رحلة نيبور الى مصر العثمانية (2 / 3 ) : بين التعصب الدينى والتشابه الدينى

أحمد صبحى منصور

2010 / 7 / 9

1 ـ فى المقال السابق عرضنا لرحلة نيبور التى خرجت سنة 1761م فى رحلة علمية استكشافية إلى البلاد العربية بهدف شرح عبارات الكتاب المقدس من واقع البيئة التى نزل فيها , وقد استقرت عاما فى مصر , وأخرج نيبور ثلاثة مجلدات عن رحلته ، ترجم أولها الدكتور ـ مصطفى ماهر بعنوان ( كارستن نيبور: رحلة إلى مصر ) , وعرضنا فى المقال لمنهج نيبور فى رحلته ، وكشفه عن التعصب الدينى الذى ساد اوربا والبلاد الاسلامية .. ذلك التعصب الذى كان أبرز ظاهرة دينية فى العصور الوسطى إلى درجة ان نيبور يذكر فى تعليقه على بعض من أسلم من الأوربيين وأقام فى دمياط المشهورة وقتها بتعصبها ضد المسيحيين والأوربيين ( والمعروف عن الذين يتركون دينهم ويدخلون فى الإسلام أنهم يصبحون أكثر عداوة للأوربيين من أولئك الذين ولدوا على الإسلام )(1) ..
2 ـ ومع هذا التعصب الدينى فقد تشابهت ملامح التدين لدى الفريقين .
2 / 1 : إذ ارتبط التعصب الدينى بين المسلمين والمسيحيين فى العصور الوسطى بظاهرة أخرى هو تحول الفريقين فى الممارسة الدينية إلى تقديس القبور وأصحابها وتقديم النذور إليها والحج إليها والعكوف عليها , فالمسيحيون قدسوا قبور القديسين وأقاموا عليها الكنائس وقدموا إليها الندور والقرابين وأقاموا عليها الإحتفالات الموسمية وغير الموسمية , والمسلمون كان لهم أولياؤهم بالأضرحة والمزارت التى تقام عليها المساجد وتنصب عليها الستائر وتقدم لها النذور ويحجون إليها فى الموالد فى مواسم معينه أو دائمة .
2 / 2 : وقد أغرقت أوربا فى تقديس هذه الضلالات التى استفاد منها البابا والهيئات الدينية برجالها وطوائفها الذين مارسوا مزيدا من السلطان فى الدنيا والآخرة فى اعتقاد اوربا العصر الوسيط , وانتهى الأمر بثورة اصلاحية دينية قام بها لوثر وزنجلى وكلفن وغيرهم ممن تقلصت على أيديهم سلطة الكنيسة حتى فى الأماكن التى ظلت تتبع المذهب الكاثوليكى وتعادى المذاهب الأخرى ( البروتستانت ) .
وشهد الشرق الإسلامى فى عصر نيبور حركة محمد بن عبد الوهاب التى تتخذ من الدعوة الاسلامية لنبذ تقديس القبور مسوغا شرعيا لقتل المخالف لهم فى الاعتقاد ، سواء كان مسلما أو غير مسلم . وبهذه الدعوة الوهابية استرجع المسلمون أكثر المذاهب الفقهية تعصبا وتخلفا .
وهكذا ، فبينما أسفر الشقاق الدينى المسيحى فى أوربا على تقليم أظافر الكنيسة وحجبها عن السيطرة على المجتمع الأوربى ، مما أدى بأوربا الى دخولها عصر النهضة و ما تلاه من تقدم علمى لا يزال مضطردا ، فإن الشرق الاسلامى لم يلبث أن تراجع ـ فى عصر العلم ـ الى خرافات العصور الوسطى بسبب سيطرة الوهابية والتصوف والتشيع على قلوب المسلمين حتى الآن .
وقد بدأت الصحوة الدينية فى أوربا وانتهت كحركة اصلاح فى اطار الديانة المسيحية التى لا تخرج عن تقديس المسيح وتأليهه مع كبار القديسين , ولم تنتقص إلا من التقديس الشائع للبابا وكبار الكرادلة والقسس ، اما الوهابية فقد منعت تقديس الأئمة الشيعة والأولياء الصوفية ، مع استمرار تقديس البخارى وأئمة السنيين ، وخصوصا الحنابلة منهم كابن تيمية وابن القيم الجوزية.
ومن الغريب ذلك التشابه بين حركتى لوثر وابن عبد الوهاب مع اختلاف الزمان والمكان والخلفية الحضارية . كلاهما اعتمد على أمير محلى ، وكلاهما أدخل المنطقة فى حروب ، ونتج عنها خلط للدين بالسياسة ، وكلاهما وقفت ضده الامبراطورية الكبرى فى عصره ومحيطه الجغرافى . بالنسبة الى مارتن لوثر وقفت ضده الامبراطورية الرومانية المقدسة ـ وكانت مجرد كائن سياسى هلامى عتيق ، وبالنسبة لابن عبد الوهاب فقد وقفت ضده الدولة ( الامبراطورية ) العثمانية ، وكان يطلق عليها أحيانا ( الروم ) لأن العثمانيين استولوا على القسطنطينية ومعظم أملاك الدولة الرومانية البيزنطية. ثم أصبحت الدولة العثمانية فى عهد محمد بن عبد الوهاب امبراطورية تحتضر ، تسميها أوربا ( الرجل المريض ) أى نفس حال الامبراطورية الرومانية المقدسة فى عهد مارتن لوثر . أى وقف (الروم ) ضد اللوثرية والوهابية فى ثورتهما على التدين التقليدى عند المسيحيين وعند المسلمين ، وهو تدين تقليدى متشابه فى سيطرة الخرافات وتقديس الأنصاب والأولياء والقديسين .,
3 ـ وحين آتى نيبور برحلته إلى الشرق الإسلامى من بيئته البروتستانتية كانت رياح التغيير الوهابى لم تصل لمصر بعد ، وكان التصوف وممارسته أبرز مظاهر الحياة الدينية حيث شاع تقديس الأولياء وأضرحتهم فى العصر العثمانى، وهم يحسبون بذلك أنهم يحسنون صنعا .. فتلاقت ضلالات التصوف فى مصر العثمانية مع ضلالات الشرك المسيحية التى رواها وشهدها نيبور فى مالطة وغيرها , ومع هذا التلاقى فقد تعصب كل إلى ما يحسبه دينه ـ معتقدا أنه على الحق وغيره على الباطل , هذا مع ان الإسلام الحقيقى لا يعرف تعصبا ولا ظلما ولا إكرها فى الدين.
4 ـ وأثناء مرور نيبور على مالطة زار كنائسها المشهورة ، وأهمها كنيسة القديس يوحنا ، يقول عنها: ( التى تتلقى الكثير من الهبات من الوجهاء جميعا ، وتزدان بقبورهم الجميلة .. وهكذا تكدست هذه الغنائم وأصبحت كنزا ضخما لا يكاد الإنسان يصدق ضخامته ) أى أنه يتحدث عن الكنوز التى تكدست من النذور المقدمة لرجال الدين إلى درجة انه يقارنها بالمؤسسات الدينية للمسلمين فيقول ( وتضم الكنائس الجانبية ثروات كثيرة بها كل ثمين ونفيس .. وهكذا فإن ثروات هذه الكنائس تفوق ما فى مكه والكعبة من ثروات ــ على ما علمت من رواية الروايات ــ بل قد تفوق الكنوز التى عند قبر محمد فى المدينة ) (1) . وواضح أنه يجهل تعاليم الإسلام الحقة إذ يقارن الكعبة بغيرها من البيوت الدينية , كما أنه انبهر بثروات الكنيسة المالطية فقارنها بالنذور التى كان يحملها المسلمون ـ فى هذا العصر العثمانى ـ إلى قبر الرسول عليه الصلاة والسلام ، حيث اتخذ الناس منه وثنا يعبد وجعلوا زيارته ـ عليه السلام ـ عيدا .
أى هو التشابه فى الخروج عن منهج الله ، وهو ما كان سائدا فى العصور الوسطى لدى المسلمين والمسيحيين ..
5 ـ ومعلوم ما كان شائعا لدى المسلمين ، من تقديم النذور للأضرحة ، وبعضها تقام عليه المساجد ، وتقام فيه الصلوات ، واذا احتوى المسجد على ضريح مقدس وتنذر له النذور فقد ابتعد عن مفهوم المسجد الإسلامى الذى لا تقديس فيه لغير الله ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا )(الجن : 18 )، وبقدر ابتعاده عن الإسلام يكون اقترابه من معابد المسيحيين واليهود. وهذا ـ مع الأسف ـ لا يزال موجودا حيث تقام المساجد على ذكرى أو رفات الأولياء المقدسين وتقدم لهم النذور وتشد إليهم الرحال ..
وبعض المؤسسات الدينية تقام على ذكرى لشخصية مشهورة تستحوذ على تقديس الأتباع ، كالأضرحة العديدة التى انشئت فى أماكن متفرقة تنسب للحسين وتدعى أنها تضم رأس الحسين , وهذا ما كان معروفا فى العصر المملوكى ، ولا يزال للحسين أضرحة فى العراق ومصر مع أن رأسه مدفونه فى البقيع (3) ـ وفى العصر المملوكى ـ بعد موت ابن الفارض ـ بعدة قرون أقام بعضهم له مسجدا وضريحا فى مكان قيل أن ابن الفارض كان يعتكف فيه ، مع أن له قبرا آخر فى المقطم (4) ..
وبناء أضرحة لقديسين واولياء لمجرد أنهم مروا بهذا المكان أو ادعاء أنهم دفنوا فيه كان أيضا معروفا فى أوربا المسيحية . وذكر نيبور وجوده فى مالطة حيث أقيمت كنيسة صغيرة فى تشيتافيكيا: (ويقولون ان بولس الرسول اختفى فيها الشهور الثلاثة الأولى بعد أن تحطمت سفينته عند هذه الجزيرة ـ والمغارة صغيرة لا يرى الانسان فيها سوى تمثال للرسول ـ (بولس) من حوله كومه كبيرة من قطع صغيرة من الصخرة التى نحتت المغارة فيها , ويدعى الناس هنا أن قطع الصخر هذه لا تزال إلى الآن تصنع المعجزات ... وهناك مرتفع غير بعيد من الكنيسة يقولون ان بولس الرسول كان يقف ويعظ ، فأقيم احياء لهذه الذكرى تمثال بولس الرسول وهو يعظ ) (5)
والفارق هنا أن المسيحيين يقيمون تمثالا او صنما للقديس ، أما المسلمون فيقيمون له ضريحا مزورا, ويتفق الجانبان على تقديس الصنم أو الضريح وتقديم النذور له وشد الرحال اليه فى مواسم معينة ..
على ان الأوربيين أقاموا أضرحة مزورة ادعوا أنها تحوى رأس القديس أو جسده , وقد تختلف فى ذلك مزاعم المسيحيين كما حدث بالنسبة لرأس مرقس الرسول وقد أقيمت عليها كنيسة فى الإسكندرية , رآها نيبور وقال عنها ( وهى من كنائس الأقباط ويرى زائرها ضريح الرسول المذكور ، ولم يعد الأقباط يفتحون القبر لأن البنادقة ـ على ما تقول اسطورتهم ـ سرقوا رأس الرسول . أما الروم الكاثوليك ـ البنادقة ـ فيزعمون أنهم أتوا من المهارة ما مكنهم من الخروج بجسد الرسول من سجن الهراطقة وان الأقباط يظلمونهم عندما يرمون كهنة طائفة الأروام ـ البنادقة بانهم لم يسرقوا سوى الرأس .. فقد قطعوا الجثة قطعا قطعا حزموها واحسنوا حزمها وادعوا أنها من لحم الخنزير حتى لا يكتشف المسلمون واليهود فى الجمرك الكنز العظيم فيستردوه ) (6) فهذه الروايات المفتراه عن جثة بليت وانتهت منذ أكثر من عشرة قرون تذكرنا باختلاف الصوفية والشيعة فى العصر المملوكى فى العراق ومصر حول المكان الحقيقى الذى دفنت فيه رأس الحسين الذى قتل قبل هذا الإختلاف حول رأسه بعدة قرون ..
6 ـ والقارىء فى المصادر الصوفية المصرية للعصر العثمانى يلمس اعتقاد المسلمين فى حياة الولى صاحب الضريح (7) , وكان المسيحيون المصريون على نفس الشاكلة ، بل توسعوا فجعلوا عظام الموتى تتحرك فى كنيسة فى مقابر الأقباط فى يوم معلوم كل عام (8) ..
وكانت للفريقين موالدهم التى تقام حول القديس والأولياء فى مواسم معينة كل عام . فالمسلمون يشدون الرحال صوب طنطا فى مولد البدوى أشهر الأولياء فى مصر العثمانية (9) . ولم يكن من حظ نيبور ان ذهب لطنطا ليذكر لنا ملاحظاته على أشهر مولد مصرى فى العصر العثمانى , إلا أنه شهد بعض الموالد التى تقام فى قرافة القاهرة حول ضريح االإمام الشافعى وغيره من الأضرحة (10) كما وصف نيبور كنيسة عند سمنود ـ يحج إليها المسيحيون فى كل عام فى مولد ضخم (11).
7 ـ وعرف المسيحيون ـ فى أوربا والشرق ـ والمسلمون نظام الرهبنة , فقد حفل العصر المملوكى فالعثمانى بالعشرات من الخوانق ومئات الربط وألاف الزوايا التى يقيم فيها الصوفية مجردين متفرغين للإعتكاف والعزلة ، بينما توقف عليهم الأوقاف وتقدم لهم النذور والجرايات والمعاليم (12) ـ بنفس النظم تقريبا التى تتبع فى الأديرة المسيحية فى مصر وأوربا .
ولقد كان الشبه واضحا بين الفريقين إلى درجة ان نيبور اختلط عليه الأمر فى وصفه لرباط قصر العينى فوصفه بالدير , ويقول ( وفى الناحية الأخرى من الخليج يقوم بناء عظيم ذو قبة بديعة متاخم للنيل هو قصر العين يقيم به دراويش تجرى عليهم أموال كثيرة .. ولديهم فوق باب هذا الدير أشياء عجيبة أخرى ... وهناك غير بعيد عن هذا الدير ساحات فسيحة ) (13) إن نيبور لم يجد الوصف المناسب للرباط إلا كلمة الدير ، إذ ان الدير فى أوربا يسير على نفس النسق الذى يجرى نظام الخوانق والربط الصوفية .. والشبه واضح بين رهبان الدير وصوفية الخوانق ..
8 ـ وأكثر من هذا ، فالكثير من عوام المسلمين كانوا يشاركون المسيحيين فى تقديس المسيح والعذراء , وهذا ما سجله نيبور ، ونحن نصدقه، ولدينا شواهد كثيرة من كتابات الشعرانى تعزز ما رواه نيبور من اعتقاد العامة من المسيحيين فى أولياء الصوفية ( المسلمين )، والشعرانى افتخر باعتقادهم فيه وفى بركاته (14), كما أن الصوفية يجعلون للمسيح عليه السلام مكانه خاصة فى نظام الولاية عندهم ، ويكفى أنهم ادخلوا فى عقيدة المسلمين فكرة المسيح المنتظر ـ وهى فكرة مسيحية أصلية لا شأن للإسلام الحق بها ..
نعود إلى نيبور وهو يرقى إلى جبل سيناء المجاور لدير سانت كاترين والذى يدّعون ان موسى عليه السلام كلم ربه فوقه , ويتقرب المسيحيون بصعود الجبل حيث أقيمت على قمته كنيسة صغيرة , وقد رافق نيبور فى صعوده للجبل دليلان من أعراب سيناء , شاركاه الطقوس عندما وصل الكنيسة فى قمة جبل موسى , ويقول عنهما نيبور ( تلا شيخاى العربيان صلاة خاشعة ورعة أمامها , فلما دخلنا إلى داخلها قبـَّلا صورة المسيح والعذراء مريم فى خشوع شديد على الرغم من أنهما كانا مسلمين , ثم عادا فصليا صلاة طويلة خاشعة ) (15)
فهذان الاعرابيان لم يجدا بأسا من تقديس صورة المسيح والعذراء لأن القرآن أشاد بالمسيح وامه مريم العذراء وفضلها على نساء العالمين، ولكن لم يدريا أن الإسلام يحرم تقديس غير الله مهما كان ذلك الغير ، رسولا او صالحا أو شريرا ..
ومهما يكن من أمر فإن مسلك الشيخين البدويين يعبر بوضوح عن عقيدة المسلمين فى العصور الوسطى كما يعبر أيضا عن عقيدة المسيحيين , فالعقيدة واحدة لدى الفريقين وهى تقديس الأضرحة والقبور والتماثيل والأصنام , والعكوف عليها والحج إليها , ثم بعد هذا يعتقد كل فريق أنه الحق والآخر على الباطل .. والواقع انهما كانا معا على الباطل ، ولأنهما اجتمعا على باطل فقد كان حظهمها معا الشقاق والنفور وتعصب كل فريق لرأيه وحربه للآخر وهذا ما يصف به القرآن الكريم جماعات المشركين ( فإنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ) البقرة :137 ــ

المصادر : ــ
(1) ـ رحلة نيبور 143
(2) ـ رحلة نيبور 65, 66
(3) ـ راجع كتابا السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة . نشر مكتبة النهضة المصرية صــ32 ..
(4) ـ رحلة نيبور 70
(5) رحلة نيبور 113
(6) السيد البدوى المرجع السبق 226
(7) ـ رحلة نيبور 213
(8) السيد البدوى المرجع السابق 299 وما بعدها
(9) ـ رحلة نيبور 219
(10) ـ رحلة نيبور 187
(11) التفصيل فى كتاب ( الأوقاف والحياة الإجتماعية فى مصر ) تأليف محمد محمد أمين
(12) ـ رحلة نيبور 229
(13) ـ الشعرانى ـ لطائف المنن صــ 274 ـ طــ .القاهرة
(14) ـ رحلة نيبور 417



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن