كيف يتوجب علينا النظر الى ماكتبه كيسنجر مؤخراً حول العراق ؟

دياري صالح مجيد
diyary_mageed@yahoo.com

2010 / 3 / 5

لم يكن هذا الشخص يوماً رجلاً عادياً في بلاده منذ ان تبؤ مناصب مهمة في السياسة وشغل برؤاه الواقعية العديد من النقاشات التي اثيرت تجاه رؤيته للسياسة التي على بلاده اتباعها في مناطق العالم المختلفة وبالذات منها تلك التي تعد نقاطاً ساخنة على خارطة العالم الجغرافية , كما هو الحال دوماً مع دول مثل افغانستان والعراق على سبيل المثال .

اليوم يطل علينا هذا الدبلوماسي والسياسي القديم , رغم انه لا يشغل اليوم منصباً رسمياًً في فريق اوباما , برؤية ما يبدو انها لن تغيب عن مخططي السياسة الامريكية حينما يضعون اوراقهم على الطاولة لمناقشة ما عليهم فعله مستقبلاً تجاه العراق خاصة بعد انسحابهم المزمع في عام 2011, تلك الرؤية اكد فيها كيسنجر على بعض القضايا المهمة التي يبدوا انها تغيب تماماً عن ادراك وتصورات صناع القرار السياسي في العراق , وهو ما نستشعره بدقة ووضوح في التوجه الدعائي للانتخابات القادمة وفي سطور الخطاب السياسي للعديد من قيادات هذه الاحزاب التي لا تعرف سوى التفكير في كيفية الوصول الى ما يهيئها لحكم البلاد , تاركةً مستقبل العراق في مهب الريح وعرضة لما تاتي به الصدف من حسنٍ او سيءٍ من الامور , متجاهلة بان القرارات التي ستُتخذ من قبل مخططي الاستراتيجية الامريكية , هي التي ستحدد مستقبل العراق وليس الانتخابات لوحدها فحسب , رغم كونها مهمة , لكنها ليست كل شيء , فالذي يقرا عقلية السياسي الامريكي بنجاح , يستطيع ان يميز طبيعة التوجه السياسي الذي يحقق من خلاله نوعاً من التوازن بين ما يريده العراق شعباً وما تريده امريكا امنيأ واقتصادياً بالدرجة الاولى في هذه الرقعة الجغرافية , ومن يفعل عكس ذلك , لا اعتقد بان الانتخابات , ومهما كانت نتائجها لصالحه , ستقف سداً منيعاً يحميه من رياح التغيير التي قد تُسرع الاحداث والتفاعلات الاقليمية وربما الاداء السياسي ذاته في العراق , من عملية هبوبها العاصف الذي سيُغير بلا شك الكثير من القناعات التي بدت فعلاً برسم خطوط واضحة لا يمكن لكل ذي بصيرة الا الاعتراف بها , والا فان الاعمى اذا ما نفى وجود الشمس , فان ذلك لا يعني مطلقاً بانها فعلياً غير موجودة , وهنا لا نريد ان نكون كلنا من العُميان , خاصة واننا ندرك بان امريكا بلدٌ تحركه المصالح وليس المباديء .

اكد كيسنجر على ان الخطاب الاخير لاوباما افتقد الى التركيز بشكل كبير على العراق لكن ذلك لم ينفي بقاء العراق في قلب التحليلات والرؤى التي ننظر بها الى عالم السياسة وكالاتي (( بالرغم من ان العراق تم اقصاؤه من نقاشاتنا الا انه ظل حاضرا في وعينا كما ان انسحاب القوات الامريكية من العراق لن يغير من اهمية البلاد الجيوستراتيجية حتى وان تغيرت الملابسات المحيطة بها )) . لن نضيف شيئاً هنا اذا ما اكدنا الاهمية الجيوبولتيكية للعراق في الفكر الاستراتيجي الامريكي , مما يقلل من اي احتمال لترك البلاد وما تمثله من مصالح لاميركا, تغرق في فوضى غير مسيطر عليها , لكن هل من قادتنا الجدد من وضع هذا الخطاب والرؤية المستقبلية في نظر الاعتبار وأعدَ سلفاً الادوات والاستراتيجيات التي يمكن في ظلها التعامل مع الاحداث المستقبلية ؟ وهل من يفكر جدياً بكيفية استثمار المكانة الجيوبولتيكية للعراق من خلال هذا الزخم الذي يحظى به في فكر الادارة الامريكية , لما يخدم العراق كدولة ؟ للاسف كل المعطيات تدلل على اجابة واحدة هي النفي بالمطلق .

يضيف كيسنجر في مقالته اشارة اخرى يؤكد فيها ((لقد كانت بلاد الرافدين هي النقطة الاستراتيجية المحورية للمنطقة طوال الألفية الماضية، وكانت مواردها تؤثر على دول بعيدة عنها للغاية. بالإضافة إلى أن الخط الفاصل بين عالمي الشيعة والسنة يمر في مركزها، بل عبر عاصمتها، وتقع المقاطعات العراقية الكردية في أجواء من التوتر بين تركيا وإيران وخصومها الطبيعيين في العراق. وبالتالي فليس من مصلحة الأميركيين أن يتركوا المنطقة في حالة فراغ سياسي. )) هذه الفقرة بالذات يمكن للمرء ان يكتب في تحليلها العديد من الصفحات في ظل الاشارات المهمة التي تضمنتها فاولا الموارد وعلى راسها النفط العراقي الذي لا يمكن لامريكا الاستغناء عنه لموازنة اسواق الطاقة والتحكم عبره بالاسعار , ثم الموقع الجغرافي للعراق الذي يراد له اليوم ان يكون مساحة جغرافية مهمة ليس للفصل بين العالم الشيعي والسني ( كما يدعي كيسنجر ذاته ) الذي لا تُعرف له حدود واضحة , بقدر ما يُراد له ان يكون دولة حاجزة على الاقل للفترة القادمة من الزمن بين ايران واسرائيل وبين ايران وبقية الدول التي يُطلق عليها بدول الممانعة العربية التي يكن معظمها العداء الواضح والصريح لامريكا واسرائيل على السواء , الامر الذي قاد البعض الى التناغم مع افكار وطروحات الادارة الامريكية عبر طرح مفهوم الهلال الشيعي وتضخيم حجم المخاوف في اذهان صناع القرار السياسي من امكانية هذا الهلال على الامتداد الى مجمل المنطقة , لذا سيبقى العراق وفقاً لهذه النظرة الاستراتيجية ذات المرتكزات الجيوبولتيكية ساحة جغرافية للصراع بين كل هذه الاطراف , مما يدعونا الى ان نتسائل هنا ايضاً هل من رؤية ستراتيجية واضحة للقادة العراققين تجاه التعامل العقلاني مع هذا الموضوع بهدف استثمار العناصر الجغرافية المؤثرة للعراق من اجل تعزيز مفهوم جيوبولتيكا السلام على الارض العراقية ؟ امرٌ لا بد انه لم يخطر بعد بهذا العمق على اذهان اغلب ان لم يكن كل قادتنا السياسين , الذين لا يقدرون بشكل جدي مدى خطورة هذا الامر على حياة الفرد والمجتمع العراقي .

واذا ما كان واضحاً وبشكل جلي ان الامريكان لن يتركوا المنطقة في حالة من الفراغ الذي يمكن ان يُستثمر من قبل القوى الاخرى , فهل اعد ساستنا العدة للتعاطي مع هذا التوجه بما يخدم العمل على تحقيق نوع من توازن المصالح بين الفرقاء عبر اغراق الجميع في مصالح متشابكة على ارض العراق لتحقيق نوع من التوازن الذي قد يتحول الى احد المفاتيح المهمة لادارة الصراع من قبل اللاعب العراقي نفسه ؟ . هو الاخر امر لم نشهد له اي ملامح واضحة او مرتكزات اولية بعد , مما سيقود امريكا بالتاكيد الى العمل على تبديل ستراتيجية التعاطي مع الاحزاب الحاكمة في العراق باتجاه الضغط نحو ايجاد حلفاء جدد يضمنون لها الاستفراد بالعراق او الدفاع بشكل او باخر عن المصالح العليا للامريكان هنا على ارض العراق .

تبقى هناك مسألة مايسميه كيسنجر بالجهاد الثوري , فهو يعد العراق منطلقاً رئيسياً في تعزيز معركة بلاده ضد الاسلام الاصولي , بالتالي هذا الامر لا يعني الا ان امريكا لا يمكن ان تضع ثقتها بالاحزاب الاسلامية على المدى البعيد سنية كانت ام شيعية , لانها تدرك حجم الخطر الذي يحكم علاقتها بهذه الاحزاب ودورها في امكانية اشاعة اجواء الصراع داخل العراق في تنافس غير متوازن على السلطة يستخدم فيه كل طرف من الاطراف كل الوسائل المتاحة لديه لنفي الاخر في معركة يمتزج فيها المحلي بالاقليمي , ولا يغيب عنها المؤثر الامريكي الذي اختبر عمق هذا الفعل على مصالحه خلال السنوات الماضية في العراق , لذا لا اعتقد بان امريكا ستسمح لذات التوجهات برسم معالم الخارطة السياسية للعراق خلال المستقبل بهذه الصيغة , وستلجا بحسب الضرورة ربما الى الكثير من الشخصيات التي كانت معادية لها في فترة ما , من اجل كسب ودها عبر المجيء بها اما لحكم البلاد او المشاركة به , وهو ما قد يغرقنا كعراققين في مرحلة قادمة من الدم والاقتال , لذا يتوجب على القادة العراقيين جميعاً التفكير في كيفية الابتعاد بالبلاد عن شبح مثل هذا السيناريو والقبول بقدر من التفاهمات بين الاحزاب وفقاً لرؤية وطنية صادقة وليس مصلحة وقتية وضيقة .

ان الرؤية الاستراتيجية التي طرحها كيسنجر لا بد سياتي يوم نتاكد فيه من عمق تاثيرها في توجيه سياسة بلاده نحو العراق , لكن بالمقابل كم من مفكر عراقي كتب ويكتب لتوجيه سياسة بلاده توجيهاً صحيحاً دون ان يجد ذلك الامر اي اهتمام من قبل ساستنا الافذاذ , فهل سنشهد اي تغيير في توجيه الاستراتيجية العراقية للتعاطي مع المستقبل ؟ امر يمكننا ان نقول انه قد بدء عندما يتم الاهتمام بما يٌكتب في الشأن العراقي وبما يخدم العراق اولاً واخراً .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن