المناضل صبحي جواد البلداوي احد ركاب قطار الموت : كانوا يريدوننا موتى !

يوسف ابو الفوز

2010 / 7 / 4

كيف يمكن ان يكون اللقاء بمناضل ، هو واحد من اسماء دخلت ذاكرة البلاد عبر حكايات مرشوشة بعبق الاساطير ؟ كيف يكون اللقاء مع واحد من ركاب " قطار الموت " ، الذي دخل ذاكرة العراقيين ، كقصة تذكر بمناضلين منحوا حياتهم لاجل سعادة هذا الشعب وحرية الوطن ؟ في طريقي اليه ، عادت الى ذاكرتي كل قصة وتفاصيل قصة " قطار الموت" ، الذي كان تمرينا أول للجرائم الجماعية المنظمة لحزب العفالقة . كان "قطار الموت" طريقة الانتقام من الشيوعيين والوطنيين من انصار ثورة 14 تموز التي وادها انقلاب 8 شباط 1963 ، الذي ما ان اختلف قادته حتى فضحوه ، بأنه جاء بقطار امريكي ، على عهدة علي صالح السعدي احد قادة الانقلاب ! "قطار الموت " كان خطة انتقام جهنمية من ابناء العراق نفذها حزب دموي ، لا تخطر الا للشياطين والابالسة من القتلة ، أذ وضعوا في عربات حديدية لقطار حمل عادي ، حوالي 500 سجين شيوعي ووطني ، من العسكريين والمدنيين ، وامروا السائق بالسير البطيء ، ليموت الجميع من الحر والعطش والاختناق داخل العربات ، لكن السائق البطل والشهم ، عبد عباس المفرجي ، قلب لهم الموازين بشجاعته وبسالته ، فكان ان انقذهم ،ولم يستشهد منهم ، سوى الشيوعي الرئيس يحيى نادر .
عند باب البيت ، في أحد احياء بغداد الشعبية ، بكل تواضع المناضلين الكبار ، متوكئ على كبرياء السنين ، استقبلني مرحبا ، وضغط علي يدي بحرارة وابتسامة عريضة تفترض وجهه المشرق . كان من حولنا يقف ابناؤه النجباء ، وكانت الى جانبه زوجته ، رفيقة رحلته في النضال والعذاب . كان كبر العمر واعتلال الصحة واضحا على بطلنا ، وهو يحاول ان يعتصر ذاكرته ، فتتداخل الاسماء والاحداث احيانا ، فتكون الزوجة معينا جيدا للتدقيق .
المناضل صبحي جواد البلداوي المعروف بأسم ابو جميل ، مواليد 1932 ، في شبابه المبكر كان من المساهمين في وثبة كانون 1948 حيث تبلور فكره الوطني ، وسرعان ما انتمى لصفوف الحزب في بواكير حياته ، انهى الدراسة الثانوية وتعلم مهنة الطباعة فكانت ان حددت له مسار حياته ، اذ صار من الشيوعيين العاملين في مطابع الحزب السرية، وكان نصيبه العمل في جريدة " صوت الفلاح " السرية ، التي لاجلها كان يسكن مع زوجته أم جميل السيدة أديبة محمد سلمان مواليد 1940 في بيت حزبي مغلف بالاسرار والكتمان . عن هذه المهمة قال :
ـ كان المشرف على البيت هو الرفيق ستار الخوجه ، انتقلنا الى بيت في الكاظمية ، بعامين قبل ثورة 14 تموز 1958 ، وبقينا هناك كل الوقت حتى ايام انقلاب 8 شباط 1963 ، كانت مهمتي تنضيد الحروف وطبع الجريدة من صفحتين واحيانا اربع صفحات . لم اتعرف على اي من محرري الجريدة ، كانت تصلني المواد عبر المسؤول الحزبي وكنت انضدها واطبعها وعن طريقه تنتقل الملاحظات مني وألي . لم نكن نختلط بأحد ، وكنا نبتعد حتى اهلنا واقاربنا للحفاظ على اسرار البيت وكتمانها ، وخصوصا من اجل عدم كشف وجود المطبعة ، بعد اعتقالي التي حصلت بسبب بعض الاعترافات صودرت المطبعة من قبل انقلابي 8 شباط .
* ومتى كان اعتقالك ؟
ـ اعتقلت ليلة 19 ـ 20 اذار 1963 ، ولم يتسن لنا نقل المطبعة وتغيير مكانها ، اذ كانت شدة موجة الاعتقالات والترقب والحذر يسودان الوضع ، لكن انهيار بعض من كان له علاقة بعمل المطبعة كان السبب في كشف المكان والاعتقال ، واذكر ان آمر القوة التي اعتقلتني كان أسمه "احمد طه العزوز " ، وكانوا في البداية يريدون تصفيتنا فورا .
تتدخل ام جميل لتضيف وتقول :
ـ كانوا اكثر من عشرين مسلحا ، كلهم بالخاكي ، ورشاشات قصيرة ، ووضعوها فوق رؤوسنا ، وراحوا يسألون عن اسماء من يزور البيت ، وماذا يجري في الاجتماعات داخل البيت ، فقلت لهم بأني لا اعرف شيئا وانا ام لاربعة اطفال ، وحامل ، وانا مجرد زوجة انفذ اوامر زوجي . اقتنعوا بعض الشيء بكلامي وتركوني ولكنهم اخذوا يحققون فورا مع ابو جميل .
يضحك ابو جميل بصفاء ، وهو يتذكر تلك الايام ، وهو يحكي لنا كيف ان ام جميل لمشاغلتهم بادرت وقدمت لهم كليجة وحليب وشاي ساخن وراحت تبدو كربة بيت ممتازة وغير معنية بالامور الحزبية ، ويضيف :
ـ كان قرار قتلنا وتصفينا في بالهم ، لكنهم اختلفوا فيما بينهم حول التنفيذ ، وقرروا اخيرا ان يتركوا ام جميل والاطفال ، واعتقلوني فقط ، فأخذوني فورا الى سجن قصر النهاية ، وهناك كان الحظ الى جانبي ، فالى جانب رئيس هيئة التحقيق في قصر النهاية المدعو مدحت ابراهيم جمعة ، كان هناك ابراهيم العاني المعروف بأسم ابو رفعت ، وهو من كوادر البعث ، وكان خاله هو قاسم محمد علي العاني من الضباط الشيوعيين المعروفين ، وهذا يكون ابن عمتي ، فلعب الجانب العائلي هنا دورا في انقاذي من الاعدام ، اذ كنت اجلس ضمن مجموعة من الرفاق السجناء ، اذكر من بينها الشهيد لطيف الحاج والشهيد حسين فرمان ، فجاء ابراهيم العاني لينهرني بعنف دون يكشف انه يعرفني ويأمرني بالنهوض ، واجلسني ضمن مجموعة اخرى من السجناء ، اذكر منهم الصحفي ابراهيم الحريري ، وكان الاعدام من نصيب المجموعة التي كنت معها اولا ، وانا شخصيا كنت اتوقع الاعدام لان اعتقالي في بيت حزبي مع مطبعة يجعلهم يظنون اني كادر متقدم جدا في الحزب .
وبصعوبة يواصل أبو جميل ذكرياته :
ـ في قصر النهاية ، كان التعذيب هو غذاءنا اليومي ، كانوا يطالبون بمعلومات وتأييد اعترافات ، انا كنت اتحجج بكوني عامل مطبعة وليس كادرا في التنظيم ، فلا اعرف سوى مسؤولي الذي اعدم في الايام الاولى من الانقلاب . وبعد قصر النهاية نقلوني الى سجن معسكر الرشيد ، وبقيت هناك حتى حركة حسن سريع وبعدها نقلنا بقطار الموت .
وتوقفنا كثيرا مع ابو جميل في شرد وقائع تلك الايام ، ولانعاش ذكرته رحنا نتحدث عن انطلاق انتفاضة معسكر الرشيد كرد على انقلاب 8 شباط الاسود ونشاط الشيوعيين داخل الجيش ، وحاولنا معا اعتصار ذاكرته لنعرف شيا من التفاصيل عن ما جرى صباح يوم نقل السجناء الى القطار وماجرى خلال رحلة القطار ، الا ان وضعه الصحي وذاكرته لم تسعفنا الا بلقليل :
ـ من بعد اسبوعين من البقاء في سجن قصر النهاية نقلونا ، حوالي عشرين مدنيا ، الى سجن معسكر الرشيد ، وكانوا يسموننا المجموعة الثانية ، واذكر كان معي الفقيد المعلم عبد علوان ، وستار زبير ، وكريم الحكيم ، وهناك في سجن معسكر الرشيد كان يوجد أكثر من 300 ضابط شيوعي من مختلف الرتب ، وفي سجن معسكر الرشيد اذكر كان معي غضبان السعد ، وبعد حركة حسن سريع نقلونا الى قطار الموت فجرا ، وكنت في العربة التي فيها غضبان السعد وسمير القاضي ، وكانت رحلة صعبة ، خصوصا مع اشتداد حرارة الشمس ، وكان جحيما حقيقيا ، كانوا يريدوننا موتى ، ولكن سائق القطار البطل واهل السماوة الابطال انقذونا وكان ردا ذا معنى على الانقلابين . اذكر كيف اني بعد ان اخروجوني من جهنم عربات القطار ارتميت على الارض لا اقوى على الحركة وكان اهل السماوة يرشونا بالماء ، ثم جاءت نساء وزعت علينا الملح والاكل . ثم بعد ساعات نقلونا الى سجن نقرة السلمان .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن