طريقتان في محاولة فهم الخالقية وعلاقتها بالحكمة والعدل

تنزيه العقيلي
tanzih@ymail.com

2009 / 11 / 7

هناك على النحو العام طريقتان في تعقل الخالقية، من حيث علاقتها بكل من الحكمة والعدل، وما يترتب على العلاقة المكتشفة، أو المظنون اكتشافها، فيما بينها من جهة، وبينهما من جهة ثانية.

الطريقة الأولى:
كأن أصحاب هذه الطريقة يضعون لأنفسهم كأساس في التفكير في هذه القضية مقدمتين على نحو الجملة الشرطية، فيقولون:
1. إن وُجـِد خالق للكون، فيجب أن يكون عادلا وحكيما.
2. إن وُجـِد العدل والحكمة في الوجود، فهذا دليل على وجود الخالق العادل الحكيم.

ثم يبدؤون البحث عن الحكمة الكامنة وراء هذه الحياة، وعن العدل القائمة هذه الحياة طبقا لموازينه، ومن خلال هذا البحث يصلون إلى إحدى نتيجتين، يستخلصون من كل منهما موقفا من المسألة موضع البحث.

النتيجة الأولى: إنهم يصلون إلى إدراك الحكمة من وراء هذه الحياة، وإلى توافق الحياة مع موازين العدل، ويقتنعون بالتالي أن كل شيء في الوجود قائم على أساس الحكمة والعدل، وبالتالي يؤمنون بوجود خالق عادل حكيم وراء هذا الكون.

النتيجة الثانية: إنهم لا يكتشفون الحكمة من وراء هذه الحياة، ولا يكتشفون توافقها مع موازين العدل، وهذا هو الغالب، والأكثر واقعية، فيخرجون بنتيجة مفادها عدم وجود خالق للكون، باعتبارهم اشترطوا للخالق وجوب اتصافه بالعدل والحكمة، أو قد يسقطون شرطهم، هذا فيقولون بوجود خالق غير عادل وغير حكيم، وهذا يعني عدم اتصاف الخالق بالكمال، لكن هذا النوع من التفكير يضع فرضية، مفادها أن المخلوق أكمل من الخالق، وهذا محال، ففاقد الكمال لا يعطيه، وذلك لأن الذي يفكر بهذه الطريقة يفترض أن يكون أكمل من خالقه، لأنه قد تحسس فقدان الحياة للحكمة والعدل، بينما لم يتحسس الخالق هذا الخلل، تعالى عن ذلك. أو إنهم يدركون أن الحكمة والعدل متحققان في بعض مفردات الوجود، ولا يستطيعون أن يكتشفوهما في بقية المفردات، فيضطرون إلى القول بالثنائية، فيجعلون للكون خالقـَين، أحدهما أراد أن يكون كل شيء خيّرا، وموافقا للحكمة والعدل، والثاني أراد أن يكون كل شيء شرّيرا، وموافقا للعبث والظلم. وبهذا افترضنا خالقين ناقصين من خلال محدودية كل منهما بوجود ند له، ومن خلال عجز كل منهما عن إلغاء الآخر، مضافا إلى ذلك النقص المتحقق بالظلم والعبث في أحدهما؛ فتكون كل صراعات الكون والحياة ناتجة عن صراع محتدم أبدي بين الإلهَين المتنادَّين المتنافسَين الناقصَين؛ العبثي الظالم المحب للشر إذ يكمن نقصه في هذه الصفات السلبية، والحكيم العادل المحب للخير إذ يكمن نقصه في عجزه عن تعطيل دور وتأثير الإله العبثي الظالم الشرير، وكلاهما يكمن نقصهما في أن أيا منهما لم يحقق الواحدية التي هي من لوازم الكمال المطلق، لأن الكامل كمالا مطلقا يستغني عن كامل ثان، لعدم وجود ثغرة في كماله يجبرها كامل ثان أو إله ثان.

وواضح أن كلا من هذه الاستنتاجات باطل. فعدم وجود الخالق ممتنع عقلا، بحسب الإلهيين العقليين، مع احترامنا للملحدين، ووجود خالق غير عادل وغير حكيم ممتنع كذلك، ووجود خالقين على النحو الأخير ممتنع وباطل أيضا.

الطريقة الثانية:
إننا نبحث عن سر الوجود ومبدئه، فنكتشف بالعقل أن لا بد من وجود علة أولى، أي من خالق متصف بكل صفات الكمال. إذن عقولنا توجب وجود الخالق، ووجوب كونه واحدا أحدا، حكيما عادلا. وبالتالي يمتنع عقلا عدم وجود خالق، كما يمتنع عقلا وجود أكثر من خالق، وكذلك يمتنع عقلا وجود خالق لا يتصف بكل صفة من صفات الكمال، أو لا يتصف بكل منها على نحو الإطلاق. عندئذ يكون من الواجب أن كل ما في الخلق لا بد أن يكون مخلوقا على أساس الحكمة والعدل.

بعد أن ننتهي من هذه الحقائق العقلية الواجبة، لنا أن نحاول فهم الحكمة والعدل في تفاصيل الكون، ونرى هل نستطيع اكتشاف انطباق كل مفردات الخلق مع شرائط الحكمة وموازين العدل، وإذا لم نكتشفها كاملة، ندرك يقينا على ضوء المقدمات آنفا، أن بحثنا لم يكتمل، بل هناك ما لم نتوصل بعد إلى اكتشافه، والذي سيكتشفه الإنسان مستقبلا عبر عملية التطور والنمو والتكامل المطرد في معارفه واكتشافاته، إما في هذه الحياة، أو في ثمة حياة بعد هذه الحياة.

في بحثنا هذا وفي تأملاتنا هذه لا بد أننا سنصل إلى إحدى نتيجتين:

النتيجة الأولى: إننا نفهم الحكمة والعدل في كل مفردات الوجود، أي نكتشف فعلا أن كل ما في الخلق مستوف لشرائط الحكمة، وموافق لموازين العدل. فيكون ذلك تأكيدا على حكمة وعدل الخالق، ولكن هذا الافتراض عسير التحقق، وإن افترضنا تحققه، فعند قلة صغيرة جدا، أو إن البعض يدعي تحققه بتكلف ادعاء أدلة ليست هي بأدلة، وذلك خوفا أو هربا من الوقوع في الشك أو التشكيك.

النتيجة الثانية: إننا نكتشف الحكمة والعدل في بعض، أو في الكثير من مفردات الخلق، لكننا لا نستطيع أن نكتشفهما في البعض الآخر، أو لا نستطيع أن نفهم تماما كيفية الانطباق والتوافق معهما.

عندئذ يمكن أن نطرح على أنفسنا مجموعة أسئلة:
1. هل أن ما لا نكتشف فيه موافقته لشروط الحكمة وموازين العدل، هو مما نستطيع أن نقطع بمنافاته فعلا وبالضرورة للحكمة والعدل؟
2. بناءً على ذلك هل يمكن أن يكون إلى جانب الخالق العادل الحكيم، خالق آخر يخلق الشرور، أو يخلق لا بما هو على طبق الحكمة والعدل؟
3. وإلم يكن وجود خالق ثان ممكنا، فهل يجوز افتراض أن الخالق غير عادل وغير حكيم، أو أنه باعتباره يفعل ما يشاء، فقد شاء أن يخلق بعض الأشياء على خلاف الحكمة أو خلاف العدل؟

الإجابات العقلية الفلسفية البحتة والمجردة، بعيدا عن المناهج في الدينية التبريرية والهروبية، على هذه التساؤلات، أو الافتراضات، تكون عندها واضحة، لاسيما أننا كنا قد فرغنا من المسلمات العقلية بوحدانية الخالق وكماله وتنـزهه من خلال الوجوبات العقلية التالية:
1. الخالق يجب أن يكون موجودا.
2. الخالق يجب أن يكون واحدا أحدا متوحدا أحاديا، أي لا ثاني ولا جزء له.
3. الخالق يجب أن يكون كاملا كمالا مطلقا.
4. الخالق يجب أن يكون - تفرعا عن ذلك - عادلا.
5. ويجب أن يكون حكيما.

إذن كيف نوفق بين تعقلنا لكل ذلك على نحو الوجوب، وعدم اكتشافنا لمطابقة بعض ما في الخلق مع موازين الحكمة والعدل؟ كيف نستطيع أن نفسر وجود بعض مفردات الخلق مما لم نكتشف انسجاما فيه مع شرائط الحكمة وموافقته لموازين العدل؟

الحل سهل وواضح، وذلك لأن عدم قدرتنا على التوفيق بين الأمرين، يلزم أن نفهم هذين الأمرين على أي نحو وبأية طريقة يدركهما عقلنا. عندها نجد أن العقل يقف أمام قضيتين:
1. قضية يدركها العقل على نحو الوجوب واليقين والقطع والتسليم.
2. قضية لا يدرك العقل سرها، فيقف حائرا أمام ظنون واحتمالات وتحليلات غير يقينية، بل تتراوح بين أن تكون وهمية، أو احتمالية بدرجة ما، قد لا تقوى حتى على أن تكون بقوة الظنية. وواضح عندها عقلا أن الشك - بل وحتى الظن - لا يقوى على زحزحة اليقين، وإلى هذا المعنى يذهب النص القرآني «إنَّ الظـَّنَّ لا يُغني مِنَ الحَقِّ شـَيئـًا»، وإن كنا لا نعتمد النصوص القرآنية في الاستدلال لإيماننا ببشريته، وتحفظنا على الكثير مما ورد فيه، ولكن مما لا يمنع من الأخذ بما نرى صوابه، لصوابه، لا لقرآنيته، أو لدعوى أو توهم إلهيته.

المحصلة تكون كالتالي:
1. حكمة وعدل الخالق واجبان عقليان.
2. تعقلنا للحكمة والعدل - وان كان على نحو الوجوب - يبقى إدراكنا له على نحو الإجمال وفي مستوى المفهوم.
3. عدم إدراكنا للحكمة والعدل في كل الأحوال على نحو التفصيل وفي مستوى المصاديق (كلها) لا يزعزع المسلمات والمقدمات العقلية الأولية.
4. نسلم بقصورنا في الفهم لعدم إحاطتنا بكل حيثيات القضية، لأن عدم فهمنا لتفاصيل مفردات الحكمة وتفاصيل مفردات العدل متأت من خلال أننا نقيسها بمقاييس نسبية وقاصرة لا تزعزع قطعنا ويقيننا، فنقر بعجز أذهاننا عن إدراك كل التفاصيل في عالـَم الاحتمالات والترجيحات الظنية، لوجود ثغرات في المقدمات، أي في المعلومات التي يبنى عليها التحليل والاستدلال، مع قدرتها على تعقل الواجبات والممتنعات العقلية في عالـَم الواجبات على نحو القطع واليقين. وإن إقرارنا بعجز أذهاننا عن إدراك كل هذه التفاصيل، ليس من قبيل تعطيل دور العقل في فهم العقيدة، بل يعبر عن إدراك عقلي لحدود أي نسبية العقل في تحديد ما هو في دائرة قدرته الإدراكية، وما هو خارج عن هذه الدائرة، لاسيما إن العجز إنما هو بسبب غياب معلومات أولية ضرورية للتحليل والاستنتاج، وليس لقصور ذهني، فإننا عندما نسأل أي صاحب اختصاص عن قضية تحتاج الإجابة عليها إلى مقدمات، ولا تكون هذه المقدمات متوفرة، لا يبرر لنا التشكيك بقدرته على الإجابة، بل عدم الإجابة ناتج عن غياب المقدمات، أو عدم الإحاطة بكل الحيثيات، كمعلومات تكون إما متوفرة أو ممكنة التوفير أو غير متوفرة أو غير ممكنة التوفير، وليس كقدرة أو ذهنية تحليلية، هذا إضافة إلى إن هذا الإدراك يكون حافز تحريك نحو تحقيق ما يمكن تحقيقه من تطلعاتنا المعرفية، أو تحقيق مزيد مما حققناه، وسد ثغرة من ثغرات معارفنا، كما هو الحال مع كل ميادين المعرفة الإنسانية المتطورة اطـّرادا، ومحاولة صياغة نظرية تشتمل على إجابات عن أسئلة بقيت غير مجاب عنها من قبل النظريات الراهنة.

نوجز الخلاصة ثانيا بثلاث حقائق:
1. وجود الخالق أو العلة الأولى غير المعلولة واجبة الوجود الغنية الأزلية ثابت عقلا.
2. الخالق حكيم وعادل بالضرورة العقلية.
3. الحكمة والعدل في الخلق كواجبين عقليين ندركهما إجمالا ومفهوما، و(ربما) لا ندركهما تفصيلا ومصداقا (في كل الأحوال).
ثم نواصل محاولة الإجابة عن الأسئلة المفتوحة، التي لن تكون إجابات نهائية بل محاولات بحث عن ثمة إجابات، قد نفلح فيها بنسبة ونخفق بنسبة.

وأخيرا أحب هنا أن أوضح ما أقصده بالعقل، وما إذا كانت العقليات مطلقة في صوابها أم نسبية. أقصد بالعقل حقلا من حقول الفكر الإنساني، كالرياضيات، والطب، والفيزياء، والاجتماع، والفلسفة، والسياسة، واللغة، وغيرها. والرياضيات هي الأقرب مثلا للعقل الذي أقصده، فكما إن الرياضيات كحقائق مجردة وقوانين ثابتة مطلقة الصواب، لكنها نسبية الإدراك والتطبيق، فإن العقل الذ أقصده كحقل معرفي، هو الآخر مطلق الصواب، لكنه نسبي الإدراك والتطبيق. وأحيانا أستخدم (العقل) بمعنى ملكات الإدراك العقلية، فهي نسبية دائما. فأرجو التمييز بين العقلين بحسب السياقات.

كتبت لأول مرة عام 1997
نقحت عام 2007
روجعت في 29/10/2009



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن