كيلا تسقط باكستان، دعوا العسكر يحكم مباشرة

عبدالله المدني

2009 / 11 / 8

لعل ما آلت إليه الأمور اليوم في باكستان، وما دعا على إثره البعض من متابعي الأوضاع الباكستانية داخل المؤسسات البحثية الغربية، لوصف باكستان بالدولة الآيلة للسقوط، هو إحدى النتائج الطبيعية للخطأ القاتل الذي اقترفته الإدارة الأمريكية السابقة، حينما ضغطت من أجل استقالة الرئيس السابق الجنرال برويز مشرف لصالح حفنة من الساسة المدنيين من ذوي التاريخ المليء بصور الفساد والانتهازية. وحينما يأتي الحديث عن هكذا حدث، يقفز على الفور إلى الذهن دور الجيش في السلطة في باكستان ومسلسلات صراعاته الطويلة مع الساسة المدنيين.

فهذه البلاد، منذ أن استقطعت من الهند البريطانية، لم تهنأ طويلا بالأمن والاستقرار، بمعنى أن تاريخها منذ العام 1947 مزيج من صور الصراعات والاضطرابات والانقلابات والمؤامرات، ومشاهد الفقر والتخلف والتعصب. وبعبارة أخرى لا يجد المتصفح للتاريخ الباكستاني سوى مدنيون يتآمرون ضد بعضهم البعض، و محافظون يحاولون إقصاء العلمانيين، وسنود يزاحمون البنجابيين على المناصب العامة، وقبليون أميون يتمددون على حساب سكان المدن المتعلمين، وجنرالات ينتهزون فرصة وجودهم في السلطة لتوسعة دائرة نفوذهم في كل مجال، (طبقا للباكستانيين أنفسهم كيلا نتهم بالتحامل).

غير أن اللاعب الأكبر في كل الأحوال كان ولا يزال هو الجيش، شاملا جهاز المخابرات المعروف باسم : آي اس آي، فالجيش هو الذي يمسك بزمام الأمور – حتى في الفترات التي يجلس فيها المدنيون في السلطة – وهو الذي له الكلمة الفصل في السياسات الداخلية والخارجية، وهو الذي يحدد اسم رئيس البلاد ورئيس حكومته. ومن هنا لم يكن غريبا أن تكون أفضل الحقب في تاريخ باكستان الحديث لجهة الاستقرار والتنمية، هي الحقب التي تولى الحكم فيها جنرالات الجيش مباشرة، باستثناء حقبة الجنرال يحيى خان التي شهدت حرب البنغال وانفصال باكستان إلى كيانين، وحقبة الجنرال ضياء الحق التي جاءت في زمن شهد تطورات إقليمية خاصة، ونقصد بها تطورات الأوضاع في أفغانستان على اثر الغزو السوفيتي لها. فمثلا عهدي الجنرالين اسكندر ميرزا ومحمد أيوب خان، )والى حد ما عهد الجنرال برويز مشرف(، كانت بصفة عامة عهود رخاء وأمن نسبية، استطاعت باكستان من خلال توثيق علاقاتها التحالفية والاستراتيجية بالغرب، وتقديم نفسها على أنها ضرورة من ضرورات الحرب الباردة ، و لاحقا كضرورة من ضرورات التحالف ضد الإرهاب الدولي، أن تغرف الكثير من المساعدات العسكرية و المعونات الإنمائية من الولايات المتحدة وشريكاتها الغربيات، وبما وفر لها ضمانة وقتية ضد الإفلاس الاقتصادي وعجوزات الخزينة العامة.

ورغم ما لحق بالجيش الباكستاني من مهانة بسبب هزيمته في حرب البنغال، ثم ما لحق به من خلل شوه صورته كأحد أكفأ جيوش الشرق الأوسط بفضل ما رسخه الإنجليز فيه منذ زمن استعمارهم لشبه القارة الهندية من انضباط ومناقبية، بل أكثر جيوش المنطقة أيضا لجهة القدرات الاستخباراتية بفضل ما أغدقه الغرب عليه خلال سنوات الحرب الباردة من أنظمة متطورة ومعونات وبرامج تدريبية،.

رغم كل هذا التراجع، ورغم ما تلقاه في وضح النهار في يوم 11 أكتوبر 2009 من ضربات جريئة طالت مقر قيادته العامة في راوالبندي من قبل ميليشيات طالبان/ باكستان، لا يزال الجيش الباكستاني هو الآمر الناهي في البلاد، والذي لا يمكن للساسة المدنيين أن يخالفوا أوامره، و إلا فان دباباته جاهزة للخروج فجرا والاستيلاء على السلطة بهذه الحجة أو تلك (على نحو ما فعله مرات عدة بحجة حماية البلاد من فساد الساسة المدنيين أو تحت مبرر حماية باكستان من أطماع العدو الهندي). و اليوم بات هذا الجيش يتخذ من مخاوف الغرب حول احتمالات سقوط الترسانة النووية الباكستانية في أيدي الجماعات المتطرفة كالطالبانيين وأنصارهم من تنظيم القاعدة وسيلة لتعزيز مواقعه داخليا وللحصول على المعونات الخارجية.

لقد اتخذت عملية تأسيس الكيان الباكستاني شكلا خاطئا منذ البداية، بمعنى أنها أغفلت عملية ترسيخ مبدأ خضوع العسكري للمدني، وليس العكس (مثلما حدث وترسخ في الهند المجاورة على يد البانديت نهرو ورفاقه)، فسارت الأمور بالتالي وفق منحى يشك الكثيرون أنه المنحى الذي أراده مؤسس البلاد محمد علي جناح. وزادت الأمور تعقيدا حينما رحل الأخير بعد عام واحد فقط من قيام دولته، تاركا مصيرها في أيدي خلفاء تنقصهم التجربة و الكاريزما والدهاء السياسي أو الشرعية التاريخية، مما تسبب في الكثير من حالات الصراع والتنافس والتآمر اللاحقة. الأمر الآخر الذي مهد لسقوط باكستان في أتون الخلافات وأعاق قيام تجربة ديمقراطية راسخة مسنودة بركائز علمانية، هو انتقال القوى والأحزاب الإسلامية المتشددة ممثلة في رموز المدارس الديوباندية وأنصار أبي الأعلى المودودي (منظر فكر حركة الأخوان المسلمين) من الهند إلى باكستان برفقة جناح، وقيامهم بعد وفاة الأخير بدور تخريبي ضد فكرة الدولة المدنية الحديثة القائمة على ركائز الديمقراطية والعلمانية والفيدرالية.

تأسس الجيش الباكستاني غداة تقسيم شبه القارة الهندية في عام 1947، حيث تم توزيع ممتلكات جيش الهند البريطانية من الأعتدة والأسلحة على الكيانين الوليدين، فحصلت باكستان على 6 مدرعات و8 مدافع ميدان و8 كتائب مشاة، فيما حصلت الهند الأكبر مساحة وسكانا على 40 مدرعة و40 مدفعية ميدان و 20 كتيبة مشاة.

وبسب هذا الفارق الكبير في القوة، معطوفا على مخاوف الباكستانيين من احتمالات قيام الهنود بالاعتداء على أراضيهم أو الاستيلاء بالقوة على إقليم كشمير الذي لم يكن قد بت في أمره حتى تلك الساعة، تم سريعا إلحاق فرق الكشافة المحلية والمسلحين من شباب القبائل بالجيش الجديد. وبهكذا جيش خاضت باكستان أولى حروبها مع الهند في عام 1947، لتنتهي الحرب باستيلائها على ثلث مساحة كشمير فقط وترك الثلثين الباقيين في أيدي الهنود، وهي النتيجة التي تعززت بقرارات الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار.

استولى الجيش الباكستاني لأول مرة على السلطة في عام 1958، وذلك حينما قاد الماريشال محمد أيوب خان انقلابا أبيضا ضد نظام الميجور جنرال اسكندر علي ميرزا ( آخر حاكم عام لباكستان وأول رؤساء الجمهوريات فيها، وأول وآخر من حكمها من ذوي الأصول البنغالية). كانت الأوضاع وقتها بالغة السؤ في البلاد إلى الحد الذي تم الاعتداء فيها حتى الموت على رئيس الجمعية التشريعية، وذلك كنتيجة للصراع على النفوذ ما بين المدنيين والعسكر، في أعقاب اغتيال خليفة جناح (رئيس الوزراء لياقت علي خان)، و أيضا كنتيجة لمحاولة ميرزا وضع دستور جديد للبلاد يحقق لها استقرارا سياسيا طويلا.

وفي عهد أيوب خان الذي استمر حتى نهاية الستينات، التي شهدت اضطرابات واحتجاجات جماهيرية للمطالبة بالديمقراطية، خاض الجيش الباكستاني حربه الثانية ضد الهند، وذلك على اثر ما عرف بعملية تسلسل لجنود باكستانيين داخل الأراضي الهندية في عام 1965 أطلق عليها "عملية جبل طارق". وكان القصد من هذه العملية التحضير لحرب تسترد بها باكستان بقية الأراضي الكشميرية كما يذكر المؤرخون العسكريون. غير أن مخططات كراتشي باءت بالفشل بعدما اكتشفها الهنود وقرروا الرد عليها بحرب شاملة. ورغم أن كلا الطرفين أعلنا انتصارهما في تلك الحرب، فان نظرة على ما انتهت إليه تبين تفوق الهنود الذين توغلوا في أراض باكستانية ثمينة في إقليم البنجاب، فيما لم يتمكن الباكستانيون إلا من احتلال أراضي قاحلة في منطقة " ران كوتش".

ترك أيوب خان السلطة في عام 1969 لزميله الجنرال يحي خان، بعد أن منح بلاده سنوات من الاستقرار والنمو الاقتصادي، علاوة على الارتقاء بقدرات جيشه، وذلك كنتيجة لتماهيه مع مخططات واشنطون ولندن في المنطقة وانخراطه في الأحلاف الغربية كحلفي "بغداد" و "السيتو"، الأمر الذي ضمن معه تلقي مساعدات مالية وعسكرية معتبرة كما أسلفنا. غير أن خطأ أيوب خان الكبير تمثل في تنصيب شخصية عسكرية هوجاء كيحيي خان في سدة الرئاسة بدلا من رئيس الجمعية التشريعية كما كان ينص الدستور. لم يستطع يحيى خان التعامل بذكاء مع استحقاقات تلك الفترة العصيبة، ولا سيما مطالب سكان الجناح الشرقي من بلاده، الذين كانوا قد سئموا حياة الذل تحت حكم النخب السندية والبنجانية في باكستان الغربية، و باتوا مستعدين للتمرد من اجل إقامة دولتهم المنفصلة تحت اسم بنغلاديش. وبعبارة أخرى، بدلا من أن يتفاهم الأخير مع زعماء الجناح الشرقي وفي مقدمتهم الشيخ مجيب الرحمن، وينظم انتخابات رئاسية نزيهة، عمد إلى الانحياز إلى جانب زعماء الجناح الغربي وعلى رأسهم "ذوالفقار علي بوتو". وبطبيعة الحال فان الأمور لم تنته بانفصال باكستان الشرقية عن دولة محمد علي جناح، وإنما تسببت في آلام ومآس إنسانية وخروقات وحشية لحقوق الإنسان كنتيجة لمجازر ارتكبها الجيش الباكستاني ضد مواطنيه البنغاليين، على نحو ما هو موثق في تقرير يحمل اسم "تقرير حمود الرحمن حول حرب البنغال 1971". علاوة على ذلك كان من نتائج حرب البنغال وقوع أكثر من 55 ألف عسكري و35 ألف مدني من عناصر الجيش والإدارة الباكستانية العاملة في الجناح الشرقي كأسرى حرب في قبضة السلطات البنغلاديشية.

الانقلاب الثاني للجيش كان في عام 1977، حينما أطاح الجنرال ضياء الحق بحكومة ذوالفقار علي بوتو المنتخبة ديمقراطيا، ودشن عهدا ديكتاتوريا لم ينته إلا بموت الرجل في حادثة انفجار طائرته المدنية في عام 1988. وإذا كان عهد ضياء الحق اختلف عن عهود أسلافه وخلفائه العسكريين لجهة عدم اصطدامه بالهند عسكريا، فان ذلك العهد شهد شيئا أسوأ بكثير هو التدخل في أفغانستان عبر تقديم البلاد نفسها كملجأ للمجاهدين الأفغان، ومعبر لأنصارهم من المتطوعين الأجانب. وربما انشغال ضياء الحق بهذا الدور هو الذي منعه من مغامرة عسكرية جديدة ضد الهند. أما ابرز معالم عهده فهو محاولته اسلمة الجيش والبلاد. هذا المشروع الذي تزامن مع صحوة الجهاد في أفغانستان وغيرها، وكان سببا في انتشار ما عرف بثقافة "الكلاشنكوف" الذي طبع المشهد السياسي الباكستاني بالدماء والعنف والتعصب، فكانت تداعياته على أوضاع المؤسسة العسكرية جد خطيرة.

الانقلاب الثالث للجيش وقع في عام 1999 أي بعد عام واحد فقط من إعلان باكستان نوويتها، و كان ابيضا أيضا وتزعمه الجنرال برويز مشرف ضد رئيس الوزراء المدني المنتخب "نواز شريف". أما المبرر فقد كان كالعادة "فساد السلطة المدنية وضرورة محاسبتها". و كما في كل عهود العسكر، اصطدم الجيش الباكستاني في عهد برويز مشرف بغريمه الهندي في شتاء عام 1999 في حرب جبلية قصيرة معقدة عرفت بحرب "كارغيل"، كان النصر فيها للباكستانيين لبعض الوقت قبل أن تنقلب الموازين لصالح الهنود. عدا عن ذلك خاض جيش مشرف، في عام 2006 حربا شرسة ضد مقاتلي "جيش التحرير البلوشستاني"، وتمكن من قتل زعيمهم "نواب أكبر بوغتي" الذي اتهم بالسعي لإقامة دولة بلوشية مستقلة، هذا قبل أن يخوض حربه المستمرة إلى اليوم ضد المتشددين الطالبانيين في المناطق المحاذية لأفغانستان.

بعيدا عن دور الجيش الباكستاني في الداخل، اضطلع هذا الجيش بمهام خارجية ضمن قوات حفظ السلام الدولية، خصوصا بعد انتهاء الحرب الباردة وتزايد دور ذوي القبعات الزرقاء في صيانة السلم العالمي. وهكذا اشتركت القوات الباكستانية في عمليات في العديد من الدول العربية والآسيوية والأفريقية والأوروبية، علاوة على اشتراكها في التحالف الغربي لطرد العراقيين من الكويت.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن