هندسة التحالفات المختلة

أحمد الخمسي
hmedkhomsi@gmail.com

2009 / 12 / 26

من سوء حظ سنة 2009، أن التصقت بها اللخبطة التامة في التحالفات الحزبية. بينما "الهم بسلومه" كما يقول المغاربة. آت من سبع سنوات خلت. يوم تسابق حزبا الكتلة الديمقراطية نحو تأمين رقم برلماني لتشكيل الحكومة في اكتوبر 2002، كل بمفرده. فتقلصت عضلات الدولة وردت بردع هز حصيلة حكومة التناوب بكاملها. فهندسة التحالفات من مهام الطبقة السياسية خلال العشرية الثانية. ولقد أدى المغاربة ثمن أخطاء الطبقة السياسية عبر العزوف عن المشاركة. وفي الأصل، هذا سبب من أسباب فقدان كل حزب نسبة من كتلته الناخبة ما بين 2002 و2007.
في الأنظمة التي تعتمد الليبرالية في المجتمع والديمقراطية في الدولة، تتميز العلاقة بين بنيات المجتمع من تحت وبنيات الدولة من فوق بالسلاسة. وذلك بفضل متانة المسالك ما بين الدولة والمجتمع. سلاسة متوفرة بفضل احترام مواقيت الاقتراع، واستقلالية القرارات الحزبية، بل والتصاقها بالتيارات العامة وسط المجتمع الناخب، بحيث لا يستعمل أي طرف حزبي للوصول إلى السلطة أو للبقاء فيها وسيلة من وسائل العنف. وأبعد حد من الحدود غير المعتادة في العمل الحزبي هي تغيير التحالفات قصد الحفاظ على الميثاق أو مبادئ الدستور التي تنبني على أسسها العلاقة بين الدولة والمجتمع. إذ يمكن لليمين أن يتحالف مع اليسار ضد اليمين المتطرف الذي يهدد باستعمال الاقتراع العام لتغيير الأسس العامة التي تقوم عليها الجمهورية الفرنسية مثلا.
فالتحالفات ضرورة رقمية لاستكمال نصاب اسمه النصاب القانوني بموجبه تتوفر الأغلبية البرلمانية وتتشكل بموجبها الحكومة من طرف من يبادر بهندسة التحالفات. وبموجب ذلك، تصبح التحالفات وسيلة لدعم البرنامج المعلن للناخبين أو سببا لتمطيط المواقف وتمييع البرامج الانتخابية بحيث تصبح قابلة للتنفيد. أو قد يجري تمطيط البرنامج الانتخابي أكثر من المعقول، مما يكشف للناخبين أنهم كانوا مجرد معبر تجووز بمجرد ظهور عقبات أخرى. وفي الحالتين، نكون أمام تحالفات مفيدة وأخرى محرجة للهيئة إن لم تكن مضرة لها وبمصالحها الانتخابية. كما قد نكون أمام تحالفات منتظرة مبدئية وأخرى فجائية اضطرارية وجزئية. مما يجعل التحالفات دائما وسيلة من الوسائل السياسية لدعم البرنامج الانتخابي. وبالتالي من المفيد أن تتعود الأحزاب على برمجة قبلية للتحالفات، ثم برمجة بعدية ولو نادرا. كل ذلك لاستمالة الناخبين ولتوضيح العلاقة معهم عند استمالتهم على أسس برنامجية واضحة مع المرونة عبر التحالفات. مما يكرس مبدأ كون السياسة فن الممكن.
نأتي للوضع المغربي: نجد نوعا من التحالف يمر في صمت رغم غرابته. إذ تسبقه مسوغات، عديدة ما قبل التحالف. أو لنقل، إن الاعتماد على البرنامج الانتخابي ليس له من الرسوخ ما يكفي في العملية السياسية في محطتها الانتخابية ولا بعدها عند تحمل المسؤولية في المواقع المؤسساتية. مما يجعل المقولات والأوليات الأخرى تلتف على دور التحالفات التي يأتي دورها في المجتمعات الليبرالية والدول الديمقراطية ولا يأتي دورها عندنا. إذ يكفي أن يتم التوجه من طرف الملك نحو شعار مركزي ما في القطاعات الاقتصادية أو الاجتماعية أو الدبلوماسية أو السياسية أو الثقافية حتى تتحول كل الوسائل الإعلامية والتنظيمية والتعبوية نحو اتجاه واحد، يسمو نحو الإجماع وينشئ حالة من الحالات القصوى للوحدة الوطنية. وكأن الأمر يتعلق بأزمة سياسية كبيرة بينما لا يعدو الأمر أن يجسد خطأ تنفيديا، يذهب مع إقالة من ارتكبه. مثل حدث أميناتو حيدر.
وما دامت العملية السياسية ممركزة حول فاعل لا يضاهيه فاعل سياسي آخر وغير قابل للمحاسبة المؤسساتية والدستورية بفعل الفصل 19، فالفاعل الأساس المحوري هو الذي يدعو إلى تشكيل التحالفات البرلمانية. فلا ننسى أن أحزابا يسارية كانت مع الحكومة سنة 2002، مثل جبهة القوى الديمقراطية والحزب الاشتراكي الديمقراطي، لكن مواقفهم لم تفدهم فقط، بل أظهرتهم رغم التعليل الكافي من طرفهم لتبني البرنامج الحكومي، بمثابة زوائد حزبية فوق الحاجة والحساب. إذ بقوا خارج التحالف الحكومي، في الوقت الذي ضمت حكومة جطو حزبين يساريين (الاتحاد الإشتراكي/ التقدم والاشتراكية)، مقابل تشكيل الحكومة من تحالفات غير مألوفة. بحيث ضمت برامج أو على الأقل هيئات غير متجانسة، مما كان يعرف بأحزاب الحركة الوطنية وأحزاب الإدارة. إن تصريح عبد الرحمن اليوسفي ذات يوم حول التطبيع مع الأحزاب الإدارية لم يكن يعني التحالفات الجزافية مع الأحزاب الإدارية. لكن حكومة جطو كرست التمييع الشامل لمبدأ البرنامج الانتخابي وللتحالفات.
لكن من البادئ بخلخلة البنية السياسية العامة للتحالفات سنة 2002؟
لقد ارتكب الحزبان الرئيسيان في الكتلة الديمقراطية خطأ التسرع بتمزيق منطق الكتلة الديمقراطية، عبر الهرولة من طرف الاتحاد الاشتراكي لتوقيع بيان للتحالف مع التجمع الوطني للأحرار، مما دفع حزب الاستقلال للرد ببيان مضاد مع حزب العدالة والتنمية. كان ذلك في اكتوبر 2002.
لكن رد الدولة تم بمنطق الرد على الخطأ بالخطأ. فاستبعدت "المنهجية الديمقراطية" وأصبح تقنوقراط غير محزب وزيرا أول. واستبعد بموجب القرار الملكي الحزب صاحب المرتبة الأولى في الانتخابات. لكن، ما كرس الممارسة التقليدية هو الخطأ الممارس بلا أدنى اعتبار للناخبين. بحيث، لو شرحت الدولة التصدع في العمود الفقري لحكومة 1998، بناء على التسرع المذكور أعلاه في سياسة التحالفات، لتمكنت من لف الشعب من حول المؤسسة الملكية باعتبارها قوة سياسية محورية ولكن بصفتها حكـَماً حكيما. ثم، لوترك للرأي العام عملية التفاعل مع التحكيم، عبر إطلاق نقاش سياسي نوعي، عميق وعام. لكان من شأن ذلك، أن يتبوأ الملك في النظام السياسي المغربي، حالة فريدة ضمن السياقات العربية والإسلامية والغرب أيضا. بحيث، الكل يتذكر الملك الإسباني عندما ذهب إلى البرلمان في جوف الليل، لينهي حالة الفوضى بسبب التصرف الطائش لجزء من الجيش. كان ممكنا أن ينتبه الشعب بكيفية أوضح للزيغ الذي أصاب أحزاب الكتلة. أو كانت فرصة لحزبي الكتلة أن تدافع عن اختياراتها، مسؤولة وفق الدستور أمام مؤسسات الدولة، وضمنها المؤسسة الملكية، مع ما للآجال المحددة في الدستور لتشكيل الحكومة من دور للتلطيف والتكييف معا.
يمكن التساؤل اليوم: ما الجديد حتى يعلن الاتحاد الاشتراكي استعداده للتحالف مع حزب العدالة والتنمية، الذي كان سنة 2002، في جانب حزب الاستقلال؟ الجديد جلي واضح:
أولا: الاتحاد الاشتراكي نفسه متصدع من حيث البقاء في الحكومة أو الخروج منها!(انظر تحليل حميد باجو الجريدة الإثنين الماضي 21/12/2009)
ثانيا: الوافد الجديد هجم بشراسة على الساحة الحزبية من مواقع المؤسسات، فأصبح ليس منافسا مخيفا بالطرق السياسية المتكافئة، بل نزل قوة سياسية كالظل للمؤسسة الملكية، مما زاد النسيج الحزبي هشاشة وأضعف ما تبقى للأحزاب من أدوار ميدانية وأتلف الرصيد التعبوي المستقل. بحيث أخاف الأحزاب الإدارية نفسها، ناهيكم عن تصريحه مقارعا لحزب العدالة والتنمية، بالإضافة إلى الخطة الاستقطابية وسط اليسار. فتمكن بذلك من التوفر على إجماع ضده علنا وسرا.
ثالثا: التفات الاتحاد الاشتراكي نحو العدالة والتنمية لا يزيد عن كونه تفعيلا لحالة سلبية مضاعفة بعد نزول الوافد الجديد على وزن "عدو عدوي صديقي". حتى ولو لمراكمة رصيد إعلامي والحصول على فجوة زمنية لتحصين الضعف الداخلي من حالة العراء التام تحت وابل الأصالة والمعاصرة.
إن الممكن المحتمل في مستقبل التحالفات السياسية ليس بمثل التشاؤم الذي قد يتبادر إلى الذهن. بحيث ليس هناك إفلاسا تاما في المسألة. لكن مستوى النقاش وكيفية تشكيل الرأي العام بقيت قاصرة دون إمكانية تعميق الأسس وتوسيع آفاق التحالفات في العملية السياسية. فالخوف يبدأ في محور المؤسسة الملكية. بينما كان في الإمكان تجريب حالات متعددة من التحالفات، بناء على الاقتراحات الحزبية الذاتية وقرار هيئاتها التشريعية. فللمؤسسة الملكية في الأفق المنظور ضمانات دولية وداخلية استثنائية. مع العلم أن الميثاق الاجتماعي والسياسي واضح المعالم. لا يتخيل عاقل أن مؤسسة حزبية ما ستعمل على تخطيه.
غير أن الدورة لم تستكمل داخل كل قطب من الأقطاب الثلاثة الليبرالي والأصولي واليساري. بحيث يفتقد كل قطب أخلاقيات التعددية التنظيمية داخل نفس القطب. بحيث الهيمنة والخوف من الهيمنة والندم على المبادرات الوحدوية هي ما يسم التمفصلات والعلاقات ما بين الأحزاب داخل كل قطب. فكل حزب كبير محوري داخل كل قطب من الأقطاب الثلاثة يسعى إلى ابتلاع من يوجد معه في القطب من أحزاب صغرى أخرى "شقيقة". فالاتحاد الدستوري بل التجمع الوطني للأحرار يخاف من احتمال قرار خفي بابتلاعه من طرف الأصالة والمعاصرة.
هذه الدورة البينية داخل نفس القطب السياسي الايديولوجي، من شأنها أن تتفرع إلى معاملات ما لا علاقة له بالانتخابات. إن النقص الحيوي في هذه المقومات التحالفية السياسية والعملية. ولو كانت حاضرة في التفكير، ما كان ليفهم مقترح الاتحاد الاشتراكي بإمكانية التحالف مع العدالة والتنمية في غير حسابه العملي والمؤسساتي، حتى لا نقول البرغماتي السياسي.





https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن