رسالة دكتوراه

هايل نصر

2009 / 11 / 22

.
الوحدة العربية بين المحاولات والواقع . عنوان رسالة دكتوراه في علم السياسة Science politique لطالب عربي موفد إلى إحدى الجامعات الفرنسية. لم يخطر في ذهن الباحث أن يكون موعد مناقشة أطروحته هذه بعد مباراة كرة القدم بين الجزائر ومصر مباشرة. ولم يخطر بباله أيضا أن لهذا علاقة في موضوعه. لذا لم يحتط للأمر من قريب أو بعيد. فنحن في مجال علم السياسة وليس في ملاعب الرياضة.
كالعادة أُعطي الطالب وقتا معقولا لتقديم أطروحته علنا أمام اللجنة وعلى مسمع من الحضور. فهو غير مطالب بقراءة ما جاء فيها, فلجنة المناقشة كان أمامها مدة شهرين للاطلاع عليها, وإعداد مالها وما عليها. ثم تقييمها واتخاذ قراراها بشأنها.
في تقديمه, لم يخف الطالب ما اعترضه من صعوبات في بحثه في مثل هذا الموضوع, وفي هذا الوقت الذي تمر به الأمة العربية المتطلعة للوحدة. ولا الصعوبات التي تعترض الطالب الأجنبي في مجال اللغة التي كان يجهلها تماما عند قدومه لفرنسا, واثر ذلك على دقة التعبير والأسلوب ومستواه, وعلى المحتوى بشكل أساسي. فلا تكفي الترجمة الشخصية أو المستعان بها من احدهم أو إحداهن ممن يتقن الفرنسية بدرجة أعمق. وهذا ما تأخذه لجنة المناقشة بعين الاعتبار, فالطالب أجنبي والشهادة مصدرة للخارج.
لسنا هنا بصدد التعرض لما ورد في الرسالة من أفكار ورؤى. إنها جهود كلفت الطالب 5 سنوات من البحث والعمل, وكلفت دافع الضريبة في بلده مبالغ كبيرة, بهدف إعداد باحث خبير سيعد أجيالا ويكونها, إذا وضع قدمه في الجامعة, وسيضعها بالتأكيد, فهو من المبعوثين أولا وأخيرا.
من خلال المناقشة اطلع الحاضرون على الطروحات الأساسية في عمل الطالب. أصل الأمة العربية. تاريخها. ديانتها, والديانات الأخرى فيها. الفكر الوحدوي لدى الأحزاب القومية الوحدوية في مشرق الوطن ومغربه. الأحزاب السياسية المعادية للوحدة أو المناهضة لطرق تطبيقها. المصالح الامبريالية والاستعمارية والشيوعية في إعاقة تحقيقها وضرب مفهومها من أساسه. ضرورة الوحدة وأهميتها.
وقد أشار للتجارب الوحدوية التي عرفتها المنطقة العربية. الوحدة الثنائية بين سوريا ومصر عام 1958 والانفصال بعد 3 سنوات من قيامها. وما تبع ذلك من محاولات وحدة أو اتحاد لم ير أي منها النور. وكان يعزو كل ذلك إلى سياسات الآخرين من عرب وغيرهم, والتدخلات الأجنبية الخارجية, دون التطرق بوضوح أو حيادية لسياسة البلد الذي أرسله لتقديم رسالة قد تكون مختارة له سلفا.
رغم تذكير اللجنة له بان الدول العربية مستقلة وذات سيادة منذ وقت طويل. وان أنظمتها السياسية مستقرة منذ عقود. أنظمة قامت و تقوم على التوريث السلمي للسلطة, بدلا من تداولها بالطرق الديمقراطية. وتعد الورثة من الأبناء حتى في الأنظمة الجمهورية. رغم ذلك لم يكل الطالب في إلقاء اللوم كل اللوم على الغير والخارج.
تبحر, في رسالته, حسب ما بينته المناقشة, في عرض العوامل المشتركة التي تجمع العرب: عامل الأصل المشترك. عامل الدين. اللغة. التاريخ. الأماني والآمال المشتركة. وكل ما بشرت به الأحزاب السياسية الوحدوية في مرحلة معينة, وتخلت عنها لا حقا, دون أن يفطن هو لذلك.
وعقد مقارنة بين أوروبا التي لا تتوفر فيها عوامل الوحدة من لغة, ودين, وأصول, وتاريخ يبين عمق الصراع بين دولها وشعوبها. حروب دينية طويلة, وتنافس استعماري على تقاسم العالم, وعن مسائل أقليات دينية وعرقية ..
لم يكن يتوقع الطالب الذي أسهب في ذلك سؤال أتاه من احد أعضاء اللجنة: ـ السيد الباحث بما تفسر انه رغم كل ما ذكرت من العوامل التي تربط أبناء منطقتكم العربية, وتلك التي تفرق الأوروبيين, قد فشلتم انتم في إقامة وحدة أو اتحاد في منطقتكم, ونجحت أوروبا في بناء اتحاد حقيقي بين دولها وشعوبها؟ هل لك أن تشرح لنا ذلك بمنطق الباحث وموضوعيته؟.
لم تتطرق في أي مكان في رسالتك لتراجع فكرة الوحدة وضعف الطرح القومي أو حتى افلاسه, ليس تدريجيا وإنما بشكل هابط وسريع. ولا لأسباب انكماش شعبية الأحزاب الداعية لها, أو مقدرة هذه الأخيرة على البقاء الفعلي في عالم اليوم. لم تفسر ما حدث ويحدث في العراق. في اليمن. في السودان. من اقتتال داخل القطر الواحد بهدف تجزئة القطر وليس من اجل بناء الوحدة العربية موضوع رسالتك. لم تطرح وضع ومستقبل الأقليات القومية والدينية في دولة الوحدة المنشودة. لم تتطرق للصراعات الخفية أو شبه العلنية, إلى الآن على الأقل, بين المذاهب الدينية الكبرى في منطقتكم. ولا لانتشار تلك الأحزاب التي لا تتبنى مسألة الوحدة العربية. لم تتطرق للتحالفات الوثيقة بين بعض الدول العربية مع دول إسلامية غير عربية, وعدائها لدول عربية تجمعها بها الروابط التي أشرت إليها كمقومات للوحدة العربية.
إذا كانت الخلافات, كما جاء في أماكن عديدة من رسالتك, هي مجرد خلافات بين الحكام وليس بين الشعوب, مع انك ضد هذا التوصيف, "شعوب", وإنما مع استعمال كلمة "الشعب" العربي, إذا كانت هذه الشعوب, أو الشعب كما تفضل , تنتخب حكامها بنسب تصل إلى شبه الإجماع, وتدافع عنهم بالإجماع في كل خلاف عربي ـ عربي, أليس الحديث عندها عن خلاف حكام, بعيدا عن الشعوب ودون مساندة الشعوب, تعوزه الدقة, و يفتقد للتبرير المقنع والشرح المعلل والمنطقي والموضوعي من قبلكم؟ خاصة وأنكم تكتبون للأجيال العربية الحاضرة والقادمة, كتابة المفترض فيها أنها تعرض الحقيقية وتقولها بهدف معالجة واقعكم بمنطق الواقع وعلميته؟.

السؤال الذي لم يتوقعه الطالب ووضعه في موقف لا يحسد عليه, جاء من المشرف على رسالته نفسه, مرفق بابتسامة لم يستطع إخفاء خبثها, هل أنت من أنصار الفريق المصري أم الجزائري؟. مضيفا بعدها بجدية واضحة: أين تضع ما وقع من خلاف بين البلدين, في خانة الحكام أم الشعوب؟. الحكام هددوا بسحب السفراء وتأزمت العلاقات على كل المستويات. و أعربت قطاعات كبيرة من الشعبين العربيين بكل الطرق بما فيها العنف ــ نالنا منها نحن في فرنسا نصيبا, حرق سيارات في مدن عديدة وتحطيم واجهات محال تجارية ليس لا صحابها علاقة بالموضوع أو قد لا يكونوا سمعوا بالمباراة أساسا ــ, عن انتماء محلي لا علاقة له بالقومية التي تذكر ولا الوحدة التي تدافع عنها. ألا ترى في هذا كشف عن حقائق موجودة فعلا وراسخة في الأقطار العربية, تبين الفوارق الحقيقية, والرؤى المتضاربة, وأنماط الحضارات المختلفة في كل منها؟
قد تقول بان المسألة مجرد رياضة وليست سياسة, وان لا علاقة للرياضة بالسياسة, ولا بموضوع بحثك. لك الحق في قول ما تشاء. لكن للفت النظر فقط والتذكير بان السياسة كثيرا, إن لم نقل دائما, ما استخدمت الرياضة. الم تكن هذه الأخيرة, على سبيل المثال, مدخلا لفتح علاقات سياسية بين الولايات المتحدة والصين بعد طول قطيعة. ألا يحاول سياسيون في السلطة أو مرشحون للوصول إليها, الوصول لجماهير الرياضة الذين يفوقون بما لا يقاس متتبعي السياسية؟. أليس من هذا القبيل حضور مرشحين محتملين لخلافة أبائهم أو أخوتهم في كلا البلدين المتنافسين كرويا؟, مصر والجزائر. أسئلة تطرح ونرجو أن تأخذها في الاعتبار مستقبلا. فالمسألة لها أبعاد كبيرة لا يجب أن تخفى على باحث مثلك, وهي في حقيقتها ليست مجرد مباراة كرة قدم.
ملاحظات بصيغ أسئلة جعلت الطالب يحس بانهيار "دفاعاته" , بلغة الرياضة التي فرضت نفسها بفضل المباراة على جانب من المناقشة, وأراحت في الوقت نفسه اللجنة من سماع الكثير من العبارات والحجج المكررة , حول القومية العربية, والأمة الواحدة والرسالة الخالدة, القادمة من ستينات القرن العشرين. ومن حسن حظ الطالب أن تداعيات المباراة على جميع الأصعدة في البلدين, وتحزب آخرين من العرب لهذا الفريق أو ذاك, لم تصل وقتها علم لجنة المناقشة, التي لا يهمها من الأمر إلا إظهار أن أطروحات الرسالة غير مؤسسة. وان الواقع لا يؤيدها.
لم يهتم الطالب بهذه الملاحظات, فهو لم يأتي للتكوين بمنهجية وعقلية الباحث وأساليبه, وإنما لإتقان فنون التبرير والرد كيفما كان. كما لم يكن لها اثر على تقييمه أو على عمله. فقد أعلنته اللجنة دكتورا في علم السياسة وبدرجة مشرفة. سيعود بعدها لبلده للاحتفال به و "تعميده". وليباشر مهامهم التدريسية في تكوين القادم من الأجيال.
و السؤال هل سيقوم فعلا الدكتور الجديد بتدريس العلوم السياسية؟. أم فنون سياسات موفديه, المستثمرين فيه؟.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن