قراءة في عمارة الحداثة بالعراق، (2-2) (الجزء الاول)

خالد السلطاني
ksultany@yahoo.com

2010 / 2 / 1

* الى: علي الشوك.

ومشغل الهلال الاحمر، مخصص اصلا لسكن وتدريب 50 فتاة يتيمة، تحت اشراف القسم النسوي التابع لجمعية الهلال الاحمر العراقية . يشتمل المبنى على جناحين "بلوكين" منفصلين موقعا في الطابق الارضي؛ احدهما مخصص للصفوف وورش العمل، وفضاءات عرض تطل على جانب الطريق، والجناح الثاني تشغله بالاضافة الى القسم الادراي، مكتبة ، وغرفة معيشة وفضاء تناول الطعام. وقد تم ربط القسمين – الجناحين من خلال كتلة الطابق الاول المرفوعة جزئيا على اعمدة، والمشغولة بغرف نوم المتدربات. تبلغ ابعاد المبنى حوالي 43 مترا في الطول و13 مترا في العرض. واختيرالاسلوب الهيكلي لنوعية التركيب الانشائي للمبنى: ثمة اعمدة ترفع صبة السقفين العلويين. واستخدم مجال Span إنشائي موحد للجهتين، بلغ مقداره 6 امتار. (A.D., March, 1957,, p.80)
اعتمد القرار التصميمي على تجزئة واضحة لكتلتي الطابقين: الارضي والاول. ففي حين فرّغ جزئياً الطابق الاسفل، جاءت معالجة الطابق الاعلى مليئة باحياز غرف النوم التى شكلت بمجموعها كتلة متراصة، امتدت على طول المبنى ومحددة بجدارين اصمين في طرفيها الشرقي والغربي. اتسمت معالجة الواجهة الجنوبية في الطابق الاول، على حضور ظاهر لشريطين من فتحات نوافذ مستمرة تحميها بروزات افقية خرسانية في اعلاها وفي اسفلها, وثمة اختلاف مقصود في ارتفاع هذين الشريطين. الذي يفصلهما سطح اصم تم صبغه باللون الازرق، وتخلل مجال الفتحات الممتدة اعمدة الهيكل الانشائي مضاف اليها اعمدة تزينية آخرى تم وضعها في منتصف المجال Span المتكون بين عمودين، تتماثل في سمكها مع الاعمدة الرافعة. وقد تم تجزئة المجالات بين الاعمدة باطارات النوافذ الحديدية. ويعلو سطح المبنى بيت الدرج الذي سقطت كتلته ضمن القسم الشرقي من المبنى. واقتصرت المفردات التصميمية للواجهة الجنوبية في الطابق الارضي، على تبيان الاعمدة الرافعة بشكل جلي، مع وجود "قطعة" لجدار آجري، اتسم سطحه على انحناءة خفيفة نحو الداخل، وتم رصف طابوقه بشكل مميز؛ تخللته ثقوب لنوافذ صغيرة مبثوثة بايقاع خاص على سطحه. في حين انطوت معالجة الواجهة الخلفية الشمالية قي قسمها الاعلى على وجود سطح واسع ابيض، يخترقه شريط لفتحات نوافذ بارتفاع قليل نسبياً. وفي الاسفل فان الاعمدة الرافعة تظهر جنبا الى جنب الجدران الآجرية برصفها المميز الذي شاهدنا مثيلا له في الواجهة الجنوبية.

تكاد تكون لغة التصميم المعتمدة في عمارة مشعل الهلال الاحمر بمثابة صدمة مفاجئة للمشهد الثقافي عموما والمعماري على وجه الخصوص. انها لغة جديدة، حداثية، وغير مسبوقة في الممارسة المعمارية المحلية. من هنا امتياز عمارة المبنى وتفردها، العمارة التى ستؤسس لاتجاه جديد يشي بنقطة انطلاق مغايرة في مسار العمارة العراقية الحديثة. وهي بصفتها الاستثنائية هذه، تكون قد لبت على وجه اكمل، نداءات ارهاصات التغيير، المعبأ بها الخطاب الثقافي وقتذاك؛ والتى وجدت في عمارة المشغل تمثيلا ناجحاً وكفوءاً لها.
في تناولهما للمعضلة التصميمية، المحددة اطارها، بتلبية وظائف المبنى والتعاطي مع تلك الاحياز جمالياً، يلجأ المصممان الى عدم توريط نفسيهما في مقاربة تصميمية عادية، ستنتج حتما اشكالا مألوفة تكون اجترارا مكررا لما هو شائع ومتعارف عليه، وبمفردات تكوينية امست توظيفاتها تشير الى رتابة مملة وجمالياتها تضمرّ ضجراً بصرياً. نحن اذاً، امام حدث تصميمي، يعزف مصمماه عزوفاً اطلاقيا على التعويل على ما هو سائد وشائع معماريا وانشائيا. ومرد هذا العزوف، في اعتقادي, ليس دافعه "التبجح" باظهار نزوة فنية طارئة، وانما السعي وراء اثراء المشهد المعماري، بمقاربات جديدة، يمتلك "مؤلفاها" القدرة الكاملة والكفاءة المهنية لتحقيبق انزياح معرفي: تصميمي وجمالي، تتصادى قيمه وافكاره مع طليعية القيم والافكار التى تتسم بها الممارسة المعمارية الحداثية العالمية في اوج لحظتها الابداعية. انها، باختصار، عمارة تتجلى مفاهيمها لا بقدر ما تتطلع الى ! .
يتوق معماريا "المشغل" الى تذكيرنا باهمية وقيمة المرجعية التصميمية التى اعتمداها في اصطفاء قراراتهما التكوينية، تلك المرجعية التى تتبدى عبر تأويل شخصي لاطروحة "لوكوربوزيه" الساعية وراء تحديد معنى "عمارة الحداثة"، والمتمظهرة بنقاطها الخمس: المبنى المرفوع على اعمدة، والواجهة الحرة، والمسقط الحر، والنوافذ الشريطية، واخيرا السطح المستوي. وعمارة المبنى تبدو وكأنها نتيجة لقراءة شغوفة، تمنحنا فرصة رصد التناص Intertextuality مع أطروحة رائد عمارة الحداثة. لكنها قراءة تظل رهينة اشتراطات خصوصية المكان، وبالطبع نوعية الآهلية المهنية لمؤلفيّها.
لا يتعين إدراك عناصر منظومة عمارة الحداثة، الموظفة في المبنى، انطلاقاً من قيمتها الانشائية، وانما ينبغي الانتباه الى ما تمنحنا تلك المنظومة من تداعيات تكوينية وجمالية. فعنصر "رفع المبنى على اعمدة" مثلا الحاضر بقوة في المعالجات التصميمية للمشغل، تتجاوز تأثيراته الفعالية التركبية ليسجل انعطافة هامة في النأي بعيدا عن تقاليد "عمارة الحائط" المهيمنة قرونا في الممارسة البنائية، ومن ثم التغاضي وحتى نبذ عن ما لازمها من ذائقة فنية خاصة اتسم بها النشاط العمراني المحلي. والحال ذاته يمكن رصده فيما يخص معالجة مفردات الواجهات وخصوصاً اشكال الفتحات فيها. فالقوام الانشائي الهيكلي، المستخدم في المبنى، يكفل عدم لزوم تطابق واجهات طابقي المبنى، ما اتاح للمعماريين امكانية رسم الواجهة الجنوبية، على سبيل المثال، بالطريقة اياها، المفعمة بالحس الجمالي، والمتولدة عن توظيف مقتدر لتضاد الكتل، فالطابق الارضي المفرغ جزئياً يراد منه معاكسة الكتلة الممتلئة نسبيا في الطابق الاعلى، كما ان الاشتغال على منظومة تناسبية خاصة ساهمت في اخضاع فتحات نوافذ الواجهة ضمن ايقاع مميّز ومدروس.
يراعي المصممان طبيعة الظروف المناخية المحلية السائدة، ويتطلعا لجعل تأثيرات تلك الظروف اداة فعالة في التأكيد على انتمائية المبنى لمكانه. جدير بالاشارة ان العامل المناخي عدّ وقتذاك ( في الاربعينات، ولاحقا في الخمسينات)، من اهم العوامل، ان لم يكن العامل الوحيد، في اضفاء هوية مميزة الى المباني في الممارسة المعمارية العالمية الحداثية؛ منذ ان أُستخدمت بصورة لافته ادوات منظومة حماية المبنى ولا سيما مفردة "كاسرات الشمس" Louvers على نطاق واسع. في مبنى "المشغل" تلعب البروزات الافقية فوق فتحات النوافذ دورا اساسيا في اكساب المبنى حماية كفوءة من سلبيات المناخ السائد المتسم بحرارة عالية ووهج ضياء شديد. وهذه الاداة ذاتها، تضحى ايضا في ايدي المعماريين وسيلة هامة في اضفاء قيمة جمالية الى واجهات المبنى. لكن حماية فتحات النوافذ بواسطة التطليعات الخرسانية، لم تكن الوسيلة المناخية الوحيدة المستخدمة في المبنى. ثمة قرارات تصميمية آخرى بالمشغل، اعتمدت على نتائج دراسات وبحوث علمية، كانت جديدة جداً ورائجة جدا، في الوسط المعماري ابان تلك الفترة، ابتغت التقليل من سلبيات تاثير المناخ الحارعلى المباني. ومن ضمنها ولع المعماريين في استخدام ما يسمى "بجدار الفجوة الهوائية" بغية الحصول على عزل حراري، والذي تم تطبيق اثره في مبنى المشغل. فقطع جدراني الواجهتين الجنوبية والشمالية معمولة بالواقع من صفين آجريين تحصران بينهما فجوة هوائية. وقد ساهم استخدم اللون الابيض الطاغي في انهائيات سطوح المبنى، هو الآخر في تقليل تأثير تلك السلبيات. ولا يجب ان ننسى ما يحمله تناوب مناطق الظل والضوء التى تتشكل وفق نوعية القرار التصميمي الفضائي – الحجمي الخاص، في خلق تيارات هوائية دائمية تنعش بيئة الفضاءات المصممة.
حرص معماريا المشغل على توظيف معالجات تصميمية مختلفة وجديدة فيه، سعيا لإثراء لغة عمارته، وتأكيد فرادتها التصميمية. فبالاضافة الى استخدام شريط النوافذ الافقية، وهو حدث تصميمي بالغ الاهمية في الممارسة المعمارية المحلية، نلاحظ ثمة توق لدى المعمارييّن في جعل مقاسات بعض فتحات نوافذ المبنى واسعة نوعا ما، تمتد من الارضية وحتى السقف، مع تقطيع كبير للالواح الزجاجية فيها. ماجعل "الخارج" يدغم عضويا ويتداخل بصريا مع "الداخل" بصيغة لم تألفها كثيرا الممارسة البنائية المحلية. وتستحضر هنا، المحاولة الجسورة والرائدة التى قام بها سابقا المعمار "ولسون" في مبنى الكلية الدينية بجامعة آل البيت( 1922-24) بالاعظمية ببغداد. حينما استخدم فتحات واسعة لنوافذ صفوفه ولكن بتقطيع صغير نسبيا للزجاج، لكن تلك المحاولة الرائدة في الممارسة المعمارية المحلية، لم تحظ باهتمام كبير، لحين إعادة قراءتها مرة اخرى، بالصيغة الحداثية التى ابانتها عمارة المشغل.
ويظل القرار التصميمي الخاص بتوظيف شعار المؤسسة الخيرية واستخدام الاحرف الكتابية عل سطح الجدار الغربي للمشغل، من القرارات الجديدة التى اضفت جواً حداثيا وطازجا الى عمارة المبنى. فشكل الهلال الاحمر الكبير ونوعية الاحرف البارزة المكتوبة بخط الرقعة الواضح على سطح الجدار الابيض ، شكل "ملصقاً / بوسترا" ضخماً،عالي الفنية، يشير بجلاء الى طبيعة المبنى ووظيفته. ومعلوم ان ممارسة استخدام الاحرف الكتابية في التكوين المعماري، هي ممارسة جديدة نوعا ما في المشهد المعماري العالمي؛ عندما فاجأ "اريخ مندلسون" (1887-1953) الوسط المعماري الحداثي في استخدامه الاحرف الكتابية في تصميمه "لمتجر شوكين" في شتوتغارت بالمانيا (1930)، الذي اسست عمارته لهذا النوع من الممارسة التصميمية. كما ان المعمارييّن استثمرا وجود العناصر ذات الوظائف النفعية / الخدمية المألوفة، ليرتقيا بها الى مصاف الاحداث التكوينية المؤثرة. فكتلة "بيت الدرج" على سبيل المثال ، التى لم يعر احدا اهمية خاصة لها في السابق، تكتسب في المشغل قيمة فنية، تكرس حضور الجو الفني المترعة به اشكال كتل المشغل. ان موقع كتلتها المختار يخضع لتقسيمات منظومة تناسبية مميزة، فضلا على ان كتلتها النحتية العالية تنهي حركة ايقاع الخطوط الافقية المنطويةعليها واجهة الطابق الواقع اسفلها. تجدر الاشارة ايضاً، إن جهد معماريّ المشغل كان واضحاً ومميزاً في اعمال تنسيق الفضاءات الخارجية Landscape المحيطة بالمبنى. وهي اعمال وجدت قبولا واستحساناً لها في الممارسة المحلية، كما انها اشرت في الوقت عينه، الى بدء مداخلة المصممين الجدّية في هذه الفعالية. □□

د. خالد السلطاني
مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن