علي والعدالة الاجتماعية

علي محمد البهادلي
ali_albahadli2003@yahoo.com

2010 / 6 / 26

هناك أناس نذروا أنفسهم من أجل قضية حرية الإنسان والقضاء على التمييز بين أبناء البشر وتحقيق العدالة الاجتماعية وحرموا أنفسهم من كل لذائذ هذه الدنيا لمواساة المستضعفين والبائسين الذين لا يفتأ الزمان أن يجود بالملايين منهم ، لكنه ، أي الزمان ، شحيح بتخريج الناس الموسرين الذين لا تفاوت طبقي كبير وشاسع بينهم ، وحتماً أن هذا الوضع هو من صنع كبار الملاكين الذين يريدون أن يبقوا على رأس الهرم في المجتمع وفي الوقت نفسه يضعون الأسلاك الشائكة في طريق البائسين والطبقات الكادحة لمنعهم من الوصول إلى حالة تقترب ولو قليلاً مما يصبون .
عليٌّ الرجل المثالي بكل ما للكلمة من معنى هو ذلك الإنسان الذي ناضل وجاهد في سبيل تحقيق تلك العدالة ، فهو ما برح أن رافق ابن عمه منذ نعومة أظفاره لمساعدته في إنجاز المشروع التغييري الثوري الكبير الذي ابتدآه بالأفراد المعدمين والعبيد والمستضعفين ، وضخ مجموعة من المفاهيم والشعارات الثورية التي ألهمت الصحابة الأوائل الروح الاندفاعية الكبيرة التي بوساطتها مرغوا أنوف أصحاب المصالح وسدنة البيت العتيق وهم أنفسهم الذين قادوا مشعل الحرية والوعي إلى أطراف أوربا ومشارف الصين .
إن التجربة الإسلامية قد اعتراها بعض التلكؤ والانحراف عن المسار الصحيح ، واستطاع اللوبي الأموي أن يدفع بقوة أفراده إلى التوغل بين أصحاب هذه التجربة ومن ثم إعادة المعادلة إلى ما كانت عليه " حيث أبو سفيان السيد وبلال العبد " ونجحوا بشكل كبير جداً في هذا المجال ، فقد أحرز معاوية بين أبي سفيان العدو وابن العدو اللدود للإسلام منصب والي الشام ومن ثم استطاعوا ، بعد أن اعتلى الخليفة الثالث كرسي الخلافة ، الاستحواذ على الكثير من مناصب الدولة الإسلامية من شرقها حتى غربها إلى أن انتهى الأمر أن أصبحت الدولة بعد استشهاد الإمام علي أموية بكل ما للكلمة من معنى واستهين بكل المقدسات ومنها كرامة الإنسان وحريته .
لقد أدرك الإمام علي بعد أن بويع له بالخلافة خطر هذا الوضع ، خطر الأمويين أشد أعداء التجربة ، وحاول ما استطاع إلى ذلك من سبيل أن يقضي على الآثار التي خلفها من كان قبله واسترداد أموال المسلمين التي اختلسها ولاة بني أمية والأراضي التي اقتطعوها ، حتى نستطيع القول إنه في لغة السياسة الحالية لو أنه كان قد فاوض بعض الأمويين وجاملهم ودخل في باب التسويات والتوافقات ولم يصر على عزل معاوية وغض النظر عن بعض الفاسدين لما كان حصل الذي حصل من اضطراب سياسي وسفك دماء ، لكنه كان يعلم بذلك جيداً ويعلم أنه لو فعل ذلك فقد سعى إلى الإجهاض على المشروع الكبير الذي كان يصبو إليه ، فغضُّ النظر عن الفاسدين والمجرمين يعني إضفاء المشروعية على أعمالهم الذميمة ولكان أتباع علي يحتذون حذوه من بعده في طريق المداهنة والمجاملة ولما سمعنا الانتفاضات التي قام بها خط علي ضد المستكبرين على مر العصور من انتفاضة أبي الأحرار الحسين إلى ما شاء الله من الثورات التي ستُكلَّل إن شاء الله بإقامة دولة العدل الكامل على أيدي النخبة الواعية .
فلنأخذ بعض الدروس من مدرسة علي في الحكم والسياسة العاقلة ؛ لنستفيد منها في الواقع المعاصر ولنتبين وجهة نظر علي ، ماذا كان موقفه من الأحداث التي تجري لو كان موجوداً الآن .
يقول المفكر الإيراني علي شريعتي إن علياً يكاد يكون الشخصية الوحيدة في التأريخ الذي اتسم عهد معارضته بالهدوء وعدم الاضطراب وهو ما يدلل على أن معارضته كانت من أشرف المعارضات ؛ لأنها كانت تبغي التغيير من خلال الموقف الرشيد الواعي ، وليس من خلال الموقف الانتهازي الذي يبغي أن يستغل كل الفرص في سبيل تحقيق غاياته الشخصية حتى لو كانت على حساب أرواح الأبرياء والمساكين والقيم والمبادئ وتهديد الوضع الداخلي كما يفعل بعض السياسيين في وقتنا الحاضر في القرن الواحد والعشرين الذي يفترض أنه قرن العلم والوعي والاستبصار ، أما الوضع أيام خلافته وحكمه فقد تميز بالاضطراب السياسي وحدوث الفتن وإزهاق أرواح آلاف المسلمين ؛ لأنه أبى إلا أن يصحح مسيرة التجربة الإسلامية ولا يمكن ذلك بشكل سلمي دون إراقة الدماء ، إذ إنه من السذاجة أن يتنازل خصمك الانتهازي الذي استمات من أجل الوصول إلى مراكز مهمة في الدولة عن امتيازاته بسهولة ، وهناك شيء آخر هو أن الآخرين الذين يحسدون صاحب المبدأ والرجل الناجح يرون فيه الصخرة التي عليها تتحطم آمالهم ، فيحاولون ما استطاعوا إلى ذلك من سبيل إلى التدليل على أنه رجل فاشل وغير صالح للقيادة وأن البديل الذي لا مناص منه هو إيكال الأمر إليهم حتى يبرهنوا على أنهم الأصلحون ، وهو نفسه ما يجري حالياً في العراق إذ كل يريد أن يثبت أجدريته بالقيادة والحكم ، أما الوسيلة التي يبرهن بها على ذلك فليس مهمة في نظره ، سواء بالتفجير والتفخيخ أو تحريك الشارع وتوتيره عبر الخطابات الطائفية والقومية ووضع العراقيل أمام المنافسين، هذا ما جرى على علي حتى قيل أنه رجل لا علم له بالسياسة أو أنه ليس له دهاء ، وهو ما رده ( عليه السلام ) بقوله : (( والله ما معاوية بأدهى مني لكنه يغدر ويفجر )) فالوعي السياسي وفهم الواقع شيء ، واستعمال الوسائل الدنيئة للحصول على المكاسب شيء آخر ، فما همَّ علي أن الناس كلهم يلجؤون إلى معاوية أو غيره من أباطرة العالم وأكاسرته ، المهم عند علي أن يمشي على وفق المنهج الأخلاقي الصحيح الذي يقره العقل والدين ، أما ما يراه الناس بعقولهم القاصرة والمطبوع على قلوبهم من ضعيفي الإرادة والإيمان فهو وكل ملذات الدنيا التي تأتي بسببها بما في ذلك الخلافة " أزهد عنده من عفطة عنز " كما عبر هو عن ذلك في خطبه المشهورة .
أما المظاهر الأخرى لعدالة علي الاجتماعية فهي اهتمامه الكبير والبالغ بالأيتام والفقراء وعدم مبالاته بأصحاب المناصب والأثرياء إلا أن يكونوا في عداد الثلة التي تلتزم خط الدعوة إلى الأهداف النبيلة ، وانظر إلى خواص علي ماذا ستجد ؟ ستجد الكاسب بائع التمر والمولى ، هؤلاء هم خواص علي ؛ لأنهم كانوا من الطبقة الكادحة التي عانت ما عانت من قسوة الظالمين وغطرستهم ، وهم بذلك قادرين على تحمل تعاليم الرسالة التي تبشر بالعدل والمساواة بين البشر وإنصاف المظلومين أما لو أنه اتخذ خاصته من "أشراف الناس" وطبقة النبلاء فلم يستطع السير بهم خطوة واحدة ؛ لأنهم أصحاب المنافع والمصالح التي جاءت الرسالة من أجل تحطيمها أو توجيهها الوجهة المشروعة ، وهو ما يأباه غالبية هؤلاء .
أما في مجال حرصه على أموال الدولة والناس فهو لا يدانيه فيه أحد ، بل سيصمه كل من عرف الحوادث التأريخية التي تشير إلى ذلك بعدم امتلاكه اللباقة أو سيصفه آخرون بالمتصوف أو المرتاض ، ولا يعلمون أن علياً هو تطبيق عملي واقعي لما جاءت به الشرائع السماوية ولا يحيد عنها سواء في محراب الصلاة أو في سوح الوغى أو في الشارع والدكان أو في بيت المال ، فرجلان من المسلمين يدخلان عليه وهو جالس في بيت المال ، ويشاورانه في بعض القضايا الشخصية التي تصب في مصلحتهما مما لا يندرج تحت عنوان مصلحة المسلمين والدولة الإسلامية ، فيلتفت إلى الشمعة فيطفئها ؛ لأنها حسب قوله أشعلت من اجل قضايا المسلمين العامة ، وبما أن قضية الرجلين ليستا من القضايا العامة فمن الإسراف أن تبقى الشمعة مشتعلة ، بل هو خلاف مشروعية التصرف بالمال والممتلكات العامة ، فهل في زماننا هذا من يقتفي أثر علي في ذلك ؟
فليقف ساستنا وقفة تأمل في محطات السيرة العطرة لأمير المؤمنين في السياسة والحكم والقضاء ومحاسبة الفاسدين ، لا سيما أن الكثير منهم جاء إلى السلطة باسم علي ومذهبه !!



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن