يذكّرني -يوسف- ابن كابي القسّ بالخبز المقمّر

صبري يوسف
sabriyousef56@hotmail.com

2004 / 6 / 28

الصديق العزيز كابي القسّ

عناق من نكهة كروم المالكيّة ومن وهج أغانيكَ التي كنتَ تعزفها وتغنيّها لنا بحنان عميق وبإحساس مفرح للغاية تحت ضياء نجمة الصباح، أتقدّم إلى صدركَ الحنون كي أعانقكَ عناقاً دافئاً مثل دفء ديريك في صيفها المشتعل حبّا وعشقاً لا يضاهى، وهكذا يا صديقي تتحايل علينا وتعشق أنثاك خلسةً، وتنجب لنا طفلاً من نكهة التين، ثم تجعلنا نطير فرحاً فوق أمواج البحار وتطلق على مولودكم إسماً يحمل كنيتي التي تنعش روحي وصدري، وتحمل إسم عمّي الراحل ( يوسف شلو) أبو أفرام، وكنتُ أسمّيه (رستمي ظال خُيي شوري غران) أي رستم صاحب السيف الثقيل، ويوسف (القسّ)، هذا العمّ والدكَ الذي تتلألأ أمامي قامته بإبتسامته وحضوره المهيب، وأتذكّر عندما عبرتُ البحار والتقيتكم سألني عن نتاجاته (هاهاهاهاها) فيما إذا وصلتني أم لا، فقلت له قرأت كتابكَ في المكتبة المركزية في ستوكهولم، ففرح جداّ وقال ممتاز، والأكثر إمتيازاً أنّكَ تذاكر من ورائنا يا صديقي وتقدّم لنا هدية الهدايا، يوسف، أحببتُ هذا الإسم جدّاً لأنه كنيتي أولاً ولأنه ينسجم معَ إسمي الأول، ولا أخفي عليكم يا صديقي أنني عندما قررتُ أن أطرح نفسي كاتباً وشاعراً في الديار المهجرية، وقعتُ في حيرةٍ من أمري، حيث كان الإيقاع الشلويّ يسيطر بقوّة وبحضور كبير على الإيقاع اليوسفي، وكنتُ أكتب إسمي عشرات المرّات ، على ورقة بيضاء، صبري شلو، ثم أكتب صبري يوسف، كنتُ أجد هذا اليوسف غريباً عنّي وكنتُ أرى الإيقاع الشلوي ملتصقاً بلجدي فما وجدت بدّاُ من أن أخرج من جلدي، لأن الحركة الشلويّة وبعد أن قلبتها من كلّ الجهات ما كانت تعني إلي سوى ( مشاكسات مفتوحة على سماء الروح) وهكذا وبعد قناعة مؤلمة وقع إختياري على أن أوقّع نصوصي تحت اسم : يوسف، لأن هذا اليوسف كان متناغما بحنان مع صبري، علماً أنني كنتُ أشعر في قرارة نفسي أنني خائن بحقّ السلالة الشلويّة بالإستغناء عن هذا اللقلب الذي يحمل بين ثناياه مشاكسات لا تخطر على بال الجنّ، ولا أخفي عليك أيضاً أنه في الكثير من المشاكسات ورعونة التحدّيات، كنتُ أسأل نفسي هل أنا فعلاً من هذه السلالة؟ وكثيراً ما كنتُ أنظر إلى نفسي في الطابق التاسع في سماء غربتي في ستوكهولم، متسائلاً: مَن أنا بالضبط؟ فكنتُ أقول أحياناً وتهرّباً من الورطات السلالية كنتُ أجنح إلى عوالم أصدقائي وأقول أنا صديق كابي سارة ونعيم إيليا وكابي القس والبقية محبّة عميقة، من السلالة الساطوريّة، لكل من سلالتنا ساطوره، هم لهم سواطيرهم وأنا لي ساطوري، وساطوري هو قلمي، وهكذا وبعد مقارنات مدروسة لم أجد ميلاً لهذا اللقب المخيف، لقبنا يتألّف من ثلاثة حروف فقط لكنه يتضمّن ما بين كل حرف وحرف ساطوراً مسنوناً للغاية ناهيكَ عن شينه بنقاطه الثلاث المفخّمة وكأنها صخور متدلية من جبل جودي! وأتذكّر جيدّاً، أن أوّل فعاليّة أحببتُ أن أنشرها في صحيفة يوميّة محترفة، تصدر من لندن، كانت قصة قصيرة، اللصّ والقطّة، فقد نشرتها في القدس العربيّ متاخمة لمقالة موسّعة عن عبد الرحمن منيف، وعندما قرأت إسمي: صبري يوسف، شعرتُ بنوع من الخيانة، ولا أخفي عليكم أنني بكيتُ من شدة تأثّري لهذا الفصل والجموح عن الإيقاع الشلوي، وقلت في نفسي لو كان هنا مكتوب الآن صبري شلو، كان أقوى بكثير من صبري يوسف، لكنّي سرعان ما وضعت المخطّطات والإقناعات، وبعد أن بذلت جهداً طيّباً وصلتُ إلى راحة عميقة بالركون إلى الهيبة اليوسفيّة، متسائلاً: على السادة الشلويين أن يرفعوا هناكَ إسم شلويّتهم بطريقتهم الساطوريّة المشنفرة بغضب مفتوح على إخضرار الروح بنكهة فاقعة لا طعم لها، وعليّ أن ابني خطّاً يوسفيّاً يتعلّق بالحرف، بأدب الحياة، وطرحتُ نفسي إنساناً بسيطاً للغاية، جلّ إهتمامي التواصل مع الإنسان، كائناً مَن كان في هذا الكون الوسيع، فنصّي هو موجّه للبشر كل البشر، لا أخاطب ملّتي ولا شعبي ولا بلدي فقط، وإنما أخاطب الإنسان على إمتداد الكون .. أهلاً بكَ يا كابي، أيّها الإنسان الحميم، أريد أن أقرّ لكَ يا صديقي أنني عبر رحلتي الفسيحة في سماء غربتي لم تبتعد عن ذاكرتي، وكم من مرّة فكرتُ أن أكتبَ عنكَ نصّا سردياً عن رحلاتنا وجلساتنا الفسيحة الرائعة لكنني ماكنتُ أجد الخيط الذي يعانقني مع عوالمي الخفيّة المتعانقة مع خميلة الروح روحي، اليوم عندما قرأت التهاني التي كتبها العزيز يعقوب متّى، نهضتُ في صبيحة اليوم الثاني من العيد وكتبت لكَ عناقي بطريقتي الجامحة وإذ بالكومبيوتر في قسم رسائل التهاني لا يستقبل النصّ المرسل لرحابة طوله، فما وجدتُ بدّاً من نقله إلى المنتدى الأدبي، ولا أخفي عليك أنّني عندما أكتب نصّاً ما سردياً كان أم شعرياً أكتبه بشكل مباشر على الكومبيوتر ولا أكتبه كمسودة على الورق إطلاقاً ، لأنني اتدفّق مثل شلالات أحزاني المتناثرة فوق وجنتي المبرعمة بآهات لا تخطر على بال، الشيء الوحيد الذي يجعلني أن أفكر بإستمرارية الشهيق والزفير هو قلمي، الكتابة هي صديقتي الأزليّة، هي عشيقة من نكهة الإشتعال اللذيذ، لولا الكتابة ولولا الآمال التي أعلقّها عبر الكتابة لا أظن أن هناك أيِّ جدوى لوجودي على وجه الدنيا، لا تغريني كل كنوز ومتع الكون إطلاقاً ، لا تغريني أوروبا بجمالها وحرّيتها ومجونها و باراتها ونسائها، يبهرني الحرف، يغريني النصّ الجامح، هناك نزيف شعري يندلق من أعماق الروح ـ روحي، وتوق حارق لكتابة روايات منبعثة من مذكراتي! آهٍ .. أية مذكرات يا صديقي، لا أخفي عليك ان "ذاكرتي مفروشة بالبكاء" وما جاء بين قوسين هو عنوان لإحدى قصائدي، وبنفس الوقت عنوان أحد دواويني، وقد شاءت الظروف أن تقدّم صحافية عراقية، مقيمة في السويد ، ريبورتاجاً عنّي في صحيفة أردنية: الفينيق، وتوقفت عند بعض إصداراتي ومنها ، "ذاكرتي مفروشة بالبكاء" والطريف بالأمر أنها نشرت ريبورتاجها في الجريدة الأردنية منذ اكثر من خمس سنوات، بعنوان: "ذاكرة صبري يوسف مفروشة بالبكاء"، إتّصل آنذاك معي الأب الشاعر يوسف سعيد، المعروف بجموحاته الشعريّة هو الآخر، وقال لي وصلتني جريدة الفينيق الأردنية وقد نشرتْ عنكَ ريبورتاجاً موسّعاً عن طريق صحافية عراقية مقيمة في مالمو، وهي زوجة الشاعر العراقي الصديق عدنان الصائع الذي نال جائزة الشعر العالميّة التي تصدر في هولندة، وقال الأب الشاعر ، لقد نشروا ما كتبتهُ عنكَ على ظهر الديوان في الريبورتاج، وإستغليت الفرصة وأحببت أن ألعب بأعصاب أبونا الشاعر ، وهو صديق من الطراز الرفيع، قائلاً له عفواً أبونا ، ماذا كتبت الصحيفة عنّي بالخط العريض؟ فقال نشرت مقالا طويلاً عن أغلب أعمالكَ تحت عنوان: " ذاكرة صبري يوسف مفروشة بالبكاء" ثم أوهمته أنني مزعوج ومتعصّب وغاضب جدّاً، قائلاً له كتبوا عن ذاكرتي أنّها مفروشة بالبكاء! بسيطة، سأشتكي عليهم وأخرّب بيتهم ، لقد فضحوا شاعراً آزخيّاً معروفاً، سأشتكي على الجريدة وأخرّب بيت بيتها، كيف يقولون عنّي " ذاكرة صبري يوسف مفروشة بالبكاء"؟ فقال لي لا دخليك صبري لا تشتكي عليهم، فقلت له ولماذا تدافع عنهم ؟ فقال المشكلة أنّهم نشروا صورتي وتقديمي في الريبورتاج، فقلت ولو، المفروض أن يحترموا جموحاتي الآزخيّة، فقال لي وبكل جدّية، المشكلة هم لا يعرفونك على أنّكَ آزخي؟ فقلت له طيب هذه مشكلتهم، ومن المفروض أن يفتحوا ذهنهم قليلاً ويسألوا عنّي لا أن يشرشحونني في الصحف ويقولون عن ذاكرتي أنها مفروشة بالبكاء، فقال ولكن يا صبري طوّل بالك، بالحقيقة أنتَ السبب، فقلت له أنا السبب، لماذا؟ فقال ديوان مالتك، عنوانه: "ذاكرتي مفروشة بالبكاء" فهم لم يغيروا سوى الياء العائدة عليك بإسمكَ فلم يضعوا عنوانا من عندهم ، فقلت ولو، أنا أفضح نفسي بنفسي أنا حرّ، لكن أن يأتوا حضراتهم ويفضحونني فهذا ما لا يجوز، فقال ، لا لا هذه شهادة جيدة لكَ، وفيما كان يهدئني ويبيّن لي أهمية الريبورتاج، ضحكتُ ضحكة طازجة مفتوحة، ثم أستقبلها بضحكة هو الآخر، وقال أشوفك تضحك، هل إقتنعت من كلامي، فقلت له، أيّ كلام تتحدّث عنه يا صديقي الشاعر، ثم قلت له أشكر جريدة الفينيق لأنها أضافت إسمي بخط عريض متاخماً لدموعي المنسابة على إمتداد غربتي الفسيحة، هل يوجد لدي يا أبونا رأسمالاً أغلى من دموعي، هذا هو رصيدي من ذاكرتي أقّدمه لأحبّائي، ثم قلت له ، بحثتُ يا أبونا عن ماضيّ وعن ذاكرتي فما وجدتُ سوى ذاكرة مفروشة بالبكاء، هذا أنا يا أبونا، وهذا أنا يا صديقي كابي، فلا أجد صدراً في الكون يحضن دمعي وحناني وشوقي إلى ذاتي المشتعلة تحت عجلات هذا الزمن الأحمق، سوى حرفي، سوى قلمي هذا الصديق الذي أنعش روحي وقلبي ومنحني ألقاً لا يضاهيه ألقاً في الكون، أشعر بالتجدد والفرح العميق، كلّما يولد نصّاً من رحم الغربة، من رحم الذاكرة، من رحم الحياة! .. هل تتذكّر زيارتي الأخيرة إليّكم بعد غربة دامت ثلاث سنوات، عبرنا تحت جنح الليل إلى بلكوني الفسيح، هناك حيث كاسات العرق والبيرة تقوم ركباً، وفردوس إبنة أخي الرائعة تعدّ لنا وليمة دسمة، هل تتذكّر عندما قلتَ لها يا فردوس هلكتيننا من الجوع يا عيني ، قمّري لنا قليلاً من الخبز، نريد خبزاً مقمّراً فقط، لا نريد عشاءً سوى الخبز، ضحكتُ (هاهاهاها) وقلتُ "دوسه عيني عندنا خبز" فقالت فردوس، إيه عمّي، فقلت لها إذاً تفضّلي بخبزكِ المقمّر حالاً وإلا ضيفنا سيرفع علينا فردة الرحى.. سهرنا سهرة ممتعة ونحن "نقرّط" خبزنا بلتذذٍ وكأنّنا نأكل وليمة الوليمات وفردوس من النافذة تنظر إلينا مندهشة على الهجوم اللذيذ على خبزها المقمّر على الطريقة المحرداوية ـ الآزخية ،حضورٌ رائع، ورفعنا نخب عودتنا إلى أحضان الأصدقاء والأحبّة، لا تعلم كم أشتاق إليكَ يا صديقي ولا تعلموا يا أحبّائي، أصدقائي، صديقاتي كم أحنّ إلى صدوركم الفسيحة، يذهلني صبري على الصبر الذي أتحلّى به، وأشكر والدي على منحه إيايّ، أكبر ثروة في الكون أغدقها عليّ والدي انّه أطلق عليّ : صبري، فلولا هذا الصبر الّذي استمدّه من إسمي لخرب بيتي تماماً، كنتُ سأُصاب بجلطة شوقيّة وحنانيّة منذ زمن بعيد!

هذا وللعناقات العميقة يا صديقي بقيّة

صبري يوسف
ستوكهولم 26 . 12 . 2003
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن