"ثورة"... وتقتل الحرية باسم التحرير؟

غسان تويني

2002 / 7 / 22

 
 
في الذكرى الخمسين لثورة "يوليو"، آن اوان اجراء نقد ذاتي بل نقد "عقلي - تاريخي" لو اجراه - في حينه - "الثوار" و"المثوّرون" المأخوذون بوهج "الحلم العربي"، لكنا، جميعنا، وفّرنا عن "الامة العربية" الحال التي صارت اليها، في آخر درجات سلّم قياس حريات الأمم وحضاراتها ونموّها... ولكنا، ربما، تفادينا كل هذه "النكسات" التي تكبّدناها، هزيمة بعد الهزيمة، حتى صار السلام منّة نستعطفها من العدو، ولو زيّنا الاستعطاف بمختلف عبارات التزويق الدبلوماسي، "مبادرة" من هنا، ومشروع مؤتمر من هناك!
* * *
انما الحق يقال: "البطل الاسمر"، جمال عبد الناصر، الذي قاد الامة العربية الى الحلم، كما الى الحروب والهزائم، دعاها هو نفسه الى هذا النقد، بل المساءلة والمحاسبة الذاتية، في اليوم الدراماتيكي الاكبر من نصف قرن، 9 حزيران .1967
لقد اعلن عبد الناصر يومذاك، في أصدق وأبلغ خطبة، وبلهجة مأسوية نفذت الى القلوب كالعقول، انه فشل في الانتصار في الحرب، فعليه بالتالي الاستقالة من الحكم، ففعل. ودعا الى انتخاب خليفة.
ومبادرة عبد الناصر التاريخية تلك كانت تعني، لمن توقفوا لقراءة ابعادها، ولمن يعيدون القراءة اليوم، ان الهزيمة، من حيث هي قمة الفشل في الحكم، اقل ما يجب ان تستتبعه زوال الحاكم... الزوال تلقائياً، فيستقيل او ينتحر (كما فعل هتلر) قبل ان تحاسبه الامة... او يزول بثورة (تشاوشيسكو رومانيا)... او يأسره ويزيله العدو ولو كان امبراطوراً كما في حال نابوليون!!!
* * *
اختار عبد الناصر، بطلاً، الاستقالة، فماذا حدث؟
"غضبت الجماهير"، فرفضت استقالته... وقيل ان الاستقالة ورفضها كانا تمثيلية عظمى!
لكن الحقيقة، في نظرنا، أيّاً تكن الوقائع التي لن تُكتشف حقيقتها ابداً، هي أمور ثلاثة تُبرز علل الثورة ونظامها، وهي:
1  سطوة المخابراتية
تحركت الاجهزة المخابراتية لتدفع بالجماهير الى الشارع متظاهرة تطالب ببقاء "البطل" ولو مهزوماً منهزماً، مصوِّرة للعالم وللبطل نفسه خطأ بل الخطر من "مساءلته" ولو الذاتية.
والخطر، بل الخوف الحقيقي كان خوف المخابرات من ان "تنسحب" المساءلة عليها، وعلى "العسكريتاريا" التي هي رأس حربتها، لتقصيرها في مهمة المخابرات العسكرية الصرف (وهي وظيفتها الحقيقية) فضلا عن تقصير القيادة (التي كانت بإمرة المخابرات) في التهيئة للحرب وافتراض احتمالاتها بل حساب توقيت العدو والاستعداد لمواجهته الخ... الخ... وخلاصة ذلك كله ما صار معروفا (مثلاً: سهرة الضباط الكبار ليلة الهجوم!) وحتّم "استنحار" عبد الحكيم عامر خشية ان تفتتح محاسبته بقية المحاسبات، ومنها المحاسبة في الفساد التي كانت المخابرات تحميه، عندما لا تمارسه وتنعم بثرائه الفاحش... والشعب فقير!!!
أوَنستغرب بعد ذلك ان تكون الانظمة العربية التي قلّدت الثورة الناصرية قد انتهت، شأن العراق الكئيب وسوريا الحائرة، وليبيا المتقلبة الهوية وفلسطين الزائلة!!!، الى "جمهوريات وراثية" عصبها جيوش لا تحسن سوى المخابراتية اداة حكم وحرب... وأسوأ الحروب تلك التي نقول ان ليس للعرب مسلك سواها، غير اننا نمتنع عن خوضها لعجزنا عن الانتصار فيها!
2  "الجماهيرية" بديل الديمقراطية
"الخرافة" الثانية التي هزمت عبد الناصر وأفسدت ثورته - ولو كانت من صنعه - هي الظن ان "الجماهيرية" - أي الشعبية الغوغائية - تصلح بديلاً للديمقراطية الدستورية في تمثيل الارادة الشعبية الحقة.
وقد بدأت الظاهرة التي اسكرت "البطل" في قدرته على التجاوب الخطابي مع "الشعب" المصفّق... وخصوصا عبر "ثورة الترانزيستور" التي مكّنت عبد الناصر واذاعاته من التسلّط على الرأي العام العربي، تجاوزاً حدود في كل دولة، عبر الشعارات الحماسية الفارغة من الجوهر الثوري، والتحريض السهل على الحكام، حتى صار يجوز الظن، والقول، إنّ "حكم الترانزيستور" هذا صار بديلا من الوحدة العربية النظامية لأنه حققها على مستوى "القاعدة الجماهيرية".
وفي حين ان الديمقراطية هي، في الممارسة، "نظام الانتظام" في ثوابت السلطة والمحاسبة المسؤولة والتشريع العقلاني، تحولت الناصرية الى غوغائية تحريضية "تلهب الجماهير" بالتوجه الى الغرائز التي فيها، وإلى سخطها الطبيعي على حكام فاسدين من غير تقديم بديل سوى... عبد الناصر!
والنموذج المأسوي لهذه "الخرافة" هو حال سوريا وما اصابها من انهيارات انقلابية متتالية، انتهت بلجوء آخر الانقلابيين الى مطالبة عبد الناصر بوحدة الدولتين، لأنها مخرجهم من المأزق... ولم يكن عبد الناصر، ولا مصر وحكمها، مهيأين لأيّة وحدة... فاذا بأوّل "جمهورية عربية متحدة" تنقلب بعد حين على عبد الناصر ومصره وتصيب "الحلم العربي الكبير" بأعظم انتكاسة: فبدل الوحدوية، صارت الانفصالية منتهى الوطنية.
وما يقال عن سوريا يقال افجع منه عن اليمن بل اليمنَين. وفي مذكرات الرئيس محسن العيني، وسائر اليمنيين الثوريين لو يكتبون، الخبر اليقين!
3 الثورة الباحثة عن فلسفة
علمياً، خرافة ان نستمر نقول ان الناصرية ثورة. في الاصل، بدأت كحركة انقلابية ثأرية قامت بها مجموعة ضباط ضد الملك (وقد عيّنت له خلفاً شبه بديل ولحكومته حكومة مماثلة) انطلاقا من ليلة ثأر من هزيمة عسكرية لم يكن الجيش مسؤولاً عنها... ولم يكن الثأر لسقوط القدس، ولا احتلال غزة، ولا حتى سيناء التي احتلت في ما بعد... فقط "الفالوجة"!
وبعد انقلاب "الضباط الاحرار" (الثوار) على الانقلاب، واستتباب الحكم لعبد الناصر، سُمّي الانقلاب "ثورة" ومضى يبحث عن فلسفة تصلح عقيدة حكم ثوري... فكانت نـظرية "الدوائر" المتواصلة حول مصر الثورة، والاشتراكية المرتجلة، الى آخر ما بات معلوماً... وما صار يعرف في ما بعد، والاحرى ما صار يسمّي نفسه في ما بعد "الثورة الناصرية" او "الثورة العربية في مصر" ظاهرة فريدة، بل طريفة في تاريخ الثورات لانها الوحيدة التي لم تنطلق من حركة ثورية اجتمعت حول عقيدة ثورية - ولنقل فلسفة - تستولي على الحكم لتنفيذ البرنامج الاصلاحي المنبثق منها.
وكما كانت "فلسفة الثورة" ابتكاراً ادبياً - بل صحافياً - كذلك كانت سياسات الحكم الثوري ابتكارات تمليها الظروف، من مشروع "مديرية التحرير" الزراعية (من لا يزال يتذكر الفشل الضخم في حجم الدعاية الضخمّة؟) وصولاً الى "حركة عدم الانحياز" وتمجيد "العالم الثالث" و"الدول النامية" التي صارت هي وعالمها تجعل من حال التخلّف كرامة مستطابة.
هل من حاجة بعد - وقد تغيّرت قواعد المحاور الجيواستراتيجية - الى ان نقول كيف كانت ثمة حاجة "غربية"  (اي اميركية) - الى بناء سد في وجه الشيوعية لا يكون ليبرالياً، فلا بأس اذا كان حتى اسلامي النكهة؟... الى ان انقلب سحر المخابرات الاميركية على سحرتها، فانحاز "عدم الانحياز"، ثم هوى بسقوط حائط برلين وانتهاء الحرب الباردة... وتبخرت "فلسفة الثورة" وضاعت في حجارة برلين تلو برلين، الى ان خلّفت من ركامها اصوليات هي نقيضها... وليس هنا مجال بحثها، حسبنا ذكراً اصوليات لبنانية وفلسطينية، بل افغانية وجزائرية، غامضة الاصول والابعاد!...
* * *
في الذكرى الخمسين للثورة الناصرية، هل يصح ان نتوقف عند تداعيات فلسفتها، وان نكتفي برمزيات استقالة "الرئيس" اثر هزيمة 1967 والرجوع عنها؟
كلا... مات عبد الناصر بعد "النكسة" بثلاث سنوات من غير ان يكون قد نجح في اثبات صحة ادعاء غلاة رفض الاستقالة ان "انقاذ النظام كان انتصاراً" يعوض خسارة الارض واحتلال العدو لها وبهدلة كرامة الجيش الذي ثار انتقاما من هزيمة سابقة لم يكن عنها مسؤولا.
والواقع ان "النظام" اسرف في سنيه الاخيرة الثلاث في ترميم خرافة البطل، ونجح في بناء صنمية العصمة عن الخطأ، فكيف كانت اذاً تجوز المساءلة الديمقراطية، او مجرد النقد الذاتي؟
لقد مات عبد الناصر بطلاً، ربما من فرط عذابه في لملمة الازمات التي خلّفتها الهزيمة الواجب اعتبارها مجرد "نكسة"... والتغلّب على النكسات لا يكون في الانتصار على العدو، بل على القدر. وتحدي القدر صناعة الابطال التاريخيين!!!
لذلك، انتهى امر الناصرية بمزيدٍ من تعزيز النظرة التي تقارب الكفر، وهي ان التحرر القومي يمكن ان يتم على حساب حرية الانسان وحقوق المواطن.
علماً بأن امتياز الحرية هو النقد العقلي الحر، المبنى على المعرفة... فالمحاسبة المسؤولة، ومنها محاسبة المسؤولين عن الخطأ، فكيف بالهزيمة؟
* * *
ولكن - كان يقول النظام - "كيف نحاسب نظاما هدفه تحرير الامة والوطن؟".
كأنما يمكن ان تتكوَّن أمّة حرة من مواطنين مستعبدين، يحكمهم الاستبداد والاضطهاد.
الحقيقة (البديل للخرافة!) ان بداية التحرر القومي هي في عقول ونفوس مواطنين احرار يثورون ضد الطاغية، اجنبياً كان، محتلاً، ام "وطنياً" يصير نظامه بمثابة احتلالٍ داخلي.
والواقع هو ان ما جعل قيام، ثم استمرار الحكم الناصري - وكل حكم عربي آخر انبثق منه او به تشبه - هو الاعتماد على ما  يسميه عبد الرحمن الكواكبي، فيلسوف "طبائع الاستبداد"، "جهالة الامة"...
وحيث تكون الأمة جاهلة، يجعل النظام الاستبدادي "رسالته" تأبيد جهالتها واستنقاعها في الجهالة الغوغائية... والغوغائية، وليدة "الجماهيرية"، هي عدوة الانسان المتميز عن الجمهور في ممارسة حريته والمطالبة بحقوقه الذاتية المقدسة كانسان!
* * *
في مرور خمسين سنة على "ثورة 22 يوليو"، صار يحق لنا بل يتوجب علينا ان نعلن ان وفاة "الرئيس" "بطلاً" مؤلّهاً، كانت المظهر الابرز لجهالة الامة!... انما يشرّفها ان البطل كان "الحلم المستحيل". وفي ذلك ما جعل الناس آنذاك تعلن انه مات شهيدا، ولو لم يمت (كسائر من نسرف في اعلان "شهادتهم"!...) مستشهدا في معركة في سبيل الله او الحرية.
ترى، ألَم يحن، في هذه الذكرى الخمسين، اوان تحرير "الحرية" التي استعبدتها الناصرية والانظمة التي انبثقت منها او بها تشبهت؟
انظمة ربما غُفرت لها خطيئة عجزها عن استعادة الارض المحتلة من عدو تزداد قوته... ولكن آن لنا ان نعلن بايمان وقوة ان التاريخ لن يغفر للناصرية ولا لأنظمتنا الممجّدة لها استبدادها بالانسان العربي الى حد جعلنا، في سلّم الامم، غاية في التخلّف لأننا بلا حرية ولا معرفة...
ترى، من يحررنا الآن من جهلنا  والجهالة، فندرك  ان لا حياة لانساننا، ولا مستقبل لأنظمتنا اذا لم نجعل حرية الانسان طريقنا لتحرير الأمة
والوطن؟
النهار اللبنانية


https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن