دهاليز السلطة، وإن تباينت قوتها التأثيرية من عضوٍ لآخر. وبالاجمال تمثلت هذه المصادر في:
-       قوى الاحتلال البريطاني في البدء ومن ثم بالسفارة البريطانية لاحقاً؛
-       مؤسسة العرش ؛
-       رابطة الدم ( العلاقات القبلية - العشائرية والأسرية)؛
-        التصرف بوسائل العنف المادي (المؤسسة العسكرية)؛
-        الملكية والثروة؛
-       الروابط الشللية والعصبوية؛
-       الشهرة والوجاهة الاجتماعية؛
-       الكفاءة والمقدرة الشخصية؛
-  التنظيمات الاجتماعية، القديمة منها والحديثة.
لقد كانت المصادر الستة الأولى من أهم مصادر السلطة لدى النخبة الاوليغاركية الضيقة [38] التي حكمت في المرحلة الملكية والتي كانت نواتها المركزية أغلبهم من ذوي الاصول العسكرية من المرحلة الغثمانية، بينما لعبت العوامل الآخرى أدواراً ثانوية مكملة، تغير موقعها مع تطور مركزية الدولة.
 لقد كان اعضاء النخبة السياسية يستبدلون مصادر قوتهم ويراكموها حسب طبيعة الفنرة الزمنية وطبيعة الصراع الاجتماعي بين اعضاء النخبة انفسهم أو بينهم وبين القوى الاجتماعية المعارضة.
لقد تغيرت مصادر سلطة أعضاء النخبة الحاكمة في مرحلة الجمهورية الأولى ( 14 تموز1958شباط 1963)، وأعطيت الاهمية للعناصر الاربعة الاخيرة مضافاً إليها بعض من تلك المصادر المشتقة من طبيعة نظام الحكم الجديد ومن طبقية دور الفئات الوسطى الحاكمة بتزامنها مع واقع العصر وروحه وتطلعها المستقبلي.
في الوقت نفسه أُبعدت المصادر المعتمدة على الولاءات الدنيا وما يتعلق بالمتخلف من الارث التقليدي.. والأهم هو النفي التام لدور العامل الخارجي المتمثل في بريطانيا ودورها كمصدر قوة  لتعضيد اعضاء النخبة الحاكمة. لقد اعتمدت الثورة نقيض هذا العامل.. إذ مثل النضال ضد القوى الاجنبية أحد أهم مصادر السلطة الجديدة ونخبتها السياسية.. لذا كانت مصادر قوة النخبة السياسية لمرحلة تموز/ قاسم قد اختلفت في منطلقاتها الاساسية عن تلك التي سادت قبلها وبعدها.
ولأجل فهم دور الزعيم قاسم، كقائد عضوي لصيرورة العملية الاجتماعية، سنحاول ان نقارن مقومات سلطته مع رجل السلطة الملكية الأول.. الفريق نوري سعيد الذي استمد مصادر سلطته بالاساس من :
-       دعم قوى الاحتلال الاجنبي منذ العمل معهم عام 1916، ضمن الجيش العربي في سوريا؛
-       تصرفه بوسائل العنف المادي باعتباره ضابطاً عسكرياً محترفاً ووزيراً مدمناً للدفاع؛
-       مساندة مؤسسة العرش له؛
-       مقومات شخصيته وخبرته المستمدة من خدمته العسكرية في الجيش العثماني؛
-       الشللية والمصاهرة التي نسجها بالاساس مع ذوي الاصول العسكرية والطاقم الاداري؛
-  العلاقات التي أقامها مع القوى الاجتماعية التقليدية التي مثلت قاعدة الحكم الملكي؛
-       ممارسته الطويلة جداً للسلطة السياسية [39]؛
-       مساندة قيادة المؤسسة العسكرية له.
اما بالنسبة لعبد الكريم قاسم، فقد كان التأييد الشعبي له يمثل أهم مصدر من مصادر سلطته حتى أنه لحد هذا اليوم " يعترف غير قليل من اولئك الذين وقفوا ضده في تلك الساعة بأن عامة الشعب كانت تكن له حباً مخلصاً يفوق حبها لأي حاكم آخر في تاريخ العراق الحديث [40] "، لأن " عبد الكريم قاسم، على الأقل أنقذ العراق من أن يكون أداة سالبة في أيدي القوى الخارجية. وأنه وبطريق قويم جداً، وسع في بعض الأحيان، وإن يكن لحد محدود، في حرية التعبير أكثر مما فعله أسلافه. ومع الأخذ بالاعتبار كل ما يتردد من المآخذ على عهد قاسم، فالثابت أننا سنسمع العراقيين وإلى سنين عديدة مقبلة كثيرة، يقارنون عهد قاسم بما جاء بعده من عهود مقارنة تنتهي لمصلحته هو لا مصلحتها [41] ".
هذا المصدر الأرأس لسلطة عبد الكريم قاسم مشتق من:
-       دوره في تأسيس اللحظة التاريخية الخاصة  بتطور العراق والانتقال به على طريق الحداثة؛
-       مما فرضته عملية الصراع الاجتماعي ليلعب الدور الحيوي النشيط بين الطبقات؛
-        من المنجز المتحقق لصيرورات التقدم الاجتماعي بكل ابعاده ومضامينه؛
-       طبيعة وشكل الحكم وقاعدته الاجتماعية؛
-       المضامين الاجتماعية- الاقتصادية لسلطة الجمهورية الأولى؛
-       أسس إدارة الدولة وآلياتها وتوازناتها السياسية الدقيقة؛
-       توسيع  القاعدة الاجتماعية المشاركة في القرارات المركزية للدولة؛
-       تبني مطالب الاغلبية الشعبية من الفقراء والمعدمين ومن ذوي الدخول المنخفضة؛
-        الربط الجدلي بين النزعتين الوطنية - العراقية والقومية - العربية....الخ [42]
في حين لم تمثل مصادر السلطة الآخرى.. سوى عوامل ثانوية ساعدت بدورها في تقوية مركز سلطته السياسية مثل :
-       كفاءته وقدراته المهنية والسياسية؛
-       الجماهير الشعبية؛
-       ديناميكة السلطة السياسية.
لقد تخلفت مصادر السلطة الاخرى لدى قاسم والمتمحورة حول الثروة والملكية أو الاعتماد على الروابط الشللية أو رابطة الدم وعلاقاتها المتشعبة أو من التنظيمات الحزبية الضيقة في اعتماده على قوى العنف المنظم أو القوى الخارجية.. والتي برزت بقوة في كل القيادات السياسية التي جاءت من بعده، والتي أعتمد أغلبها على هذه الغناصر التي لم تستطع بجزءيتها ان تستوعب واقع العراق بشموليته، ولذا اعتمدت على العنف المنظم – المادي والمعنوي- وبكل تجلياته.
 وهكذا وبالمقارنة، يتجلى دور الزعيم قاسم كقيادة بارزة، لعبت دورا في مسارات المجتمع العراقي الارتقائية. وعليه سيصعب تحديد شخصية الزعيم قاسم .. لكونها لا تعرف إلا بآثارها. كما أنه من الصعب تحديدها إلى عناصرها الأولية خوفاً من فقدانها لارتباطاتها العضوية وقيمتها الكلية. فهي كالمركب الكيميائي يحتوي على صفات خاصة به تختلف عن صفات العناصر المكونة لها كل الاختلاف، ما بالك عن صفات العناصر الآخرى .
لقد تجلت هذه الصفات في واقعية مضامين برنامجية قاسم والتي انطلقت من قدرتها التطبيقية واستكملت ابعادها من غائيتها العقلانية التي تعتبر المكمل الضروري لها، باعتبارها تستند في أغلب مواقفها من مختلف قضايا الوجود الاجتماعي إلى (العقل العملي) وليس (النظري المجرد)، وإلى العلاقة القائمة بينه وبين المستوى الواقعي للسيكولوجية الاجتماعية والطبيعة الاجتماعية السائدة وتعدديتها المتناقضة المتوحدة.
وطالما إن إمكانية ممارسة الفرد- كما قلنا- لأي تأثير اجتماعي مناط بالنظام الاجتماعي العام، فإن ذلك " يفتح الباب أمام تأثير ما يسمى بالصدفة في المصائر التاريخية للأمم... ويترتب على ذلك بالتالي، إن مصائر الأمم ترتهن أحياناً بالمصادفات[43]... وهذا ينطبق على مقولة هيغل الشهيرة : " إن في كل شيء محدود عنصراً من المصادفة [44] ".
تبرز هذه الخاصية بصورة جلية في المجتمعات غير المتبلورة طبقياً، إذ تمارس الصدفة مع العوامل الشخصية، دوراً أكبر في تحقيق فعل التغيير، لدرجة أن كثير مما له علاقة بالوضع العراقي على سبيل المثال، كان يعتمد ولا يزال على العامل الشخصي[45].
عملت هذه الصدفة دورها في تغيير مسار تاريخ العراق مراراً. فمثلا كانت ثورة 14 تموز حصيلة الشروط الاجتماعية والسياسية لعراق العهد الملكي، وقد أرتهن تحققها بعامل الصدفة أيضاً، إذ أن  الهيئة العليا للضباط الأحرار، وإدراكا ًمنهم لما حدث أثناء حركة مايس 1941، قد اتفقوا على أن لا يقوموا بفعل التغيير والتحرك العملي، إلا بتواجد رؤوس النظام الثلاثة: الملك وولي العهد ونوري السعيد، في داخل العراق. ولم يقرر الزعيم قاسم ومجموعة المنصورية تحديداً, تنفيذ حركتهم التغييرية إلا بعد يوم 10 تموز 1958 وذلك لعودة كل من الوصي عبد الإله من تركيا في 9 تموز ونوري السعيد في 8 منه.[46] إذ إن وجود واحدٌ من ثلاثي الحكم، خارج العراق، كما حدث في محاولات سابقة للثورة، سيؤجل بالضرورة عملية التنفيذ خوفاً من طلب أحدهم التدخل الخارجي من دول حلف بغداد والأردن. لو تحققت هذه الحالة لاختلفت مسارات الأمور السياسية والتاريخية في العراق والمنطقة، لكن شاءت الصدفة أن يعود الوصي والسعيد ويكون ثلاثي الحكم في العراق يوم 14 تموز 1958.
وتأسيساً على ما ذكر يمارس القادة العظام في التاريخ، تأثيراً كبيراً في مصير المجتمع رغم بقاءه مرهونا ًبالبنية الاجتماعية وبعلاقاتها الداخلية والخارجية. إن البنية الاجتماعية، أياً كانت، هي بالضرورة كيان غير متجانس.. ففيه بعض من بقايا العلاقات الاجتماعية القديمة وشيءُ من أجنة العلاقات المستقبلية المرتقبة، بالإضافة إلى العلاقات السائدة التي تلعب دوراً مهماً في تكوين السمات الاجتماعية والحضارية العامة والتي ستؤثر كلها في تحديد دور ومكانة الفرد كذات انسانية وتأثيراته الاجتماعية.
صحيح جداً أن الجماهير الشعبية هي صانعة التاريخ.. لكن هذا لا ينفي من مكانة الفرد في عملية الصنع هذه والذي هو نتاج للبيئة الاجتماعية المحددة لسماته العامة. إذ  إن " فكرة الضرورة التاريخية لا تقلل البتة من دور الفرد في التاريخ، فالتاريخ كله يتكون من أفعال الأفراد الذين هم بلا جدل شخصيات فعالة[47] ".
 وطالما " أن التاريخ كما يقول ماركس، لا يفعل شيء، أنه لا يملك الثورة الهائلة ولا يخوض المعارك أنه الإنسان. الإنسان الحي الذي يفعل كل شيء، هو الذي يملك الثورة وهو الذي يقاتل ". كما أن المجتمع هو مجموع الشخصيات المنفردة التي تكوٌن الجماهير الشعبية.
يصنع الافراد تاريخهم من خلال عملهم ونشاطهم السياسي الغائي وإدراكهم الواعي لمهمات واقعهم. كما أن تأثيرهم كافراد، على المجتمع يزداد بقدر ازدياد التقدم الاجتماعي (بالمفهوم الواسع). إذ مع تطور العملية التاريخية وتعمق مهماتها، ومع تقدم التطور التقني وأثاره، ومع توسع دمقرطة الثقافة ونتاجها المعرفي، يتسع حجم المساهمين في العملية التاريخية وبالتالي ترتفع نسبة مساهمة الفرد/ الجماعة فيها، وتشتد في الوقت ذاته ضرورة بروز قادة يوجهون هذه العملية.
 بمعنى أخر أن المجتمع في سياق تطوره سيجابه بصورة دورية ضرورة تعديل مؤسساته الاجتماعية وتكثيفها وتكيفها مع واقع تطور القوى المنتجة. هذا التعديل لا يحدث أبداً (من ذاته)، بل من خلال ضرورة التدخل المستمر للبشر. بكلمة آخر " وحسب أرسطو (384-322 ق.م) تحتم طبيعة التطور البشري نوعاً من المجتمع المنظم في ظل نظام حكومي. وأن غياب الحكومة يعني الفوضىanarchy وتسيّد قانون الغاب law of jungle . وبنفس المعنى قال الزعيم الصيني ماوتسي تونغ: إن الواقع بفرض دائما وجود رؤساء   [48]".
 وفي هذا السياق تدلل التجارب التاريخية على أنه " ما من طبقة واحدة في التاريخ استطاعت الوصول إلى السلطة بدون تقديمها لقادتها السياسيين وممثليها البارزين القادرين على تنظيم حركتها وقيادتها [49] " طالما أن التاريخ في إحدى ماهياته ( تحركه قوى واعية) حسب.
إن القادة العظام في التاريخ لا يظهرون عفوياً، بل طبقا للضرورة التاريخية ذاتها وعندما تنضج الظروف الموضوعية والذاتية الملائمة، أي في مراحل الانعطاف الجذري، وضمن كون موهبتهم  وسمات سجاياهم الشخصية، هي ضرورة للتاريخ.
 وكلما كانت هذه السجاياهم الشخصية تستجيب للضرورة، كلما كان دورهم في التاريخ أكبر شأناً وبروزاً خاصةً إذا كانوا، بل بالضرورة أن يكونوا، مدركين للمجرى الموضوعي للتاريخ. وتستنبط قوة شخصية القائد من قوة الحركة الاجتماعية التي يعبر عنها ويتولى تحقيقها عملياً. لذا نرى أن سجاياهم الذاتية والفكرية ليست قليلة الأهمية بالنسبة لمضمون التغيير ذاته. وقد لوحظ بوضوح ,على مدى التاريخ, ظاهرة التباين في القدرة السياسية للأفراد والطبقات الاجتماعية. وقد سبق وأن درسها الكثير من المختصين منذ المحاولات الأولى لارسطو,, مرورا بروسو التي عزاها إلى سوء توزيع الثروة والدخل.. وهذا ما اشار إليه وأكده بصورة علمية ماركس ومدرسته الفلسفية الجدلية.
فالرجل المتسم بالذكاء وقوة المبادرة والطاقة الكبيرة والحزم وسعة فهم الأبعاد الاجتماعية والتاريخية لبلده، يستطيع إن يفي أكثر فأكثر بالمهام التي يلقيها عليه التاريخ. وكلما كانت سجاياه تتوائم  وتتزامن مع متطلبات واقع التغيير المنشود، كلما كان دوره مهماً وضرورياً. " فليس القائد، كما تقول السير الشخصية، نتاج نفسه، وليس نتاجا عرضياً لمرحلته، أنه نتاج تفاعل حيوي بين النشأة الشخصية والنشأة الاجتماعية، وتتداخل السيرتان معاً[50] ".
 وتأسيساً على ما ذكر نخلص للقول بضرورة إلغاء تناقض ثنائية البديل المفترض: الفرد القائد أم الجماهير. نظراً لوجود علاقة جدلية بين الاثنين التي تربط بينهما. فالقائد بدون جماهير لا يمثل شيئ البتة.. والجماهير بدون قائد حكيم لا تستطيع ان تحقق ذاتها الجمعية. علماً بأن الدور الأهم والحاسم للجماهير بدون شك، لكن يجب أن لا ينكر دور الفرد، إذ كل ما يصنعه يعود للتاريخ.. وهو لا يظهر بحكم المصادفة بل بحكم الضرورة، أينما وحيثما تظهر إليه حاجة المجتمع والتاريخ. أي أنه يعكس بأقصى درجة حاجات المجتمع وهو يعيش ويمارس نشاطه في خضم مصالح زمانها ومكانها.
من الملاحظ أن هؤلاء القادة مولعون في التاريخ بصورة كبيرة وينطوون في أعماقهم على إحساس مفرط بالتاريخ، سواء أكانوا واعين لهذه الحقيقة أم لا. وقد يصل هذا الإحساس ما تبلغه الغريزة من تأصل وتجذر. وغالباً ما كان يمثل دوافع لأفعالهم وبواعث مادية لإرادتهم، رغم اختلاف شكل هذا الإحساس من قائد إلى أخر ومن زمن لثاني ومن مجتمع لأخر وبحسب المكونات النفسية والثقافية والاجتماعية والفكرية وتبعاً لظروف المكان ومتغيرات الزمان كأسس ذات دلالة. وكل هذه تتوقف على درجة تطور الانتاج المادي التي تحدد التركيبة الطبقية للمجتمع, طريقة تفكير الناس, إدراكهم , ايديولوجيتهم ونشاطهم الذهني ...الخ والصراع الطبقي الذي تعتمد حدته على درجة التنافض بين قوى الانتاج, والذي يعتبر المحرك الرئيسي للتقدم الاجتماعي.
" إن العظيم من الرجال يبحث دائماً عن الحياة المحفوفة بالمخاطر التي تتفق مع طبيعته ورسالته نفسها تتطلب أن يظهر في النار ليبدو في أسمى من قوته. أما الرجل المتوسط المواهب والكفاءات فهو ينشد لنفسه دائماً حياة هادئة ولا يرغب لنفسه بمأساة وليس هو في حاجة إليها. هذا الصنف من الرجال لا يرغب في تحمل تبعات تاريخية, بل يتفاداها ولا يبحث عن الآلام بل تفرض عليه فرضاً [51] " .  ليس هذا حسب، بل وفي الوقت نفسه " يستطيع أن يعبر عن إرادة عصره في كلمات ويدل عصره على إرادته وينيرها. إن ما يفعله هو قلب وروح عصره، أنه يحقق عصره " كما قال هيغل.
ويمكن التميز بين نوعين من القادة فهم :
-  إما يمثلون القوى الموجودة فعلاً والتي تريد تغيير شكل الواقع الملموس للعالم وأفكار الناس و              يعبرون عن تطلعاتها؛
-  أو انهم يساعدون على  خلق هذه القوى عن طريق تحد سلطة الواقع الموجود وتغيره وتهيأت مستلزمات تطورها الذاتية والموضوعية.
 بمعنى أن القائد الفذ هو من كان نتاجاً للعملية التاريخية ويساعد على بلورتها في الوقت نفسه.
ولأجل الإشارة على عظمة إنسان ما، فلا يكفي أن نتحدث عن ذلك بصيغ نظرية مجردة ومعزولة عن الزمن وطبيعته، وعن الحدث وتفاعلاته, وعن الانجاز والاخفاق في عمله. بل يجب أن نربط ذلك بمجموعة العوامل المتصلة بحلقات الزمن الثلاث في تفاعلها الجدلي وبالإمكانات الذاتية والنفسية للفرد وبالعوامل المترابطة بالظروف الحسية الملموسة وبمؤثرات القيم الاجتماعية، لكي تبرز عظمته في إطار ماهيتها الحقيقية.. هذا المنهج الرابط للحدث التاريخي بظروفه الزمانية/ المكانية، هو الأكثر علميةً في تفسير الوقائع ومعرفة صيرورات تطورها.
 كما نؤكد في الوقت ذاته على ضرورة عدم الوقوع في مطب عبادة الفرد (البطل/ القائد)، أي تقديسه الأعمى ونعزو إليه قدرات خارقة، وكأنه يصنع التاريخ بأنويته وأرادويته ومقدرته الفردية. أي يجب أن لا ننسب إليه كل القوة الاجتماعية التي حملته إلى المقدمة ونبالغ في تقدير مزاياه الفعلية لأنه يدخلنا في متاهات القدسية المفرطة وعبادة الشخصية. ينطلق هذا التقديس من تفسيرات مثالية للتاريخ مما تُوقعنا في عدم فهم الظواهر على حقيقتها. كما إن لها عواقب وخيمة في كبح العملية التطورية للمجتمع وتعطيل آليات الإحساس بالمسؤولية المشتركة مثل:
 توسيع المشاركة الاجتماعية في اتخاذ القرار؛ تداول الحكم سلمياً عبر الآلية البرلمانية...الخ كما يجب هنا عدم الخلط بين هذه الموضوعة وبين نفوذ القادة، لأن أية عملية تاريخية تحتاج إلى منفذين عمليين للعملية التي أناطت الضرورة الاجتماعية بهم القيام بها.
و هكذا توصلنا " إلى قضية يكتنفها الخطر، وهي أن الإنسان نتاج حضارته التي أُستدخلت وتحولت إلى جزء من ذاته، فالإنسان هو نتاج العلاقات الاجتماعية التي تنشأ في الجماعات. والوعي هو صفة ملازمة للنضج، هو وظيفته العليا. ولذلك فالتناقض الذي يطرح في بعض الأحيان في علم النفس الاجتماعي بين الفرد والجماعة (باعتبار أن الجماعة تهدد الفردانية) هو تناقض لا وجود له في الواقع ، لأن الفرد بلا جماعة هو فرد بلا وعي، وللسبب نفسه لا نستطيع أن نتصور أن هناك مقياس ذكاء متحرر من الحضارة، لأن التحرر من الحضارة معناه التحرر من الذكاء [52] " .     
ومن المعلوم إن تطوير المجتمع يخضع لعوامل عديدة متفاعلة جدلياً، منها:
 مستوى تطور القوى المنتجة؛ ومدى التوافق بينها وبين علاقات الإنتاج؛ درجة التوازن بين الجوانب التعاونية والتنازعية في الحياة الاجتماعية؛ الوسط الجغرافي ومدى ثرواته؛ العوامل الاجتماعية/النفسية؛ الكثافة السكانية وطبيعتها؛ العامل الخارجي المتمثل بالموقع الاستراتيجي وغيرها من العوامل.
 تفرض (الحقائق)[53] أعلاه عند وجودها مؤثرات قادرة على التحكم ليس على الفرد وحده، بل حتى على صيغ العلاقات الاجتماعية/السياسية وذلك بصياغة نمطية سلوكية تلزم الإقرار بها والتمسك بمبادئها، وهي ما يطلق عليه الوقائع الاجتماعية التي تصوغ النظام السياسي وكافة مؤسساته التي تؤثر على نشاطات الأفراد ويستوعبها ومن أهم تلك الحقائق هي حقائق الجغرافية التي تتسم بثباتها النسبي. ويستطيع الإنسان الحد من تأثير هذه القوانين من خلال تطوير قواه المنتجة.
كما يمكن أن نظيف إلى هذه الحقائق، درجة التفاعل الجدلي للعلاقة ما بين قوانين الجغرافية وبين الجهد الإنساني المبذول، وبين تعاملهم المشترك ضمن البنية الاجتماعية وعلاقاتها[54]، بحيث تفرز لنا وقائع اجتماعية/ سياسية/ثقافية، تتشكل وتنتظم في بنية علاقات تمثل البناء الفوقي، وتعبر عن طرائق التفكير للأفراد وفلسفتهم في تعاملهم مع الحياة الاجتصادية .
 وتأسيساً على ذلك واستقراءً لواقع عراق القرن العشرين وتغيراته الجذرية وللعوامل الذاتية والسجايا التي أتسم بها القادة الذين حكموه، يمكننا القول أن عبد الكريم قاسم وما تمتع به من شخصية وموهبة وقدرة على اتخاذ القرار المتتوئمة مع الضرورة التاريخية للتغيير في حدودها الزمانية تضعه في مصاف أحد أهم قادة العراق المعاصر، ومن أكثر الذين عملوا على تغيير البيئة الاجتماعية للعراق وهيئوا ظروف التغير الضرورية للتطور. يقول عامر عبد الله حول قدرة قاسم على اتخاذ القرار :
 " لقد برهن قاسم في كل الظروف على أنه أكثر جرأة واستعداداً للمخاطرة, والدليل على ذلك, اصراره علىمواصلة العمل, والمحاولات العديدة التي قام بها لتفجير الثورة, ومنها محاولات تنطوي على قدر كبير من المجازفة. فلقد أثار دهشة زملاءه مرة بعد أخرى بإصراره على إستغلال إحدى المناورات للواء الذي كان بإمرته لتصفية الملك والوصي ونوري السعيد…
 لقد سنحت فرص عديدة لغير عبد الكريم قاسم, ليتولوا قيادة وتنفيذ الثورة ولكن سعيهم قد إستصال أكثر مما ينبغي (( لاستكمال الاستعدادات)), وأغلب الظن , هو أن قاسم, بعد أن رأى كل ذلك, وركن إلى مساندة الكثيرين, بدأ يفكر بالاعتماد على قواته وأنصاره الأقربين- إلى جانب حرصه المفرط على الكتمان واستخدامه عنصر المباغتة... [55]،"
وانطلاقاً مما ذكر يمكن القول أن ماهية عمل الزعيم قاسم الجذري أهل دخول العراق في مضمون سيرورة التاريخ الحقيقي، كما أنه في الوقت نفسه لم يهب الناس النار ولم يؤسس فلسفة حكم جديدة أو تعاليم اجتماعية نظرية .. لكنه أسهم بصورة عضوية في تهيئة تربة التغيير الاجتماعي، بل والأكثر ساهم في بعث هذه الصيرورة .. وبالتالي أدخل العراق في تاريخ جديد.
 من هذا المنطلق استنتجنا بأن عبد الكريم قاسم يعتبر من أهم القادة، بغض النظر عن مدى تقاربنا منه أو ابتعادنا عنه. تتجلى هذه الميزة لديه عندما نقارنه :
-  كذات سلوكية/ سياسية، مع تلك الشخصيات القيادية التي قادت وساست العراق الحديث. فالذين جاءوا قبله كان أغلبهم محمولين على ظهر الآلية الحربية الأجنبية، بغض النظر عن من كانت . كذلك الذين جاءوا من بعده كانوا أيضاً محمولين، باعترافات بعضهم، (بالقطار الأمريكي) ضمن لعبة الصراع الدولي.
-  من خلال معيار فعل التأسيس وأهميته التاريخية. أي بين فعل التكوين للدولة العراقية وسماتها وطبيعة تركيبتها ومنجزاتها وبين ما أحدثه الزعيم قاسم يوم 14 تموز من نقلة نوعية وفعل واعي مدرك لواقع بنية الدولة والأنماط الاقتصادية والطبقات الاجتماعية التي تغيرت مواقعها وأولوياتها، كذلك علاقات الإنتاج ومدى تلائمها مع فعل التطور، البناء الفوقي وحداثته وتأثيراته. بمعنى خلق فعل التغيير في 14 تموز تاريخ جديد للعراق، سواء ًللتغيرات التي حصلت للإنسان أو لبيئته أو لكلاهما.
إن التماثل بين هذا المضمون الهيغلي للتاريخ والماهيات الحقيقية للزعيم قاسم مستنبطة من التداخل والتفاعل الجدلي لجملة من العناصر وهي :
-      عمق مضمون عملية التغيير الجذري التي قادها ؛
-      مكونات ومفردات برنامجه العملي والأهداف المبتغاة؛
-      طبيعة إدارته للحكم وكيفية حله للصراع الاجتماعي وتناقضاته؛
-      موقفه كوسيط فعال في المجال الحيوي للعلاقات المتبادلة بين الطبقات آنذاك؛
-  شرعيته السياسية المستنبطة من تأييد أكثرية، مادة التاريخ وقواه، من الطبقات والفئات الاجتماعية الفقيرة والكادحة وحيوية مصالحها، وكانت بمثابة الاختيار العفوي للشرعية؛
-      استناد هذه الشرعية على مكونات الحداثة وعدم ارتكازها على القوى التقليديةأو/والسلفية؛
-  إفساح المجال الواسع للفئات الوسطى لقيادة عملية التغير والتي مثلت افتراقا ًنوعياً عن النخبة السياسية للمرحلة الملكية.
في الوقت نفسه لا يمكن قياس عظمة القادة من خلال مقدار ما نجحوا في تحقيقه فحسب. لأن الحكم على النجاح وحده لا يبرر ذاته، لأن التطور يؤخذ في سياقه العام، أي حتى بانقطاعه أو توقفه الحتمي أو العفوي. كما أن الحقيقة التاريخية هي نسبية، طالما أن تفسير الحدث أو تأويله يخضع للجذور الفكرية والفلسفية والموقف الاجتماعي/ الاقتصادي للمفكر أو المؤرخ أو الباحث. وفي الوقت ذاته إنها حقيقة مطلقة لأن الواقعة التاريخية هي موضوعية، أي لها وجود مستقل زماني ومكاني. وهكذا :
         صرخت متغيرات الحياة العراقية بقاسم .. ليقم بدوره بما تتطلبه الضرورة..
                                   وما عساه إلا أن يفعل.
 
 
 
 
           
 
 
 
 
 


[1]  مستل من د. عامر حسن فياض، جذور الفكر الديمقراطي في العراق الحديث 1914- 1939،ص.7، وزارة الثقافة ، بغداد 2002. والكتاب دراسة اكاديمية في الأصل لنيل شهادة الدكتوراة من جامعة بغداد.
[2]  مصدر كلمة التاريخ في العربية متأتية من مادة (أرخ - يؤرخ) التي ترجع في أصلها إلى كلمة ( ارخ) أو (ورخ) التي تعني الشهير في اللغات العربية القديمة ( السامية) ومنها اللغة الاكدية ( البابلية والاشورية في حضارة وادي الراقدين) وعرف الاله القمر في جنوبي الجزيرة العربية بأسم ( ورخ). للمزيد راجع: طرق البحث العلمي في التاريخ والاثار، تأليف طه باقر والدكتور عبد العزيز حميد، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بفداد 1980ص. 7 . أما الماضي فيُعَرفه هوبزبوم بأنه: ( الفترة التي تسبق الاحداث المسجلة مباشرة في ذاكرة أي فرد, بحكم العيش مع اشخاص أكبر سناً منهم ), دراسات في التاريخ, ترجمة عبد الإله النعيمي, ص.16, كتاب المدى رقم 8, دمشق 2002.
[3]  كامل شياع، التأريخ والتأويل, الثقافة الجديدة، مصدر سابق، ص. 23-24.
[4]  على سبيل المثال يرى أ. ب. تايلر من منظور فلسفي " أنه بالإمكان  كتابة تاريخ أوربا الحديثة بلغة الجبابرة الثلاثة: نابليون ، بسمارك ولينين ".
[5]   المصدر السابق، ص. 24
[6]  د. رياض رمزي، ماذا لو ..؟ قراءة في كتاب عطا  عبد الوهاب ( الأمير عبد الإله- صورة قلمية ] مجلة أبواب ، لسنة 2002 لندن / مكتبة الساقي .
[7]  جورج بليخانوف، دور الفرد في التاريخ، المؤلفات الكاملة، مصدر سابق، ص. 290
[8]   المصدر السابق، ص. 291
[9]  القول لبروتاغوروس، مستل من د. عامر حسن فياض، جذرو الفكر الديمقراطي، ص. 18، مصدر سابق.
[10]  المقصود بها، الموضوعات الأحد عشر لكارل ماركس حول الفيلسوف المادي فورباخ والتي خطها عام  1845.
[11] كما يسطرها تاريخ العراق المعاصر، وذلك عندما ادخل رأس النظام العراقي السابق، البلد  منذ 1980في حروب  داخلية وخارجية مهلكة، أرجعت البلد إلى عمق هاوية التخلف بكل أبعادها الشمولية.
[12] للمزيد راجع د. إمام عبد الفتاح إمام, الطاغية, الطبعة الثالثة,مكتبة المدبولي, القاهرة 1997
[13]  أرنست فيشر وفرانز مارك ، ماركس الحقيقي، ترجمة خليل سليم ، ص. 113 دار أبن خلدون 1973، بيروت
[14] الموسوعة الفلسفية باشراف روزنتال ويودين ، ترجمة سمير كرم، ص. 181، ط. 6، دار الطليعة، بيروت 1987
[15] جورج بليخانوف ، مصدر سابق، ص. 292- 294
[16] د. إمام عبد الفتاح إمام, الطاغية, ص. 28, مصدر سابق.
[17]  المصدر السابق، ص. 295
[18]  كيرلنكو و كورشونوفا، مصدر سابق، ص. 322
[19] " الكاريزماCharisma  مستمد أصلا  من العهد الجديد في النص اليوناني الذي يعني(عطية النعمة الالهية) وأدخله عالم الاجتماع الالماني ماكس فيبر(1864-1920) ليعني الصفة الخارقة التي يمتلكها بعض الاشخاص فتكون لهم قوة سحرية على الجماهير. وقد ميز فيبر بين كاريزما الفرد التي تنشأ من صفات طبيعية عنده, وكاريزما المنصب المستمدة من الطبيعة المقدسة للمركز". د. إمام عبد الفتاح إمام, الطاغية, هامش ص. 102, مصدر سابق. واقتبسنا ترجمتها العربية (الصمدانية) من الكاتب والمفكر الراحل هادي العلوي.
[20]  لقد ظهرت أغلب هذه النظريات مع بزوغ عصر النهضة في أوربا منذ القرن 14 على اشلاء الجبروت الدنيوي للكنيسة وانهيار النظام الاقطاعي في اوربا واللذان مسخا ماهية دور الفرد كذات انسانية في الصيرورة الاجتماعية. لقد بدأ عصر النهضة في المجالات الفنية ثم الفلسفية التي مجدت الانسان/الفرد وعقله باعتباره المصدر الأهم لملكة الاستدلال الصحيح والاستنتاج المنطقي وما يضفيه من اشكال على المضامين الحسية. كذلك عندما ارتبطت بعصر النهضة تلك الانجازات العلمية التي ساهمت، في أحد جوانبها، في تهديم التفسيرات اللا علمية لظواهر الطبيعة التي كانت مرتبطة باللاهوت وما يحمله من نظرات تقديسية لبعض الظواهر الطبيعة والاجتماعية. كان عصر النهضة نقلة نوعية في طرق ومناهج التفكير وكان الاساس المادي للثورات التكنولوجية والمعرفية التي يشهدها عالم اليوم.
[21]  الموسوعة الفلسفية ، بإشراف روزنتال و يودين، ص.216 ، مصدر سابق.
 [22]  استطاع الاقتصادي االماركسي اوسكار لانجه أن يطور مفهوم القوى المنتجة بحيث " يعيد صياغته بشكل قوانين ثلاثة أساسية لعلم الاجتماع : 1- قانون التجانس الضروري بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج الاجتماعية،2- قانون التجانس الضروري بين البناء الفوقي و القاعدة الاقتصادية ، 3- قانون التطور التقدمي لقوى الإنتاج الاجتماعية " راجع كتابه المهم الاقتصاد السياسي ، الجزء الأول ، ترجمة د. محمد سلمان حسن ، دار الطليعة بيروت 1968.
 [23] بليخانوف، المصدر السابق، ص. 318
[24] عبد الرحمن الكواكبي, طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد, ص. 340. مستل من إمام عبد الفتاح إمام ص. 88, مصدر سابق. وخير  مثل يضرب هنا, هو قول صدام حسين :" إن ما يقوله صدام حسين هو قانون"
[25] مستل من المصدر السابق, ص. 147,المقتبس من كتاب الجمهورية لافلاطون, ترجمة فؤاد زكريا, ص. 491
[26] من ثقافة الخضوع إلى ثقافة الحوار , مقابلة مع د. عامر حسن فياض.. مجلة الثقافة الجديدة, ص. 69,العدد 311 لسنة 2004
[27]    المصدر السابق، ص. 292
[28]  المصدر السابق, ص. 303-304
[29]  مستل من د. رياض رمزي ،  ماذا لو، مصدر سابق، ص.2.
[30] جورج بليخانوف، ص. 308، مصدر سابق.
[31]  المصدر السابق، ص. 308
[32]  المصدر السابق، ص. 313
[33]  الشخصية : هي المجموعة المنظمة من الافكار والسجايا والميول والعادات التي يتميز بها شخص من غيره. وقد اختلف العلماء في أهمية أولوية دور كل من: العوامل الاجتماعية (المحيط) أو العوامل البيولوجي (الوراثة). سابقاً كان الميل نحو العامل الثاني، لكن في الوقت الحاضر يميلون بقوة نحو العامل الأول ويضيف بعضهم العامل السيكولوجي وخاصةً ببعده الاجتماعي. وبصدد شخصية الفرد العراقي يقول عالم الاجتماع د. علي الوردي عنه: " صار متقمصاً شخصيتين أو ذاتين مختلفتين، ذاتاً يفكر بها وذاتاً يعمل بها، وما أبعد ما بين هاتين الذاتين ". شخصية الفرد العراقي، بحث في نفسية الشعب العراقي على ضوء علم الاجتماع الحديث ص. 41, تاريخ النشر ومكانه بلا .
[34] يجب علينا أن نفرق بين السلطة والقوة نتيجة التلازم بين الاثنين " فالقوة هي التي بواسطتها تستطيع أن تجبر الآخرين على طاعتك, في حين إن السلطة هي الحق في توجيه الآخرين, أو أن تأمرهم بالاستماع إليك واطاعتك . والسلطة تتطلب قوة , غير ان القوة بلا سلطة ظلم واستبداد, وهكذا فإن السلطة تعني الحق". مستل من د. إمام عبد الفتاح إمام، ص. 56, مصدر سابق.
[35] المواهب الكبيرة تظهر دائما في كل مكان كلما وحيثما توفرت الشروط الاجتماعية الملائمة لتطورها وهذا يعني أن كل موهبة تتظاهر فعليا، يعني كل موهبة  تصبح قوة اجتماعية إنماهي نتاج العلاقات الاجتماعية. الموهوبون لا يستطيعون سوى تغيير السمات الفردية للاحداث من دون اتجاها الشامل, وهم لا يوجدون إلا بفضل هذا الاتجاه ولولاه لم يتجاوزوا قط العتبة الفاصلة بين حيز الامكان وحيز الفعل . كما يذكر بليخانوف.
[36]  لقد قدس الاسلام الثروة والمال وجعل " المُلكية – أو الرزق أو المال من حقيقة كون واحد من خمسة فرضت الشريعة الحفاظ عليها ( والاربعة الأخرى هي: الدين، النفس، العقل والنسل ) "، مما ساهم في تقوية التراتيب الاجتماعية. بطاطو ، الجزء الأول ، ص, 28، مصدر سابق.
[37] د. عبد الوهاب حميد رشيد, التحول الديمقراطي والمجتمع المدني, ص. 15, دار المدى, دمشق 2003.
[38] - تدلل المعطيات التاريخية إلى تحكم ما يقارب 55-60 عائلة في القرارين المركزيين السياسي والاقتصادي في المرحلة الملكية، في حين تشتت مداها بدرجة كبيرة في الجمهورية الأولى، لتعاد وتنكفء في الجمهورية الثانية ( شباط 1963- نيسان 2003)، وفي نهاية المرحلة أمسى يتحكم بالقرار المركزي عوائل تعد على الاصابع وبالاساس من عائلة الرئيس فقط.
[39]  ألف نوري سعيد 14 وزارة، كما كان وزيرا 34 مرة. للمزيد راجع كتابنا، الجيش والسلطة في العراق الملكي، دار الحصاد ، دمشق 2000
[40] بطاطو، الجزء الثالث/ ص. 296، مصدر سابق.
[41] الأكاديميان أديث و أيف بينزور، العراق- دراسة في علاقاتهالخارجية وتطوراته الداخلية 1915-1975، ترجمة عبد المجيد القيسي، في جزئين، ص. 459، الجزء الأول، الدار العربية للموسوعات، بيروت 1989.
[42] انطلق قاسم في البدء في موقفه من علاقة الوطني بالقومي من وحدة المكونيين, ومن زمان ومكان الذاتية العراقية وخصوصيتها الاجتماعية والاثنية، باعتبارها العتلة القادرة على رفع مكونات وعي الذات القومية إلى رؤيا حيوية واسعة وعملية عضوية يشعر فيها الفرد بتجليات انتماءه القومي الملموس، وليست باعتبارها عملية فوقية لنخبة انقلابية صغيرة أو تلبيةً لرغبة أنوية/ارادوية لقائدٍ ما تُفرض بالقسر المادي والتأمر العنفي. هذا الدمج في رؤية قاسم بين وحدة المكونيين ينطلق من ماهية صلب المكون التاريخي للعراق وهويته الذاتية ذات الاطياف الواسعة. خاصةً إذا عرفنا إن تلك المرحلة تميزت بسيطرة ظاهرة سياسية تمثلت ماهيتها في كون " أن صنع القرارات الخاصة بالشرق الوسط والأمة العربية، إنما كانت تتم في الخارج "حسب رصد محمد حسنين هيكل. مستل من مقالة د. مؤيد إبراهيم الونداوي  المنشور في كتاب المذكرات الشخصية مصدر لكتابة التاريخ، مجموعة باحثين، ص. 64، بيت الحكمة بغداد 2001 .
[43] المصادفة: هي الأشياء النسبية التي لا تظهر إلا في تقاطع العمليات الضرورية. فالضرورة الداخلية تلحقها حتما صدفة خارجية، وللأخيرة ضرورة كأساس لها، وهي صورة من مظهرها. فبالنسبة إلى سكان مكسيكو كان ظهور الاوربيين في أمريكا محض صدفة، بمعنى أنه لم ينشأ عن التطور الاجتماعي لتلك البلدان. لكن هوى الرحلات والاكتشافات لم يكن صدفة.. بل كان مرهوناً بحصيلة الأوضاع الاقتصادية في البلد المفتوح والفاتح. ويشير شكسبير في مسرحية ريتشارد الثالث إلى دور الصدفة في إضاعة مملكة عندما يقول : [ انخلع المسمار فسقطت حدوة الفرس، فكبا الحصان فسقط الفارس أرضاً فخسر الجيش المعركة وضاعت المملكة ]. ففقدان المسمار بالصدفة في تلك اللحظة المصيرية، أدى إلى مقتل الملك فضياع المملكة.
[44]  المصدر السابق، ص. 309
[45] يتوصل الأكاديمي حنا بطاطو إلى هذا الاستنتاج المستقرأ من واقع عراق النصف اول من القرن الماضي. للمزيد راجع الجزء الأول ، ص. 14، مصدر سابق.
[46]  عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، الجزء العاشر، ص.287، ط.4، دار الكتب، بيروت 1974
[47]  أفاناسييف، أسس المعارف الفلسفية، ص. 248 دار التقدم، موسكو1979،
[48] د. عبد الوهاب حميد رشيد, التحول الديمقراطي, ص. 13, مصدر سابق.
[49]  المصدر السابق، ص. 159
[50]   زهير الجزائري، حنا بطاطو- البحث في التاريخ الضائع، مجلة النهج العدد 25 شتاء 2001، ص. 61.
[51]  الاقتباس لنيتشة، مستل من جرجيس فتح الله ، العراق في عهد قاسم ، مصدر سابق ، ص.527.
[52]  خلدون حسن النقيب، في البدء كان الصراع، حول الدين والاثنية، الأمة والطبقة عند العرب، ص. 225 دار الساقي، لندن 1997 .
[53]  د. بلقيس محمد جواد ، أفغانستان – دراسة سيسيولوجية للمجتمع وأثره، ص. 4  دراسة غير منشورة .
[54]  " إن الحياة الاجتماعية في جميع اطوارها وأشكالها لابد أن يتوازن فيها جانب التعاون وجانب التنازع لا فرق في ذلك بين البداوة وغيرها من الثقافات الاجتماعية الأخرى. إن الفرق الموجود بين الثقافات المختلفة هو في طبيعة هذا التوازن، وفي نمط الجانبين فيه) د. علي الوردي دراسة في طبيعة المجتمع العراقي ص.45، الطبعة 2،اصدارالمكتبة الحيدرية، قم إيران 1998
[55]  عامر عبد الله, خواطر وذكريات, بمناسبة الذكرى 25 لثورة تموز المجيدة, مجلة الثقافة الجديدة, العدد144, تموز 1983. ص 30



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن