مجرد أصفار (اقتصاد)

محمد باليزيد

2010 / 2 / 14

حين أضع بين يدي كتابا اقتصاديا وأتوغل فيه وفي معطياته، غالبا ما أجد نفسي مهتما بالمضمون "غير العددي" للمعطيات فقط. فمثلا حين يكون الكلام عن الدخول فأن ما يهمني هو الفرق الشاسع بين دخل فئة وفئة أخرى من المواطنين. لكنني لا أعير اهتماما كبيرا للعدد بالضبط الذي يشكل دخل الفئة الغنية هل هو ملايين أو مليارات الدولارات. إننا نستطيع التعامل مع الأعداد بكل جدية وبكل صرامة وانتباه ما لم تتجاوز هذه الأعداد حدا معينا، هذا الحد الذي هو بضعة آلاف بالنسبة للبعض وبضعة ملايين بالنسبة للبعض الآخر وهكذا...لكن ما أن تتجاوز الأعداد، بالنسبة لكل شخص، الحد الذي نمتلكها فيه/نتحكم فيها، حتى نغدو غير قادرين على مسايرتها أو فهمها، وبالتالي نجعلها خارج مجال اهتمامنا. فمثلا بالنسبة لشخص بالكاد يكسب قوت يومه، ولا مجال هنا للحديث عن الأمي أو غير المتعلم، فإنه لا يرى فرقا كثيرا في أن تقول له أن ثروة أغنى رجل في بلده هي 20 مليون دولار أو 20 مليار دولار. فهذا الشخص، المتعلم، يعرف جيدا أن المليار هو ألف مليون. يعرف أن الفرق بين العددين هو ثلاثة أصفار لكنه لا يحس ثقل هذا الفرق في الواقع ولا يستطيع أن يتخيل مدلول ذلك. ولا نعني بنقص القدرة على التخيل نقص قدرة عقلية فطرية، إنما نقص ناتج على أن قدرة فطرية لم تُصقل ولم تتبلور بفعل التعامل الحياتي اليومي مع هذه "الكائنات" العددية من الصنف العالي. فأن تقول لهذا الشخص أن هذه الثروة هي20 مليون أو20 مليار يشبه القول لشخص غير متخصص في علم الفلك بأن المسافة بين المجرة "أ" والمجرة "ب" هي مليون سنة ضوئية أو مليار سنة ضوئية. ففي كلتا الحالتين، 20 مليون أو20 مليار، فهو لا يفهم سوى أنها مسافة بعيدة جدا ويبقى الفرق بين العدد الأول والثاني بالنسبة له مجرد أصفار. ومما زاد هذه الدوخة هو أن الأغنياء في العالم، أو في بلد ما، كانوا يعتبرون أولئك الذين يملكون الملايين، ثم، بعد ظرف وجيز بالنسبة لحياة الشخص الواحد، أصبحوا هم أولئك الذين يملكون الملايير. والآن لا نعرف أين وصل العدد.
لكن إذا كان خلط كهذا لا يشكل مشكلة كبيرة بالنسبة لقارئ، فإن خطورة الأمر ليست كذلك حين يتعلق الأمر بكاتب أو محلل اقتصادي أو أي شخص منتج للمعرفة يتأثر بإنتاجه العديد من البشر. لقد دفعني إلى كتابة هذا المقال ما لاحظته من خلط قي الأعداد، في العديد من الأماكن، في الكتاب: انهيار الرأسمالية. للكاتب أولريش شيفر. فرانكفورت 2009. ترجمة عدنان عباس علي. نشر سلسلة عالم المعرفة. العدد 371 يناير 2010. إن ملاحظتي هذه الهفوة وإشهارها لا يعني أبدا التقليل من قيمة الكتاب. فبدون مجاملة أقول أن المنهج الذي كتب به الكتاب وكم المعلومات الهائل يجعله في نظري كتابا جيدا جدا. لقد أعجبت بمنهج الكتاب كثيرا، رغم أنني لا أستطيع وصفه لقارئ هذا المقال. وأظن أن سبب هذه الهفوة في اعتقادي هو أن الكاتب اعتمد طبعا، نظرا لحجم الكتاب وكم المعلومات، على الكثير من المراجع والوثائق ولم يستطع نظرا للجهد الكبير الذي طلبه منه العمل أن يكتشف أن تلك المراجع تحتوي معلومات متناقضة. لننظر إلى الملاحظات:
1) جاء في الصفحة 195: "فقد ارتفع حجم المتاجرة بالمشتقات التقليدية، أي حجم المقامرة على معدلات الفائدة ومؤشرات البورصات، بين العام 1986 والعم 2004، بنحو ثمانين ضعفا- ارتفع من 614 مليار $ إلى 46.6 تريليون $." حسنا ، لنجري العملية:
614 مليار (هي 614.109)X 80=49120.109 أي حوالي 49.1012 وهي بالتقريب 46.6.1012 فهل 1012 هي تريليون؟ إن 1012 حسب معرفتي هو البليون(ألف مليار أو مليون مليون) أما التريليون فهاكم تعريفه:
Trillion ( prononciation) n.m : un milliard de milliard (soit 1018).
عن المعجم الفرنسي (Le micro-robert) للمؤلف (Alain Rey) طبعة باريس 1992.
لقد ضرب العدد إذن في مليون لأن الفرق بين 1018 و 1012 هو 106 أي مليون.
2) جاء في الصفحة 228: "وتشير التقديرات إلى أن الأغنياء الأمريكيين قد هربوا إلى العالم الخارجي ثروة تقدر بعدة بلايين(1012) $... واحات ضريبية ... وتسبب هذه التصرفات كل عام في حرمان المصالح الضريبية من عوائد ضريبية تقدر بمائة مليار(100.109) $ (بمعدل 10% من المبلغ)، وفق تقديرات اللجنة الفرعية التابعة لمجلس الشيوخ الأمريكي. وكانت المنظمة غير الحكومية المختصة بالكشف عن التهرب الضريبي، أعني المنظمة المسماة، tax justice network، قد أشارت إلى أن أغنياء العالم أخفوا في الواحات الضريبية في العام 2005 ما قيمته 11.5 مليار دولار أمريكيا." إذن لقد أخفى:
أغنياء أمريكا: عدة بلايين، 2.1012 على الأقل
أغنياء العالم: 11.5.109 ي أقل من 100.109 = 1011 فهل يعقل أن يكون ما يهربه أغنياء أمريكا أكثر بكثير مما يهربه أغنياء العالم؟؟
3) جاء في الصفحة 203: "وهكذا، وبسرعة البرق، اختفى الفائض الذي حققه الرئيس السابق عليه(على بوش الإبن) في السنوات الأخيرة من حكمه، أعني بيل كلينتون. ففي دورة انتعاش الاقتصاد الجديد(1) في العام 2000 سجلت الحكومة الأمريكية في ميزانيتها فائضا بلغ 236 مليار$(236.109). وكان الخبراء، المختصون في الكونغرس بتقدير الإرادات الضريبية، قد تنبؤوا بتحقيق فائض يبلغ 5.6 تريليون $ في السنوات العشر المقبلة."
فائض سنة 2000 هو: 236.109 $
فائض سنة 2010 سيكون: 5.6.1018 $
فائض حكومة سيتضاعف خلال عشر سنوات حوالي 2370 مليون مرة!! (أي2370000000 مرة) مجرد أصفار. لكن، حتى وإن أسقطنا هذه الأصفار الستة التي يمكن أن تكون مجال خلط، فهل يمكن لفائض حكومة أن يتضاعف 2370 مرة خلال عشر سنوات؟
4) نتابع في الصفحة 203: "حققت الميزانية العمومية سنة2001 فائضا بقيمة 128.109$. لكن سرعان ما وصلت الأمور العجز الذي بلغ سنة 2004 412.109 $. أي حوالي 3.6 % من قيمة إجمالي الناتج القومي الأمريكي."
إذن فإجمالي الناتج القومي الأمريكي لسنة 2004 هو:
(412.109 $) مقسومة على (3.6 %) = 11.4.1012$.
إجمالي الناتج القومي الأمريكي إذن يقاس ببلايين(1012) الدولارات، فمن أين ستأتي تريليونات(1018) الدولارات التي سيصل إليها العجز؟؟ كما يضيف الكاتب في الصفحة 202-203: "ففي سنوات حكمه، بوش الإبن، ارتفعت مديونية الحكومة من نحو 3 تريليونات$ (3.1018)إلى ما يزيد على 6.2 تريليون $(6.2.1018). ؟!؟!؟
5) ثم يتضح اللغز في الصفحة 309 حيث قال الكاتب: "وتعددت الآراء، في ألمانيا، حول قيمة خطة الإنقاذ: هل هي 400، 450 م 470 مليار يورو؟ ..... وهكذا قررت ميركل في نهاية المطاف المبلغ الضروري: 500 مليار يورو. أي ، نصف تريليون يورو، وذلك لأن لهذا المبلغ رنينا مدويا في الأسماع."
الهوامش:
1) يعني الاقتصاديون بالاقتصاد الجديد اقتصاد التسعينات من القرن الماضي وما بعدها حيث ظهر إلى جانب الشركات الإنتاجية القديمة ومؤسسات الأموال شركات من نوع جديد وهي المرتبطة بتكنولوجيا المعلومات والإنترنيت.
2) إليكم الآن ما يلي:
……………….السلم الطويل………..السلم القصير...... SI
10.18.......تريليون .................................. EXA
10.12....... بليون................. تريليون........ TERA
إن السلم القصير مستعمل من طرف الدول الأنغلوفونية والبرازيل. أما السلم الطويل للأعداد فهو مستعمل من طرف باقي دول العالم.
في الإعلاميات يستعمل غالبا النظام العالمي (système international :SI) فنقول مثلا: قرص بسعة 1 teraoctet..
عن الموسوعة: Wikipédia, l encyclopédie libre.
فهل ما يزال النص يتضمن خلطا بعد هذا؟ في نظرنا نعم: كاتب الكتاب من ألمانيا وهذا يعني أنه حتى وإن استقى بعض المعطيات، ولن تكون كل معطياته طبعا مستقات من لمراجع الأنكلوفونية، فعليه أن يلائم ذلك مع السلم الطويل المعتمد لدى الألمانيين. وإن لا فمعنى هذا أنه لا يؤلف بلغة ألمانية وإنما ب"عقلية أمريكية": غزو ثقافي.
إضافة إلى ذلك فحتى وإن قبلنا من كاتب ألماني أن يقدم الأعدد للألمان بشكل أمريكي قإن المشكل ما يزال مطروحا في النص: السلم لقصير، كما هو مبين في الجدول لا يتضمن كلمة بليون (التي تعني في لسلم الطويل 1012 ) ومع ذلك فإن النص، في الصفحة 228، يورد ما يلي: "وتشير التقديرات إلى أن الأغنياء الأمريكيين قد هربوا إلى العالم الخارجي ثروة تقدر بعدة بلايين(1012) $..." النص إذن يستعمل السلمين معا وهذا خطأ بلا شك.
3) إن مترجم الكتاب عربي، فما هو موقع الدول العربية من المشكلة؟ إن الدول العربية، ثقافيا، فيها من هو تابع إلى الجانب الأنغلوفوني ودول أخرى أكثرها تابع للجانب الفرانكفوني. والمترجم نعتقد أنه من الدول الأولى ولكن ما هي حدود صلاحياته في هذا المشكل بالضبط؟ نعتقد أن المشكل يتجاوز هذا الكاتب أو ذاك وأن على الدول العربية أن تلغي تبعيتها للمستعمر القديم وتحدد، باعتبارها تتكلم لغة واحدة، مفاهيم ومصطلحات موحدة للأعداد.
4) إن الأعداد هي المفاهيم الوحيدة التي يمكن ويجب أن تتوحد في كل العالم ولا مبرر لبقاء مثل هذا الخلط.

محمد باليزيد



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن