الاسطورة الكبرى

أحمد كريم
ahmedkarimsocio@gmail.com

2009 / 11 / 7

مدخل

لكل شعب اساطيره المختلفة التي تناقلتها الالسن عبر الاجيال المتعاقبة، والتي تشكل جزءا من التراث التاريخي-الثقافي لذلك الشعب. وكانت هذه الاساطير تؤخذ ذات يوم كحقائق مسلم بها، بل لاتزال تؤخذ هكذا في بعض البقاع المتخلفة من هذا العالم، وكان الموضوع المفضل للاسطورة يدور حول مغامرات قام بها بطل مغوار خاض المعارك الصعبة وقارع الاعداء الاشداء وخرج على الدوام منتصرا، ولم يغير من الموضوع إن كان ذلك العدو جيشا جرارا قهر الجميع قبل ان يسوقه القدر الى مجابهة بطلنا هذا أو كان عفريتا قادرا على اجتياز البحار والبراري في رمشة عين او على تحويل انسان ما بضربة من عصاه السحرية الى حجر، او كانت افعى بالغة الضخامة ابتليت بها الناس في تلك المنطقة وفتكت بالآلاف منهم ولم يتغلب عليها احد قبل ان يقارعها بطلنا هذا.
وكانت مغامرات العشاق من المتحابين حبا عذريا لونا آخر مفضلا من الوان الاساطير، وكان الشباب اكثر شغفا بهذه الاساطير. ولم تجتح قصص الف ليلة وليلة آلاف الكيلومترات لكي تترجم وتستقبل من شتى الشعوب بالترحاب الا لأنها كانت قصص مغامرات اسطورية شيقة حيكت باسلوب جذاب ومن مركز حضاري متقدم في ذلك العصر الغابر.
وقبل هذه المغامرات، في مراحل اسبق من تاريخ البشرية، ولدت اساطير من الوان اخرى كانت احداثها مترابطة بمغامرات اخرى وبصناع المغامرات، وكان ابطال هذا اللون من المغامرات مختلفين عن البشر الاعتياديين اذ ملكوا من الحول والقوة ما لم يكن في مقدور الانسان أن يحوزها. كان هؤلاء آلهة ذوي قدرات خارقة، متحكمين بكل ما يحدث من الغرائب في البحر والبر والسماء، وكان بين اولئك الآلهة من شوهد بالعين المجردة، كالإله الشمس والقمر والنجوم، ومن كان ضمن الغيبيات التي تستطيع الاتيان بالاعاجيب دون أن يتمكن أي انسان من مشاهدته. وقد قسم هؤلاء الابطال –الآلهة- مناطق النفوذ وتوزيع الادوار فيما بينهم –حسب تصور الناس. فمنهم من كان إله البحر وما فيه من العواصف، ومنهم من كان اله النار أو الامطار والرياح، ومنهم من كان اله الخير أو الشر أو الجمال.. الخ. وليس الابليس (الشيطان) الذي لايزال حيا ونشطا جدا حتى يومنا هذا –كما يتصور المتدينون- الا واحدا من تلك الآلهة القدامى –انه كان اله الشر سابقا في عصور تعدد الآلهة، فيما هو الآن شبه اله متمرد على الاله الاكبر ويواصل نشاطه التخريبي لتضليل الناس وحرمانهم من نعيم الجنان متحديا راضيا بأن يكون مثواه جهنم ابد الآبدين!
في تلك العصور كان الناس مؤمنين بتعدد الآلهة، الا انهم لم يرفضوا وجود بطل اعظم من سائر الابطال، وجود كبير الآلهة الذي كان ذا قدرات خاصة وضعته في المكان الاعلى بين فريق الآلهة جميعا، كالاله آمون بين آلهة الفراعنة والاله عشتار لدى الآشوريين. وقد تسلط هؤلاء الآلهة آلاف السنين متحكمين بجميع الامور على سطح هذا الكوكب قبل أن يتوصل الفكر الانساني الاكثر تطورا الى استنتاج جديد أكثر منطقية وأكثر اقناعا لبني الانسان –ألا وهو رفض فكرة تعدد الآلهة وتبني فكرة جديدة مفادها أن هناك الها واحدا للكون كله هو البطل الاوحد والاعظم القادر على كل شيء والخالق لكل شيء، وهو وحده البطل الجدير بأن يخافه الناس ويعبده الجميع لأن مصيرهم في يده وحده.
وهكذا يتضح، بالنسبة لمن يدرس الامر بامعان، ان الاديان كلها ودونما استثناء ليست سوى لون من اساطير الاولين، سوى مجموعة من الخرافات تهيأت الظروف لنشوئها عند البشر (والبشر وحدهم إذ لا دين لأي حيوان عاجز عن التفكير والتحليل والاستنتاج)، وقد ظل البشر متمسكين بهذه الاسطورة وبما حملت من قيم وتقاليد طوال آلاف السنين والى يومنا هذا. ولم يكن من قبيل الصدف ان زيّن النبي محمد –وهو آخر الانبياء وربما كان اثقفهم- كتابه القرآن بأساطير موروثة من قبيل اسطورة يوسف. كما لم يكن من قبيل الصدف ان بدأ التورات (أو ما عرف بالعهد القديم) باسطورة الخليقة الساذجة جدا والتي كانت مقبولة قبل آلاف السنين ولكنها اليوم تثير الضحك. ولم يتردد محمد في نقل هذه الاسطورة الساذجة فهل يمكن أن يكون ما أتى به نفسه شيئا غير الاسطورة؟
قد يوافقني رجال الدين من اليهود والنصارى والمسلمين* على رأيي في أن العصور التي تميزت بتعدد الآلهة (وكان الفراعنة في مصر والملوك الآشوريون والبابليون أنفسهم آلهة او ابناء آلهة) كانت عهد الضلال والخرافات، ولكنهم يزعمون جميعا بأن بدء التوحيد (أي الاقرار بوجود إله واحد للكون كله) كان بداية تحرر الانسان من الخرافات وتوصله الى ما هو سليم وصحيح. واذا افترضنا ان هؤلاء مصيبون في رأيهم وان التوحيد كان تحرير البشرية من عهد الضلال، فمن المسؤول عن الضلال الذي ساد عشرات الوف السنين؟ هل كان يليق برب العالمين أن يضلل عباده تلك المدة الطويلة وأن يحرمهم من نعم عبادته والتسبيح بحمده ومن دخول جناته؟
أما الحقيقة التي يجب ألا تخفى عن انظار الناس فهي ان تعدد الآلهة لم تنته من حيث الجوهر، بل هي مستمرة حتى يومنا هذا، فالتوحيد الذي يروق لرجال الدين أن يعتبروه قاسما مشتركا بين الاديان السماوية، ليس أكثر من شيء صوري، ذلك لأن تعدد الاديان بوضعها الحالي، حيث بقي لكل دين نبيه الخاص وكتابه الخاص وطقوسه الخاصة المغايرة لطقوس الاديان الاخرى، لا يختلف في جوهره عن تعدد الآلهة السابق للتوحيد. يعرف الجميع بأن الدين ليس مجرد الايمان بالله الواحد الاوحد.. بل ان لكل دين اركانه التي يقوم عليها وتكمل بعضها البعض، والايمان بالله ليس سوى ركن من هذه الاركان، في حين ان الايمان بالنبي المعني يشكل ركنا ثانيا والايمان بالكتاب المقدس الفلاني يشكل ركنا ثالثا والطقوس الاخرى تشكل ركنا رابعا. واذا كان اليهود ينظرون الى موسى كنبي كرمه الله بالتحدث اليه بين الحين والحين ويشترطون الاعتراف بأنه النبي ولا غيره، واذا كان النصارى يشترطون في تبني دينهم الاعتراف بأن عيسى هو الروح القدس وهو الابن الاصيل لله، واذا كان المسلمون يعتبرون محمدا خاتم الانبياء وحبيب الله رقم واحد، الذي لولاه لما خلق الله الافلاك.. اذا كانت اللوحة على هذه الصورة أفلسنا أمام لون جديد من تعدد الآلهة؟ ناهيك عن الاديان الاخرى، الهندوسية والصينية والبوذية وغيرها.. ومواقفها كل من سائر الاديان! أوَلا يتمسك كل دين من هذه الاديان بأنه وحده الصواب وان بقية الاديان باطلة؟ أليس ذلك نوعا من تعدد الآلهة؟ الحقيقة ان ما حدث بعد اعلان التوحيد كان مجرد اعادة الترتيب للاساطير الخرافية التي لاتزال تعيش وتتناقل بين بني الانسان وتستحوذ على قلوب مئات الملايين من الناس المقسمين لسبب لا يعرفونه بين هذه الاديان، كل يتمسك بدينه دون أن يفكر ويعرف مبررا معقولا لهذا التمسك. فالدين اسطورة الاساطير.. انه الاسطورة الكبرى في تاريخ البشرية كلها.
انني، انا الملحد اليوم عن وعي وقناعة قائمة على اساس فلسفي راسخ، كنت خلال اعوام من حياتي متدينا مقتنعا بهذه الاسطورة الخرافية مؤديا الطقوس الدينية كاملة، لكنني توصلت على مر الايام ونتيجة لتنامي وعيي وثقافتي الفلسفية وتجربتي في الحياة الى الاستنتاج الذي لا مفر من أن يتوصل اليه الواعون جميعا عاجلا أم آجلا –وهو أن لا اله ولا نبي بالمفهوم المتعارف عليه بين الاساطير الدينية ولا خالق للكون ولا شيء سوى الاوهام والخرافات الاسطورية. ولا وجود لغير المادة بأشكالها المختلفة الجزيئية واللاجزيئية وما ينجم عن حركة المادة –كما سنأتي في هذا البحث على ذكره.
يطيب لي ان اعلن بأني لا اضمر العداء لأي دين ولا فرق عندي بين دين وآخر ولا اكره كائنا من كان بسبب انتمائه الديني.. لكنني رأيت من واجبي أن انتصر للحقيقة وأن اساهم في تحرير العقول من الاوهام والخرافات الاسطورية التي علقت بأذهان الناس طوال آلاف السنين المنصرمة، فالعلم والتكنيك تطورا الى درجة خيالية وتحقق في واقع الحياة الكثير مما كان في الماضي حلما مستحيل المنال. والعالم، الذي لم يسمع بعض اقسامه بوجود البعض الآخر الى ما قبل مئات من السنين، قد اصبح اليوم، في ظروف العولمة والتطور العلمي التكنيكي، اشبه بقرية صغيرة ينتشر فيه خبر ما خلال دقائق.. لكن اسطورة الدين بقيت قوية واسعة الانتشار وعشرات الملايين يترددون يوميا على المعابد لأداء الطقوس الدينية.. ولا يستفيد من ذلك سوى فئات طفيلية من رجال الاديان المختلفة وفئات اخرى ممن يجدون مصالحهم في بقاء الجهل والضلال والتخلف لأطول مدة.
قد يتساءل البعض من أنا، الملحد المعادي للدين؟
ليس المهم أن يعرف الناس من أنا وما هي هويتي ومن أي دين تحدرت.. بل المهم أن يعرف الآخرون ماذا اكتب ولماذا اكتب وهل اكتب السفسطة أم انطلق من العلم والمنطق؟ يبلغ عدد رجال الدين في عالمنا هذا الملايين أو اكثر، وكلهم منشغلون بالدعاية للدين من فوق المنابر، ولهم كامل الحرية في أن يقولوا ما يروق لهم، تكفلهم الانظمة والقوانين ويحميهم تعاطف اعداد لا تحصى من المتدينين المتعاطفين معهم، وبينهم الكثيرون من المقتنعين بالدين وبعدالة الدفاع عنه، ايا كان دينه. أما انا وامثالي من الملحدين، فإننا نعيش في وضع آخر معاكس لوضع هؤلاء، لقد حرمنا من حرية التعبير عن الرأي، فالقوانين والانظمة السائدة تحرمنا في غالبية بلدان العالم، والانكى من ذلك أن الحركات السياسية-الدينية المتخلفة في العديد من البلدان تقف بالمرصاد ضد من تسول له نفسه الكتابة ضد الدين. فإذا جازف احد الملحدين أو حتى من المتدينين الذين ينتقدون بعض جوانب الدين، وكتب مقالا أو بحثا لم يرق لمن نصبوا أنفسهم حماة للدين تكالب عليه المتطرفون من رجال الحركات السياسية-الدينية ساعين الى تصفيته جسديا كطريقة للاسكات والارهاب. وبديهي أن لجوء هؤلاء الى هذا الاسلوب الارهابي يعود الى عجزهم عن المحاججة المنطقية وخوفهم من اقناع الناس بما لا يروق لرجال الدين، وامامنا مثال سلمان رشدي المقيم في بريطانيا وليس في بلاد اسلامية، كتب بعض ما لم يرق لرجال الدين، فسارع الرئيس الاعلى لدولة ايران الاسلامية روح الله الخميني الى اصدار فتوى حلل دمه. واصبح الهم الاكبر لسلمان التخفي عن انظار العناصر التي تبحث عنه لقتله! واذا نجا سلمان من القتل حتى الآن بفضل وجوده في بريطانيا، فإن المئات والالوف قتلوا بوحشية على ايدي الجماعات السياسية-الدينية فقط لأنهم اعتبروا اعداءا للدين. فهل هناك من يكفلني ويضمن سلامتي اذا تجرأت على نشر اسمي وعنواني؟ تمنيت لو امكن لي الدخول في مناظرات على شاشة الفضائيات مع منظري الاديان والمدافعين عنها فكريا لكي يستمع الينا الناس ويكونوا حكما بيننا. أنا واثق من ان ذلك اليوم سوف يأتي وسيرى المدافعون عن الدين انفسهم في وضع لا يحسدون عليه، اذ تنهار الاوهام والاساطير التي بنيت عليها الاديان والتي كانت قد ظهرت ذات يوم كمسألة اعتيادية مبررة ثم فقدت مبررات بقائها حين تطور العلم والتكنيك الى مستوى عال.
انا اعرف انني لست الملحد الوحيد اليوم، بل هناك الملايين من امثالي منتشرين في ارجاء المعمورة، وان عددهم في تزايد مستمر لأن وعي الناس في تصاعد مستمر ولأن الالحاد هو الذي سيربح الرهان في نهاية المطاف. والمسألة هي مسألة الوقت وحسب. وسيبعث على السرور أن يستفيد اهل الالحاد من التقدم العلمي-التكنيكي المعاصر وأن ينشئوا موقعا الكترونيا لهم على الانترنت وينشروا فيه مقالاتهم وابحاثهم، وأن يقيموا العلاقات فيما بينهم بشكل من الاشكال ويؤسسوا رابطة أو نقابة ترعى شؤونهم وتساعد على تسيير امورهم الفكرية بصورة افضل. لابد من أن تنشأ هذه الرابطة عاجلا ام آجلا وأن ينضم اليها الملايين وعشرات الملايين من مختلف البلدان وأن يكون للملحدين ايضا –شأن المدافعين عن الدين- حقهم في التعبير عن آرائهم. وليترك الجميع العنف البغيض الموروث من الماضي المتخلف ويقبلوا بالعلاقات الحضارية وبتبادل الآراء بهدوء وموضوعية بعيدا عن التهديدات والمهاترات وعن روح الانتقام. فالملحدون لا يكرهون أي انسان بسبب دينه وادائه الطقوس الدينية، ويرون من حقه الطبيعي أن يؤمن ويمارس طقوسه الدينية دون تدخل الآخرين. وعلى المؤمنين، ايا كان دينهم، أن يتخذوا نفس الموقف من الملحدين وأن يدعوا المحاسبة (التي يعتقدون بوجودها في الآخرة) لربهم وحده. ان الحضارة المتقدمة في ظروف العولمة المعاصرة وفرت الاجواء المناسبة لكي ينبذ التعصب دينيا كان أم قوميا أم قبليا، ولكي يتعايش المؤمنون والملحدون تعايشا سلميا اخويا لا تشوبه شائبة مخلفات الماضي.

المؤلف
كانون الثاني 2006-04-26
ملاحظة من المؤلف

ما قرأته اعلاه، ايها القارئ الكريم، هو مدخل او مقدمة كتاب يتناول قضايا الدين تاريخيا وفلسفيا من وجهة نظر شخص ملحد، اذا كنت توافق هذا الراي فإنني آمل منك أن تستنسخ ما قرأته وتقدمه الى من تريد من اصدقائك، واذا لم يرق لك ما قرأته فإن لك الحق في أن ترد وتنشر رأيك حيثما تريد. ورجائي الوحيد منك هو ان تعتمد اسلوبا علميا هادئا في المناقشات بعيدا عن المهاترات. وشكرا.

الدين ظاهرة اجتماعية

تنتصب امام من يريد دراسة الدين علميا وموضوعيا اسئلة عديدة، من بينها: ما هو الدين؟ كيف نشأ الدين؟ كيف تطور وأية تغيرات طرأت وتطرأ عليه؟ وبالتالي ماذا تكون نهايته؟
ان رجال الدين عموما، بمن فيهم منظروهم، لا يطرحون مثل هذه الاسئلة لأن الدين، حسب تصورهم، ليس في حاجة الى تعريف. فهو وجد منذ أن خلق آدم وحواء. وأنا اعتقد ايضا أن من يؤمن باسطورة الخليقة على الوجه المعروض في بعض الكتب الدينية لا يرى حاجة الى البحث عن جواب لمثل هذه الاسئلة، اذ ان الدين موجود منذ وجود الانسان، أي خلق الله الانسان متدينا وكفى، وبديهي ان بسطاء الناس، الذين كانوا اميين على مر العصور المنصرمة –قبل القرن العشرين- ليسوا معنيين بمناقشة هذه المسألة ولا مستعدين لأي تشكيك بوجود الاله وقدراته الخارقة. فالمعنيون بالنقاش هم رجال العلم والثقافة من ذوي الاهتمامات الفلسفية، الذين ينهجون نهجا اكاديميا ويبحثون عن الاسباب المقنعة للقبول او الرفض.
علميا لا يسهل تعريف الدين، لأنه ليس كتلك الكتلة المادية التي يسهل على عالم الفيزياء تحديد مقاساتها الهندسية طولا وعرضا وارتفاعا ووزنا وتركيبا وموقعا، أي لا يمكن ايراد مواصفات مادية للدين لأنه ليس شيئا ماديا، كما انه ليس كذلك كتلك القصيدة الشعرية التي كتبها شاعر قديم أو معاصر وقرأها او سمعها الآخرون فاعجبوا بها او بالعكس. فالكتل المادية ترى بواسطة الحواس –البصر واللمس وغيرهما، والقصيدة تتخذ شكلا محدودا بالكتابة على الورق، فيمكن لشخص آخر أن يستخدم حاسة البصر او السمع للتوثق من وجودها. لكن شيئا لا وجود له ماديا ولا يمكن التوثق من وجوده عن طريق الحواس المألوفة، بل يوجد فقط في مخيلة الانسان وفي الاساطير المتواترة –كما هو الدين- لا تمكن البرهنة على وجوده في عالم الواقع، فالدين موجود وغير موجود في آن واحد، موجود حسب قناعة الملايين من البشر، الذين تقبلوه منذ طفولتهم وقبل أن يصبحوا مؤهلين للتفكير فيه والمناقشة بشأنه. ترسخ في مخيلتهم منذ الطفولة وظلوا متمسكين به لاحقا كما لو كان حقيقة واقعية، الا انه غير موجود بأي حال من الاحوال اذا ناقشناه على طريقة الفيزياويين بحثا عن وجود مادة او ما يمكن، أن ينجم عن حركة المادة. الاله وما يرتبط به من مصطلحات كالملائكة والشيطان والجن والجنة والنار وما الى ذلك مسميات خيالية لم يتأكد احد من وجودها ولا يوجد دليل مادي عليها.
ومهما كان الامر فإن الدين وجد منذ آلاف السنين، ولايزال يوجد، كتصورات في مخيلة الانسان وكاسطورة هي اكبر الاساطير الخاصة ببني الانسان، فالسؤال: (ما هو الدين وكيف نشأ؟) يظل قائما وبحاجة الى الجواب. واذا وجهنا هذا السؤال الى احد رجال الدين الاعتياديين اجاب دون تردد: ان الدين هو الايمان بالله وبكتابه ورسوله (يختلف الكتاب والرسول من دين لآخر) والامتثال لأحكام الشريعة. ويقبل بهذا الجواب كل من ترسخت لديه فكرة ان هناك خالقا لهذا الكون هو الله. فالقناعة بوجود الاله الخالق يمكن ان يؤدي اوتوماتيكيا الى القناعة ببقية فصول الاسطورة من وجود الملائكة والشيطان ومن البعث والجنة والحجيم. غير ان من يرفض الاعتراف بالحلقة الاساسية في السلسلة –أي يرفض الاعتراف بوجود الله- يرفض بطبيعة الحال سائر الحلقات في الاسطورة. وقد قال المثل الشعبي قديما "ان الله عرف عن طريق العقل"، وهذا يعني ألا جدوى للبحث عن أي دليل مادي ملموس للتأكد من وجود الاله، وهذا المثل كان صحيحا كفكرة فلسفية طيلة آلاف السنين، لكن تغيرات كثيرة طرأت على عقل الانسان –بتطور جهازه العصبي- واتسعت معارفه الى ما لا يقاس بالماضي وتوصل الى غزو الفضاء ووضع الفضائيات والانترنت.. واذا كان العقل البشري في الماضي المتخلف سببا لاكتشاف الاله، فإن العقل البشري في الحاضر المتقدم، في عهد الثورة العلمية-التكنيكية الراهنة، مؤهل لأن يرفض الاستنتاج اللاعلمي القديم، الذي يفتقر الى الدليل المادي العلمي، ويقدم استنتاجا جديدا منسجما مع العلم والمنطق: لا وجود للاله، لا وجود للعالم الغيبي الذي خلقته الاوهام، ولا يوجد شيء سوى المادة وما ينجم عن حركة المادة.
الدين موجود لدى الناس كمعتقد فكري-فلسفي، وجد لدى الانسان منذ طفولته ودون أن يعرف او يفكر لماذا وجد، الدين هو الاعتقاد بمنظومة من الاوهام والخرافات، وعلى رأسها الايمان بوجود الاله، وما الاله هذا الا وهما خلقه الانسان نفسه، أي خلق الى جانب العالم المادي الواقعي الذي يعيش فيه ويكون جزءا منه، عالما آخر من الاوهام والغيبيات واختار بنفسه الاسماء لما اخترع: الله والملائكة والشيطان والجن والجنة والجحيم.. الخ.
ان الدين قد وجد لدى الانسان على مر العصور المنصرمة كفكر فلسفي بسيط تقبله الانسان كتفسير لظواهر الطبيعة المثيرة للجدل. وبالتالي جعل منه الانسان قيما اخلاقية وقوانين اجتماعية متلائمة مع تلك المراحل القديمة. فالآلهة الموهومون (وفيما بعد الاله الواحد الموهوم) نهوا عن المنكر ونصحوا عبادهم خيرا –هذا هو الجانب الايجابي من الدين- وترسخ ذلك في شكل قيم وعادات اجتماعية وتقاليد عاشت طويلا.
وهكذا فإن الدين نشأ كظاهرة اجتماعية كان يتحتم ظهورها، فهو لم يكن من صنع أي اله ولا أي شخص او جماعة، بل كان من الضرورات الاجتماعية الموضوعية التي افرزها تطور المجتمع البشري نفسه في تلك المرحلة. واذا كان من الناحية الفكرية مجرد الايمان بالخرافات الاسطورية، فإنه – من الناحية العملية- قيم وتقاليد وقوانين غير مكتوبة ومكتوبة، اقتضتها في وقت ما الضرورات الحياتية-الاجتماعية تماما كما اقتضت ظهور الدولة (أو السلطة) كمؤسسة اجتماعية وظهور الملك –او الملكية- كجزء ضروري من مؤسسة الدولة، وكذلك كظاهرة انقسام المجتمع الى عبيد واسياد، وكظاهرة نشوء الصناعات الحرفية والبدائية.. الخ.
وكان يستحيل ظهور الدين الا بعد تطور هائل في جسم وحياة هذا الحيوان الفقري الذي سمي انسانا الى درجة اختلافه جوهريا عن سائر الحيوانات الفقرية عن طريق الارتقاء الكبير في جهازه العصبي وتميزه جوهريا عن بقية الفقريات –اولا بسبب سيره على القدمين وتفرغ يديه ليستخدمهما اداة للعمل وثانيا بتعلمه النطق دون سائر الحيوانات، فالدين اتى بالارتباط الوثيق مع تطور الانسان من حيث جهازه العصبي وحياته المعاشية، ظهر عندما اصبح الانسان في وضع يطرح الاسئلة ويبحث عن اجوبة لها. وحين يعجز عن الحصول على التفسير العلمي المنطقي لأسئلته فإنه يعزو السبب وراء تلك الظواهر الملفتة لانتباهه الى وجود قوة خارقة القدرة ومؤهلة للتحكم بالامور فوق كوكبنا. فالشمس والقمر والنجوم كانت ضمن هذه القوى الخارقة وقابلة لأن تعتبر آلهة، وعندما يحدث الرعد او البرق او العواصف والامطار فإن ذلك قد يكون من صنع بعض الآلهة.
ومادامت تلك الآلهة قادرة على كل شيء فإن من حق الانسان أن يعبدها وأن يحاول ارضاءها وتجنب غضبها وان يبحث عن وسائل الارضاء. وهكذا ظهر الدين كفكرة وظهرت في مخيلة الانسان الآلهة التي كونت ركنا اساسيا من اركان الدين. وكان ذلك في الوقت نفسه ظهورا بدائيا للفكر الفلسفي وايذانا بأن المجتمع البشري قد وصل في تطوره الى بداية مرحلة جديدة. فالفكر الديني كان بداية المعارف الفلسفية لأنه قدم الجواب –ولو بصورة غير صحيحة- مقبولا آنئذ على اسئلة كانت الحياة الانسانية تطرحها.
وكان الايمان بتعدد الآلهة، أي بوجود أكثر من اله حائز على القدرات الخارقة، امرا طبيعيا في تلك المرحلة من الحياة الاجتماعية البدائية، فالدين كظاهرة اجتماعية قد خضع في تطوره لجميع القوانين والسنن التي خضعت لها الظواهر الاجتماعية. بتعبير آخر فإن الدين كظاهرة اجتماعية قد مر في تطوره بالأدوار الجنينية والطفولية والشبابية. ومثل ظهور الدين المقترن بتعدد الآلهة المرحلة الطفولية في تطوره. واجتاز الدين هذه المرحلة تدريجيا مع التطور الارقى للجهاز العصبي، الذي اقترن بتوسع المعارف الفلسفية وظهور اناس حاولوا تنظير الشؤون الدينية ولو بشكل بدائي. ومن المؤكد ان تطور الدين، شأن تطور الحضارة بوجه عام، لم يجر في جميع البلدان والبقاع على وتيرة واحدة، فحيثما كانت الحضارة اكثر تقدما كان ذلك ينعكس على قضية الدين ايضا، ويتراءى لي ان بسط سيطرة الملك على مساحات اوسع واتساع رقعة الدولة جغرافيا وسياسيا كان يخلق الاساس الملائم لاختزال الالهة في اله واحد اوحد. فلم يكن من قبيل الصدف ان ظهرت فكرة التوحيد (أي الاعتقاد بوجود اله واحد بدل تعدد الآلهة) في ظل الحضارة الفرعونية حيث كانت هناك حضارة متطورة، وفي عهد الفرعون اخناتون الذي حاول استبدال كبير الآلهة امون باله جديد سماه اتون، فاصطدم بجميع الكهنة في بلاده وفرضوا عليه حربا دموية طاحنة وخسر المعركة في نهاية المطاف وبقي امون متربعا على عرش الالهة. غير ان الخسارة كانت موقتة اذ ينبغي ان تنتصر فكرة التوحيد كتعبير عن تطور الدين نحو الامام.
اذا كانت منطقة الشرق الاوسط، بدءا من مصر ومرورا بسوريا والعراق حتى ايران وافغانستان، مهدا للحضارات القديمة الاكثر تطورا، فإن من الطبيعي ان تكون ذاتها منطقة التطور الاكثر للديانات القديمة، ورغم انني لا اعرف الكثير –كما اسبقت- عن تطور الاديان الهندوسية والبوذية والصينية عبر التاريخ، فإنني اعتقد ان فكرة التوحيد قد ظهرت لأول مرة في الشرق الاوسط وربما في مصر قبل غيره، وجاءت المسيحية كفترة انتقالية، أي فترة المخاض وتوج الاسلام فكرة التوحيد بالاعلان عن وجود اله واحد للكون كله.

من تعدد الآلهة الى ما يسمى بالاديان السماوية

ان للأديان، على اختلاف اشكالها ومناطق ظهورها، تاريخا طويلا يمتد امتداد تاريخ المجتمع البشري نفسه، بل لا يمكن تناول تاريخ الاديان الاّ كجزء من تاريخ المجتمع نفسه الحافل بالانتصارات تارة والانتكاسات تارة، المتميز بالايجابيات تارة والسلبيات تارة. وكان يستحيل ظهور الاديان في شتى ارجاء المعمورة في قالب موحد وعلى نسق واحد، لأن الجماعات البشرية نفسها، التي اوجدت بنفسها هذه الاديان، كانت تعيش في اوضاع متباينة جغرافيا واقتصاديا وتتكلم بلغات متباينة وتتطور بأشكال متفاوتة. لكن القاسم المشترك بينها عموما كان –خلال مرحلة زمنية طويلة- الايمان بتعدد الآلهة. وكان ذلك مرتبطا عضويا بالتخلف في مستوى الوعي الانساني وفي حياة المجتمع الاقتصادية. وكان من الطبيعي خلال تلك الحقبة الطويلة أن تكون هناك مرحلة انتقالية بين التمسك بتعدد الآلهة وبين التوصل الى التوحيد، وكانت العناصر الاكثر وعيا في المدن او المراكز الحضرية قد توصلت الى فكرة التشكيك بصحة تعدد الآلهة وبجدوى التعدد. فأخذت تنشر آراءها بين الناس فيما كان الكهنة والملوك متمسكين بتعدد الآلهة معارضين بشدة لكل فكر ديني جديد. واغلب الظن ان هذا الصراع طال عشرات الوف الاعوام وسبب الكثير من سفك الدماء لأنه كان يهدد سلطان الكهنة والملوك المتعاونين معهم، كان صراعا بين القديم البالي والجديد النامي. وكان يتحتم انتصار الجديد لكن في اطار التمسك بالدين نفسه، ولو مع بعض التعديلات.
ما يسمى بالاديان السماوية في الشرق الاوسط، التي ظهرت ولاتزال باقية للآن ولو بدرجات متفاوتة، هو الدين الصابئي ثم اليهودي ثم المسيحي ثم الاسلام. وهي ما تسمى سماوية على اساس ان لها كتبا منزلة من السماء وهي الزبور (للصابئة أو المندائيين) والتورات (لليهود) والانجيل (للمسيحيين) والقرآن (للإسلام). وأنا لم اطلع حتى الان على كتاب الزبور –ان كان هناك مثل هذا الكتاب- ولكنني درست بامعان التورات والانجيل والقرآن، وهي تعكس التطورات والتغيرات التي طرأت على الدين في المنطقة. والشيء المؤكد الذي لا يرقى اليه الشك هو ان هذه الاديان لم تأت بمعزل عن الاديان السابقة لها في المنطقة، بل كانت امتدادا لها واقتباسا منها وتعديلا عليها من ناحيتي الشكل والمحتوى.
القرآن يشير الى الزبور ككتاب سماوي مقدس ولكنه لم يقتبس منه شيئا، بخلاف ما فعل مع التورات والانجيل، ويدل ذلك على ان الدين الصابئي كان صغير الحجم ومعزولا حتى في فترة نبوة محمد، وهو اليوم ليس منقرضا ولكنه صغير منطو على نفسه ولا يتبعه الا عدد ضئيل من الناس، انه بقايا دين كان موجودا ذات يوم.
اما الدين اليهودي فإنه لم يكن ذات يوم دينا واسع الانتشار، بل كان دينا قبليا محدود الحجم، وظل هكذا حتى النهاية. ولا يزيد اتباعه حتى اليوم عن بضع عشرات من الملايين المنتشرين في العديد من اقطار كوكبنا، ولكن قلة عددهم لم تقلل من ثقل وزنهم الاقتصادي والسياسي، خصوصا داخل المجتمعات الصناعية المتطورة، واذا كان هذا الدين قد بقي حيا ومعتبرا من الاديان الرئيسية، فإن الفضل في ذلك يعود، قبل كل شيء، الى كتاب التورات. كان هذا الكتاب صفحات مدونة من تاريخ اليهود، الذين كانوا قبيلة من القبائل الارامية. ويعكس التورات الظروف الصعبة التي مرت بها هذه القبيلة في تلك الحقبة اذ هو حافل بأخبار الحروب المتواصلة بينهم وبين الفلسطينيين ويكرر التاكيد مرارا على وجوب التشدد مع الاعداء وعدم الابقاء على احد منهم حيا حتى بين النساء والاطفال. وقد اثر على القبيلة اليهودية تلك، من حيث سلوكهم وتعصبهم الديني، تعرضهم للغزو والسبي من قبل دولة الفراعنة ومن قبل الامبراطورية البابلية، وكان الغزو ينتهي دوما بهزيمة اليهود واستعباد من يقع في الاسر منهم رجالا ونساءا واطفالا. وتميزوا بالتعصب الديني وشدة التمسك بدينهم بعد السبي والابعاد.
على ان الدين اليهودي لم يولد كدين للتوحيد ولا لنفي تعدد الآلهة، فالتورات يؤكد بما لا لبس فيه بأن اله اليهود –بني اسرائيل- هو افضل اله وهو الاكثر تمسكا بمصالح شعبه.. وكأن للشعوب الاخرى آلهة آخرين. والكتاب نفسه لا يدعي بأنه منزل من السماء، بل ملئت صفحاته باسماء الاسباط –الافخاذ- من القبيلة وبأنباء حروبها وترحالها ووعود الاله لها باعطائها الارض الخصبة التي تحلم بها. اما ما يخص الطابع السماوي للتورات فهو يقتصر على فقرات محدودة قالها اله اسرائيل للنبي موسى حين كان هذا الاخير يصعد الجبل كي يتكلم مع ربه. صحيح ان التورات يؤكد ان اله بني اسرائيل موجود في السماء وليس في الارض وانه اله واحد، ولكنه خاص بهم وليس الها للجميع. وقد كرر محمد في كتابه القرآن ان الله فضل بني اسرائيل على العالمين مبينا، من حيث لا يدري، تأثره بنصائح وتوجيهات بعض الكهنة اليهود الذين كان على صلة معهم حين كان يصوغ آياته القرآنية. ومهما كان الامر فإن اهمية التورات بالنسبة الى اليهود تكمن في انه دون صفحات من تاريخ اليهود –وهذا ما لم يتسن لمعظم القبائل الارامية الاخرى. اما اذا اريد من رجل علم موضوعي ان يقيم كتاب التورات على ضوء الاوضاع الراهنة، فإن التقييم الموضوعي يقول ان مثل هذا الكتاب كان مقبولا للمعنيين بالنسبة لمستوى الوعي والعقول قبل حوالي ثلاثة آلاف سنة. لكنه سيخجل اله اسرائيل والالهة جميعا اذا اعتبر كتابا سماويا!! فهو تجسيد للتخلف السائد عند الكهنة اليهود آنئذ وتعبير عن التناقضات ومثير للضحك والسخرية. واذا اعتمدنا في تقييم تلك المرحلة فإن الدين اليهودي كان يعبر عن المرحلة الانتقالية بين تعدد الآلهة وبين التوحيد. وهو لم يستطع تحقيق انتشار واسع، بل لم يستهدف الانتشار الى خارج ابناء القبيلة.
كان عيسى ابن مريم مؤسس الديانة المسيحية، او الرجل الذي وضع لبناتها الاولى، يهوديا وربما من الجناح المعتدل المعروف في التورات باسم (السامرة)، وانشق على دين آبائه وصمم على تأسيس دين جديد من منطلق الرفض للدين اليهودي، وبالاخص رفض العنف والتعصب الديني – القبلي الشديد الذي اتسم به الدين اليهودي. وكان لضعف قوته تأثير على اختيار طريق السلم والتسامح في دعوته الدينية، وقد نجح في كسب فريق صغير من الانصار لدينه قبل أن يظفر به اعداؤه اليهود ويصفوه جسديا. ولاشك في ان هذه التصفية زادت من سمعته ومن معنوية مناصريه الذين تابعوا رسالته، فهو قد غدا، بعد قتله، شهيد رسالة والنبي الذي ضحى بحياته من اجل قضية. وكانت الخطوة الاولى الهامة في عمل من رباهم وهيأهم مبادرة اربعة من تلاميذه في كتابة الانجيل الذي سردوا فيه سيرة حياته النضالية وتعاليم ديته الجديد. ويتراءى لي ان الدين الجديد تخطى، وإن بقدر محدود، الاطار الذي تأطر فيه الدين اليهودي، ونجح في كسب كوادر جيدة. لكن ذلك كان اقل من أن يجعل منه دينا جماهيريا واسع الانتشار لولا مساعي كوادره في الوقت المناسب لاستغلال الفراغ الذي كان موجودا آنئذ في اهم بلدين اوربيين هما اليونان وايطاليا. فقد كان الوضع السياسي – الاقتصادي – الفكري في ذينك البلدين يتطلب ايجاد بناء فوقي ارقى من الذي كان قد توارث، ولم يكن هذا البناء الفوقي الاكثر ملاءمة سوى الدين المسيحي. وهكذا، وبعكس الدين اليهودي، وجدت الديانة المسيحية ممرا عريضا للعبور الى بلدان اوربا ولاحقا الى امريكا ايضا, فاصبحت من الاديان واسعة الانتشار دون ان تستخدم العنف والجيوش لفرض نفسها عنوة على مختلف البلدان. بيد ان ظروف البلدان الاوربية المضطربة، التي اعتنقت الدين الجديد، لم تسمح بأن يكون الدين كما اراده عيسى دينا للتسامح. فقد تحولت لاحقا المؤسسات الدينية –الكنائس- المرتبطة مصلحيا بالملوك والانظمة السياسية مؤسسات قمعية رهيبة، خصوصا في الحقبة المسماة بالعصور الوسطى، مارست عمليات البطش والتنكيل بالمعارضين فكريا وسياسيا باسم (الدفاع عن الدين المسيحي). وكان بمستطاع الكهنة أن يعتبروا أي رأي او عمل لم يرق لهم سببا كافيا للسجن والتعذيب والقتل باعتبار المتهم قد اصبح من اهل الكفر والالحاد. وهكذا فإن الدين المسيحي (المتسامح) قد نكل في الاقطار الاوربية بالاحرار والابرياء عشرات الاضعاف عمن نكل بهم الدين اليهودي المتشدد في منطقة ظهوره الضيقة. ذلكم معناه ان الدين لم يكن قط فوق العوامل الموضوعية في تطور المجتمع، معناه ان الدين لم يظهر ولم يتغير تحت تاثير الاله والسموات بل تحت تأثير الوضع الاجتماعي وحسب.
لم تبلور المسيحية في اوائل عهدها فكرة التوحيد، بل بقيت بين بين، وابتكرت لونا جديدا من تعدد الآلهة، وهو ان عيسى نفسه كان ابن الله، فاوجدت بذلك الاله الاب والاله الابن، وادعت –بعد قتل عيسى- بأن الله سحب ابنه الى السماء وسيعيده في وقت لاحق الى الارض، وكانت هذه الفكرة امتدادا للمعتقد السائد قديما بأن الالهة يتزوجون ويلدون، وكم من الملوك والفراعنة اعتبروا ابناء الالهة.
الديانة الاسلامية ازالت منذ بداية ظهورها الغموض وبلورت فكرة التوحيد، فالله هو الواحد الاوحد الخالق لكل شيء والمالك للارض والسماوات والعالم بكل شيء والقادر على كل شيء، وقد خلق الله الانسان لكي يعيش قليلا في هذه الدنيا ثم يميته ثم يحييه ليحاسبه على اعماله ويدخله الى الجنة او الجحيم. وقد اثر الاسلام، بالنسبة الى هذه المفاهيم والافكار، تاثيرا كبيرا على الاديان الاخرى السابقة له فجعل منها مشابهة لنفسه في عدة نواح.
وكما فعلت المسيحية ازاء الدين اليهودي من حيث الاعتراف بصوابه وبانبيائه لحين ظهور النبي الجديد عيسى الذي ارسله الله لنشر دين جديد، فإن محمدا قد فعل الشيء نفسه ازاء الاديان السابقة ورسلها، غير ان النبي الجديد محمدا جاء خاتم الانبياء واغلق الباب امام ظهور أي دين جديد بعد الاسلام.
ان الديانة اليهودية والمسيحية قد نشأت ونشرت في منطقة متطورة حضاريا اكثر بكثير من المنطقة التي نشأ فيها الاسلام، المنطقة الصحراوية النائية في شبه الجزيرة العربية. غير ان الفارق الزمني –ستة قرون بعد ظهور المسيحية- كان في صالح الاسلام. ومن المؤكد ان النبي الجديد محمدا كان رجلا ذكيا وطموحا ومطلعا على اوضاع بلده وراغبا في الاصلاح، وقد مكنته سفراته التجارية الى الشام من تعلم الكثير في سوريا ايضا. وقد انشق هو الآخر على دين عشيرته مدعيا انه رسول من الله لنشر الاسلام، وحوربت دعوته حتى اضطر الى الهروب من مكة الى المدينة حيث استقر ووجد الترحيب من خصوم القريشيين المنشقين على انفسهم، الامر الذي اضعفهم امام القوة الصغيرة نسبيا التي قادها منطلقا من المدينة للاستيلاء على مكة. ولاشك في ان الاوضاع في تلك المنطقة كانت في حاجة الى هذا التغيير الاصلاحي الذي اتى به الدين الجديد، وكان هناك وجود ضعيف –قبل الاسلام- للدينين اليهودي والمسيحي. واستغل محمد ضعفهما هذا وعقد لونا من الاتفاق مع كهنتهما واستعان بهم ونقل الى متن القرآن الكثير من اساطير التورات والانجيل.
لقد انتزع محمد الانتصار لدينه في تلك المنطقة الصحراوية عن طريق العنف وعلى رؤوس الرماح، واصبح ذلك تقليدا من التقاليد الراسخة المقترنة بنشر هذا الدين، فقام خلفاؤه، بعد موته، بتشكيل قوة من العرب الصحراويين الاشداء المشابهين من حيث شدتهم وقدراتهم القتالية للتتر والمغول، وكانت مهمة هذه القوة القيام بغزو البلدان الاخرى (وسموه الفتوحات الاسلامية) لفرض السيطرة المقرونة بالسلب والنهب وبنشر الدين الجديد. وكانت انظمة الحكم المحيطة بالمنطقة العربية الاسلامية قد هرمت ودب فيها الفساد وعجزت عن الصمود امام الغزاة المسلمين. وفي البلدان الناطقة باللغات السامية كمصر وسوريا وفلسطين..الخ تقبلت الجماهير لا الاسلام وحده، بل كذلك استبدال لغتها تدريجيا باللغة العربية لكي تصبح فيما بعد جزءا من العالم العربي، وقد ترسخت تقاليد الاسلام في استخدام العنف الدموي ليس فقط في نشر الاسلام على البلدان غير المسلمة، بل كذلك في حل الخلافات بين زعماء الدين الجديد، فقتل اتباع معاوية علي ابن أبي طالب ثم ابنه الحسين سعيا لتوطيد سلطانهم في الشام، ثم جمع العباسيون قوة اسقطوا بها الدولة الاموية، ولا يمكن النظر الى ما تقوم به الحركات الاسلامية المتطرفة اليوم من اعمال العنف والارهاب الدموي والعمليات الانتحارية بمعزل عن تلك التقاليد التي اقترنت بظهور ونشر الاسلام.
ركز العرب المسلمون السلطة في ايديهم داخل البلدان التي كانوا يستولون عليها، فارسلوا من بينهم من يحكم سوريا ومصر والعراق وغيرها، بل نقلوا حتى عاصمة دولتهم الى خارج المنطقة العربية آنئذ اذ اتخذ معاوية من مدينة الشام السريانية عاصمة لدولة المسلمين بعد (34) عاما من موت محمد، ثم اتخذ العباسيون من بغداد، التي وقعت على بعد 30 كم من عاصمة الامبراطورية الفارسية آنئذ، عاصمة لدولتهم. وان دل ذلك على شيء فإنه يدل على ان شبه الجزيرة العربية (مكة والمدينة) لم تكن صالحة كعاصمة لادارة الدولة الجديدة، لأنها لم تكن على مستوى حضاري متطور مثل دمشق وبغداد والقاهرة وغيرها. واذا كان العرب قد فرضوا الاسلام دينا على تلك البلدان –وهي كانت اكثر تطورا حضاريا- فانها هي التي فرضت حضارتها على العرب وعلى الدولة الاسلامية. وما يسميه البعض بالحضارة العربية لم يكن قط سوى مزيج متفاعل من حضارات هذه الشعوب التي دخلت في الاسلام وخضعت لسلطان الدولة العباسية والاسلامية عموما. وقد ساعد تسلط العرب على هذه البلدان غير العربية ايضا، من جهة، ووجود القرآن باللغة العربية كوثيقة اساسية بالنسبة الى الديانة الاسلامية، من جهة اخرى، على تغليب اللغة العربية كلغة مشتركة في هذه الحضارة الجديدة المشتركة، التي لا يصح اخذها بمعزل عن الحضارات غير الاسلامية، التي وجدت قبل الاسلام في هذه البلدان (كالحضارات المصرية والسورية والايرانية..الخ).

ظاهرة النبوة وتعدد الانبياء

تقول اسطورة الدين ان الله القادر على كل شيء كان يرحم بعباده ويريد أن يهديهم الى طريق الصواب فيرسل بين الحين والآخر نبيا (أو رسولا) ليبلغ هؤلاء العباد الضالين بأن الله ارسله بشيرا ونذيرا لكي يهدي الناس الى طريق الصواب وهو الايمان بالله وبوحدانيته وعدم الاشراك به وشكره على نعمه الوافرة..الخ، ولم يكن بين الناس اولئك من يفطن الى التساؤل: مادام الاله عارفا بكل شيء وقادرا على كل شيء فلماذا لم يخلق عباده مهتدين من البداية بدلا من خلقهم على ضلال كظاهرة اجتماعية، فالنبوة من مكونات الاسطورة ومن مستلزمات الايهام والتضليل، وقد فاق عدد الانبياء الالوف طبقا لما اشار اليه بعض الكتب الدينية. ويقول بعضهم ان عدد الانبياء المرسلين من الله قد جاوز 124 الف، لكن احدا لم يستطع حتى ذكر 100 شخص منهم، والمعروفون منهم عدد قليل اقتبسهم محمد من التورات، وهذا الاخير لم يذكر اسماءهم بوصفهم انبياء، بل كملوك ووجهاء من اسباط بني اسرائيل – باستثناء موسى الذي ذكر كنبي كان يصعد جبل سيناء ويتكلم مع الله في السماوات! وكأن هذه المكالمة لم تكن ممكنة لو لم يصعد الجبل ليقترب قليلا من السماء. وكان داود أحد ابرز ملوك اليهود وكان في سنوات من عمره ملكا فاسدا –حسب التورات.
ان الذين ادعوا النبوة، وكلهم من الرجال دون ان تكون بينهم امرأة واحدة، كانوا اناسا اعتياديين توصلوا مع انفسهم الى تبني هذا الادعاء اما كوسيلة للخداع والارتزاق واما كمحاولة لانشاء حركة اجتماعية اصلاحية، وكيف كان الناس يصدقون ادعاء هؤلاء بالنبوة؟ المسألة بسيطة: الناس كانوا مؤمنين بالاله، بل بالالهة، فما العجب في ان يؤمنوا بأن الاله يرسل اليهم رسولا يبلغهم برسالة الرب ويهديهم الى طريق الصواب؟ اغلب الظن ان مدعي النبوة قد ظهروا على شكلين، او كفريقين:
1ـ فريق من الانبياء المرتزقة الذين رفعوا راية النبوة لغرض خداع البعض وكسب المال من المخدوعين وانصاف المخدوعين، شأنهم شأن كتاب الادعية الذين لا يزالون للآن موجودين في المجتمعات المتخلفة، محترفين كتابة (الادعية) للناس، وبالاخص للنساء الاسهل خداعهن لقاء مبالغ من المال، فهذه الامرأة تراجع الشيخ لتطلب منه دعاءا تزيد به من حب زوجها لها أو تريد حمل أحد الرجال على كره زوجته أو النجاح في عمل ابنها كي يحصل على ارباح اكبر..الخ.
2ـ وفريق قليل كانوا ينشدون الاصلاح الاجتماعي، وكان عدد الانبياء من هذا النوع قليلا جدا، أما لماذا يدعي النبوة وهو يسعى الى اصلاح الوضع الاجتماعي؟ فالسبب هو ان الحركات السياسية – الاجتماعية كانت مرغمة في تلك الظروف على تقديم شعاراتها واهدافها الى الناس باسم الآلهة، أي كانت مرغمة على تغليف نفسها بغلاف الدين، فالآلهة –ومن ثم الاله الاوحد- كانوا يتحكمون بكل شيء، بما في ذلك اصلاح الوضع الاجتماعي. ولم يكن بمستطاع أي نبي أن يحقق شيئا من الاصلاح ما لم يسنده الاله. معنى ذلك ان الدين كان يمثل السلطة العليا وان الانبياء لم يكونوا سوى موظفين لدى هذه السلطة ووكلاء للآلهة فوق الارض ؟؟؟ عيسى ومحمد. وأما بالنسبة الى نبي اليهود موسى فإن من الصعب التوثق مما اذا كان له وجود ام انه مجرد اسطورة، فالحديث عنه ورد في التورات الذي يجمع بين الاساطير وبين الاحداث التاريخية الخاصة باليهود، ولم اجد خارج التورات والاساطير الدينية ما يؤكد انه كان موجودا ذات يوم مثلما وجد عيسى ومحمد وبوذا وكونفوشيوس.
تجدر الاشارة الى ان كلا من عيسى ومحمد عجز عن اتمام رسالته في نشر دينه ابان سني حياته، بل تمكن فقط من وضع لبناته الاولى، وتأتى على اتباعه وحملة رسالته، خاصة من الكوادر الفعالة، استكمال بناء دينه بسلسلة من النشاطات المتنوعة، الفكرية والعملية، السياسية والاجتماعية والعسكرية، استغرقت فترة زمنية طويلة. وقد دأب كل من عيسى ومحمد على الاعتراف بنبوة من وردت اسماؤهم في التورات امثال موسى وابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب..الخ، واعترف محمد بعيسى ايضا كنبي، وكأن الغرض من ذلك كسب عطف الناس الذين آمنوا بهؤلاء واظهار الدين الجديد كما لو كان امتدادا للدين الذي سبق ان اعتنقوه.
بعد ظهور عيسى بحوالي ستة قرون ظهر محمد رسولا مبشرا بالاسلام، وهو ادعى انه خاتم الانبياء، معترفا بعيسى وموسى وآخرين انبياء، ناكرا ظهور أي نبي بعده، وها قد انقضت 14 قرنا على ظهور محمد دون ان يكون هناك ظهور أي نبي جديد، وكأن نبوءة محمد كانت صحيحة، فما تفسير ذلك؟ هل ان نبي الاسلام صدق فيما قال؟ كلا والف كلا، صحيح ان منطقة الشرق الاوسط لم تسجل ظهور نبي جديد معتبر، لكن سبب ذلك يعود لا الى ما قاله محمد، بل الى التقدم الحضاري الذي قطع الطريق على ظهور المزيد من الانبياء والاديان الجديدة، فالدين يروج حيث الجهل والتخلف ويخسر حيث التقدم العلمي الحضاري، وقد اكدت تجارب الحياة نفسها ان تقدم العلم والتكنيك توفر تربة خصبة لا لظهور الدين الجديد، بل لاضعاف الدين بوجه عام ولفسح المجال امام بروز ظاهرة جديدة أكثر ارتباطا مع الحضارة المعاصرة، واعني ظاهرة الالحاد، التي تقدم نقيضا لظاهرة الدين وبديلا عن عالم الاوهام والغيبيات، وهو عالم الواقع المادي.


الالحاد ظاهرة اجتماعية ايضا

اذا كان من المحتم نشوء الدين كظاهرة اجتماعية تاريخية ارتباطا مع الظروف الاجتماعية في وقت ما فإن من المحتم ايضا انحساره وظهور نقيضه ايضا في وقت لاحق، ارتباطا مع التغيرات التي طرأت على وضع المجتمع من حيث التطور العلمي – التكنيكي، واذا كان الدين قد نشأ في وقت ما ليقدم تفسيرا غير علمي ساذج لظواهر الطبيعة المثيرة للانتباه فإن الالحاد قد نشأ ليقدم تفسيرا علميا موثقا لتلك الظواهر وليكشف عن زيف الغيبيات وبطلان الدعوة الدينية.
لنعرف بشكل اوضح ما هو الالحاد؟ كيف نعرفه؟
الالحاد هو التعرف على حقيقة الدين ورفض القسم الاعظم من مفرداته، وقبل كل شيء رفض المفردة الاساسية وهي الايمان بوجود الاله الخالق، ورفض كافة الخرافات الاسطورية المتعلقة بالدين، هو الاستعاضة عن اسطورة الدين بما هو واقعي مدعوم بالعلم وبالتجارب الحياتية، وبديهي ان الظروف لم تتهيأ لبروز ظاهرة الالحاد الا بعد نضوج المستلزمات المادية لظهورها، ولم تكن تلك المستلزمات سوى تقدم العلم والتكنيك، وكما مرت ظاهرة الدين في تطورها بالادوار الجنينية والطفولية قبل ان يتكامل ويسود المجتمع، فإن ظاهرة الالحاد لابد من أن تمر بذات الادوار.
ان المرحلة الانتقالية لظاهرة الالحاد تتمثل في توافر اعداد متزايدة من الناس شاكين بصواب الدين ولااباليين ازاءه وغير ملتزمين بأداء طقوسه، وما اكثر هؤلاء الشكوكيين في عالمنا الراهن! انهم اكثر من مئات الملايين منتشرين في شتى ارجاء العالم، وخصوصا في البلدان الصناعية المتطورة، فالانسان الشكوكي هو ذلك الذي لم يعد مؤمنا بالله وبرسله وكتبه، هو ملحد خجول وإن لم يحسم امره بعد ويظل عرضة للتغيير الفجائي والعودة الى الدين الذي هجره، لكن من يعودون الى الدين لا يتعدون عددا قليلا من بينهم، في حين ان عدد الملحدين عن وعي وبثبات يبلغ المئات من الملايين ايضا، وهو في تزايد مطرد، وبعكس المتدينين الذين يتناقص عددهم يوما بعد يوم على الصعيد العالمي، حتى لو كثر عدد المتدينين في هذا البلد او ذاك حين عد الاصوات على صناديق الاقتراع. نعم لا يمكن الادعاء اليوم بأن عدد الملحدين في العالم اكثر من عدد معتنقي الاديان المختلفة، لكن ما يمكن التاكيد عليه هو ان النسبة في تغير تدريجي مستمر لصالح الالحاد، ولئن كان الشكوكيون انصاف ملحدين فإن هناك اعدادا هائلة تفوق عشرات الملايين من الملحدين عن وعي فلسفي عميق، والملحد الواعي هو ذلك الذي ادرك بأن اساس كل شيء في الكون وفي الحياة هو المادة في حركتها الابدية، فالاولوية تعطى دوما للمادة وللمادة وحدها، ولا يوجد أي عالم روحي الا كانعكاس للمادة.
الدين ظهر وتقبله الناس بسبب حاجتهم اليه في وقت من الاوقات، وهو يقترب من نهايته المحتومة تدريجيا ويرفضه اليوم عدد متزايد من الناس بسبب انتفاء الحاجة اليه، نعم ان هناك فئات من ذوي المصلحة في الدين يتشبثون به ويدافعون عنه بكل السبل، وهم يشكلون للآن قوة كبيرة، ولكنهم يدافعون بكل تأكيد عن قضية خاسرة، فالنصر في الصراع بين الدين والالحاد سوف يكون للملحدين، وليس في ذلك سر مستعص على الفهم، فالملحدون يدافعون اليوم عن القيم الحضارية المعاصرة وعن مصالح المجتمع البشري في حين يدافع المتدينون عن القيم الحضارية البالية التي أكل عليها الدهر وعن مصالح فئات انانية متخلفة لاقصى حدود التخلف.
والملحدون يدافعون عن حقوق الانسان وحرياته الديمقراطية وحقه في الامن وفي العيش الرغيد والمتدينون المتطرفون يسعون الى فرض الاستبداد السياسي المتخلف المقرون بالاعمال الارهابية الهمجية من منطلق العودة الى اساليب القرون الوسطى.
ان بسطاء الناس المتدينين، الذين ورثوا الدين عن آباءهم كما يرث المرء اسمه الذي حدده له ابواه دون ان يكون له دخل فيه، يستطيعون العيش مع غيرهم في علاقة اعتيادية بعيدا عن العنف واثارة المتاعب، كما ان الملحدين يستطيعون العيش في سلام مع المتدينين، لكن المتدينين المتطرفين، امثال طالبان وبن لادن والزرقاوي ومختلف الجماعات الارهابية، ليسوا على استعداد لقبول الآخر كما هو، بل يقدمون على ملاحقته وقتله إن لم يتصرف كما يروق لهم، فالمشكلة ليست بين الملحدين وبين المتدينين من بسطاء الناس، بل هي بين الملحدين الذين لا ذنب لهم سوى انهم يتبنون فكرة الالحاد وبين رجال يريدون الحكم بأساليب القرون الوسطى ويحاولون سحق كل من يرون فيه عائقا امام نيل هدفهم غير المشروع.
على ان لكل مقام مقال ولكل زمان رجال، فالخطاب الذي يقدمه المتدينون المتطرفون قد فات اوانه ولا يصلح لهذا الزمان، والملحدون لا يطلبون تسلم السلطة ولا يريدون الحاق الاذى بأحد بسبب معتقداته الدينية، بل يريدون فقط حرية التعبير عن الرأي، يريدون تعايش الملحد والمتدين في سلام واخاء، وهذه مسألة اعتيادية تماما في ظل الديمقراطية.
ان الحركات الدينية المتطرفة تجد نفسها في موقف الضعف ازاء مؤيدي فكرة الالحاد فتلجأ الى بعض المقتبسات من الكتب القديمة لكي تستبيح الارهاب والتنكيل بحق الملحدين، وتلجأ الى السلاح ضد من يخالفها في الرأي، وهذا ما لا يمكن تفسيره الا بأنه امتداد لعقلية ما قبل آلاف السنين حيث سادت الهمجية والقتل والتنكيل بالخصوم لأتفه الاسباب.
ان المتدينين المتطرفين يتهموننا نحن الملحدين بأننا نضلل عباد الله ونحرضهم على العصيان ازاء ربهم وازاء الطقوس الدينية فنحرمهم من نعمة الجنة وندفعهم الى الجحيم، ونحن نجيب: دعوا ربكم، ايها الاخوة المتدينون، لينتقم ويعاقبنا –وهو على كل شيء قدير- واقبلوا التعايش السلمي الاخوي مع غيركم من المخالفين في الرأي وارتضوا بعلاقات حضارية مع اخوتكم من البشر دون تمييز بينهم وانبذوا فكرة اللجوء الى العنف تجاه الآخرين ملحدين كانوا ام من منتسبي الاديان الاخرى. هذا هو قدركم ان كنتم تريدون صلاحكم وصلاح غيركم، سلاحنا ضدكم هو القلم والكلمة، وما نرجوه منكم هو ان يكون سلاحكم ايضا القلم والكلمة، نحن لن نشتم ولا نحب المهاترات، بل نعتمد لغة العلم والمنطق ونحن على ثقة بأن ما نقوله هو حق مشروع لنا وجزء من حقوق الانسان ومنسجم مع مصالح الشعوب ومع متطلبات التقدم العلمي – التكنيكي في ظروف العولمة الراهنة، نحن نطالب كافة الدول والحكومات بضمان حقوق المتدينين في التعبير عن آرائهم وفي ممارسة طقوسهم الدينية وضمان الامان والحماية لمعابدهم، ايا كان انتماؤهم الديني.
نحن نقدر المسيحيين في اوربا تقديرا عاليا لأنهم ادركوا ضرورة فصل الدين عن الدولة ونبذوا كل اشكال العنف وكيفوا وضعهم لمتطلبات الحضارة المعاصرة، ونطلب من الاخوة المسلمين والمسيحيين في الاقطار النامية الاقتداء بمسيحيي اوربا من حيث قبول التعايش مع اللامتدينين ومع منتسبي الاديان الاخرى.





https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن