مقابلة مع الفيزيائي مايكل غرين مؤلف كتاب (الأوتار الفائقة)

فرقان الوائلي
furgan62@gmail.com

2009 / 11 / 7

ترجمة: فرقان الوائلي


هذه الترجمة تمَّ إعدادها استناداً لمقابلةٍ علمية شائقة أجراها موقع (نوفا) مع أحد كبار علماء الفيزياء الحديثة يتحدث فيها عن ما أسماه بنظرية الأوتار الفائقة التي هي أحدث طراز من النظريات التفسيرية الكبرى كنظرية النسبية ونظرية الكم. وقد نقلتها من الرابط التالي الذي يحوي تفاصيل أخرى.
http://www.pbs.org/wgbh/nova/elegant/greene.html

مقابلة مع كارل غرين ـ مؤلف كتاب الكون الأنيق

نوفا: هل ترى أنَّ هذا الوقت ملائمٌ للحديث عن التنظير الوتري؟

غرين: إنه وقتٌ مميّزٌ للتنظير الوتري. ففي السنوات القليلة الماضية شهدنا قدراً هائلاً من التقدُّم لدرجة أنني اعتقد أنَّ أيَّ شخصٍ لم يكن ليتصوُّرَ في أسوأ أحلامه أنه سيتحقّقَ لنا أكثر ممَّا لدينا الآن(1).

نوفا: هل تعتقدون نظرية الأوتار الفائقة سيتمُّ القبولُ بها على نطاقٍ واسعٍ كما تمَّ ذلك للنظرية النسبية العامة؟، وما المطلوب للوصول إلى هذا الهدف؟

غرين: حسناً.. إنَّ السبب الحقيقي الذي أفضى إلى القبول بالنظرية النسبية العامة على نطاق واسع، هو لكونها قد وضعت تنبؤاتٍ تمَّ التحقُّقُ منها عبر الملاحظات التجريبية. وأوّلُ سببٍ وضع هذه النظرية على الخارطة هو تنبؤها بانحناء مسار الضوء الصادر من النجومٍ بفعل الشمس. وهذا ما تمّ تأكيده من خلال الملاحظة عام 1919 أثناء كسوف الشمس. في هذه اللحظة فإنَّ النسبية العامة قد دخلت كقطعةٍ من الحقيقة كما نعرفها بعدما كانت هي مجرّد حقيقةٍ في إطارٍ نظري. وبالنسبة لنظرية الأوتار الفائقة فإنها لكي تحظى بنفس النوع من القبول الذي حظيت به النسبية العامة، فلا بدَّ لها من أن تفعل نفس الشيء. لا بدَّ لها أن تقدّم تنبؤاتٍ يتمُّ التحققّ منها ببعض التجارب. ولغاية الآن فإننا لم نصل تماماً إلى المرحلة التي تمكننا من وضع تنبؤاتٍ دقيقةٍ لو قيضَ لها أن تتحققّ لكانت النظرية صحيحةً، أو إن لم تتحقّقْ كانت النظرية خاطئةً.
لكننا وصلنا إلى المرحلة التي يمكننا فيها أن نضعَ تنبؤات تقريبية لبعض الأمور التي قد تحدث في المُعجِّلات المستقبلية التي يتم بناؤها الآن، وتحديداً المعجِّل الذي سيكون جاهزاً للعمل حوالي عام 2007 أو 2008 المسمى (large Hardon Collider) والموجود في مدينة جنيف في سويسرا. فإذا تحققت بعض التنبؤات التي تقول بها نظرية الأوتار الفائقة من خلال الملاحظة التجريبية في ذلك المعجّل، فإنني أعتقد أنه من الممكن تماماً قبول هذه النظرية الفائقة مثلما تمَّ القبول بنظرية النسبية العامة.

نوفا: هل يسعك تقديمَ مثالٍ على تنبؤٍ لنظرية الأوتار يمكن التحقّق منه في السنوات المقبلة؟

غرين: بالتأكيد.. فإنَّ واحداً من أغرب ملامح نظرية الأوتار هو أنها تتطلب أبعاداً هي أكثر من الأبعاد المكانية الثلاثة التي نراها مباشرة في العالم من حولنا. وهذا يبدو مثل الخيال العلمي، لكنه نتيجة لا جدال فيها في رياضيات نظرية الأوتار الفائقة. لذلك فالسؤال هو: أين هي هذه الأبعاد الإضافية؟. أحد الاقتراحات يقول أنَّها كلَّها تحيط بنا، لكنها صغيرةٌ جدّاً قياساً للأبعاد المكانية التي نشاهدها عياناً، ولذلك يصعب اكتشافها. ما تتنبأ به النظرية أيضاً (وليس بالضرورة وإنما هو أمرٌ ممكنٌ) هو أن الطاقة يمكن أن تفلت من الأبعاد المعروفة لنا متسرّبةً إلى تلك الأبعاد الإضافية تحت ظروفٍ مناسبةٍ. وهذه الظروف المناسبة يمكن توليدها من خلال الاصطدامات ذات الطاقة العالية التي ستحدث في المعجِّل الذري الجديد (large Hardon Collider). وفي هذه الاصطدامات عالية الطاقة فإنه من الممكن أن نجد طاقةً في نهاية الاصطدام هي أقل من ما في بدايته. فإذا كانت هناك خسارةُ للطاقة فعلاً، فهذا يشكّل دليلاً قوياً على أنَّ الطاقة المفقودة قد تسرّبت خارجاً إلى تلك الأبعاد الإضافية. وإذا كان هذا صحيحاً.. إذا كان هذا التفسير هو أفضل ما نجده لهذه الخسارة، فإن في ذلك دلالةً قويةً على أنَّ الأبعاد الإضافية هي شيءٌ حقيقيٌّ. وهذا بدوره يعطي دلالةً قويةً على صحة الإطار الذي تعمل ضمنه نظرية الأوتار الفائقة.

نوفا: نسألُ: أيُّ نوعٍ من النتائج التجريبية التي تدعم النظرية والتي تجعل حتى أولئك المتَّخذين موقفاً معارضاً متشدداً منها مثل شيلدن كلاشو (****don Glashow ) (2) يأخذونها بنظر الاعتبار؟

غرين : حسناً.. لقد ذكرتُ نوعاً واحداً من هذه النتائج للتو. أما النوع التالي، فهو في الحقيقة، موجودٌ عملياً في أذهان معظم الناس على الأرجح، فيما يسمى بالتناظر الفائق. الاسم الكامل لنظرية الأوتار هو (نظرية الأوتار الفائقة)، ولفظة (فائقة) تمثِّل هنا ميزةً تدعى التناظر الفائق. ودون الخوض في أيَّة تفاصيلٍ، فإننا نتوقّع أنَّه لكلِّ جسيمٍ في العالم يوجدُ جسيمٌ رفيقٌ يقابله. فمثلاً للألكترون يوجد جسيم فائق التناظر له هو السيلكترون (Selectron) كما يسمِّيه الناس. وكذلك للكوارك يوجد شريك فائق التناظر هو السكوارك (Squarks) ، وللنيترون يوجد السينيوترون (Sneutrinos ) ،.. وهلم جرَّاً. فهناك إذن ذلك الطيف الحاشد من الدقائق الشريكة، إذا شئتم تسميتها هكذا. وهذه النظرية تتوقع وجودها. لكن حتى الآن فلا أحد على الإطلاق قد شاهد هذه الدقائق الشريكة. ونعتقد أنَّ السبب يعود إلى أن هذه الدقائق الشريكة أثقل من مثيلاتها المعروفة. والشيء الأثقل يعني طاقة أكثر فجاذبية أكثر تنتج من الاصطدام. ونحن نأمل أن المعجلات الذرية الجديد وبخاصة معجل (large Hardon Collider) تملكُ طاقةً كافيةً للبدء بإنتاج هذه الجسيمات التي تتنبّأ بها نظريتنا.
الآن، إذا تمَّ إيجاد تلك الجسيمات، فإن هذا لا يثبت صحة نظرية الأوتار الفائقة فحسب، بل وسيثبت أيضاً الجانب الفائق التناظر للنظرية لتكون صحيحةً. وستبيِّن هذه الجسيمات أنَّ نظرية الأوتار ليست فقط مجرد نظرية تسمح بالتناظر الفائق، ولذلك فهي بالضرورة ليست بندقية دخانية!. لذا ستكون هذه الجسيمات المؤمل كشفها جزءً قوياً من القرائن التي تُظهِرُ أن نظرية الأوتار الفائقة تمضي على المسار الصحيح. على هذا فلدي أملٌٌ بأنَّ التجارب المحتمل إجرائها ستكون لها نتائجَ إيجابيةً، وتأخذنا على الأقل لمسافة كافيةٍ لقطع الطريق على مسألة تأكيد نظرية الأوتار الفائقة.

نوفا: هل لديك أيَّة شكوكٍ حول نظرية الأوتار الفائقة؟

غرين: كل الوقت!، وأعني هذا. فهي مهنة بحثية غريبة جداً. فحتى الآن صرفتُ 17 عاماً وأنا أعمل على نظريةٍ هي ببساطةٍ لا رابط تجريبي بها. وإنها لطريقةٌ محفوفةٌ بالمخاطر للعيش وللعمل.
الشيء الطريف، أنه أحياناً يكون لدي انطباعٌ بأن بعض الناس من خارج المجال يعتقدون أن هناك بعض عناصر الأمان التي نملكها بالعمل على نظريةٍ لا نتوقع إمكان إثبات فشلها. لكن وبمعنى من المعاني، فنحن نعمل على شيء محتمل الصحة. وأحياناً يراودنا شعورٌ بالسعادة بذلك.
ولكن اسمح لي أن أقول بشكل قاطع، إذا كانت النظرية خاطئة، فإنَّه يهمُّني أن أعرف ذلك الآن..هذا اليوم، كي لا أُضيع عمري على النظرية لوقتٍ أطول.
ولن يكون لدينا يقين بأنَّ النظرية محقّة حتى تثبت التجارب أنَّها محقَّةٌ. ولكني أودُّ أن أقول أن هناك في رأيي حالةً ظرفيةً قويةً تشير إلى أنها نظريةٌ صحيحةٌ، وهي أنها تقع بين النسبية العامة وميكانيكا الكم. وكلٌّ من هاتين النظريتين قد تلقَّى بالفعل مقداراً رائعاً من التحقُّق التجريبي. إنَّ نظرية الأوتار الفائقة هي النظرية الأكثر تطوراً في قدرتها على توحيد النسبية العامة وميكانيكا الكم بطريقةٍ متَّسقةٍ. وإنني لأعتقد أنِّ الكون متَّسقٌ، ولذا أفكِّرُ أنَّ النسبية العامة وميكانيكا الكم، ينبغي أن توضعا سويةً بطريقةٍ معقولةٍ. وهذا ما تفعله نظرية الأوتار، وبالنسبة لي فهذا أمرُ مقنعٌ بأنَّ هذه النظرية صحيحةٌ.

حدودٌ للفهم:

نوفا: هل هناك طريقة ما تمكِّنك من جعل الناس الذين يعرفون شيئاً قليلاً من الرياضيات قادرين على فهم الأناقة العالية لنظرية الأوتار؟

غرين: أعتقد ذلك. فأنت تعلم أنّه عندما نتحدث عن نظريات الفيزياء التي نصفها بالأنيقة، فغالباً ما يعني هذا أنها نظريات قادرة على تفسير مجموعةٍ واسعةٍ من الظواهر باستخدام عددٍ قليلٍ جداً من الأفكار القوية. فالأناقة تأتي من التوصل الرائع إلى هذه الأفكار البسيطة. حقيقةً فإنَّ هذه سمةٌ مركزيةٌ لنظرية الأوتار. إذ لدينا تلك الفكرة عن الميزة الأساسية لجوهر الطبيعة والتي هي الأوتار المتذبذبة التي يحدِّدُ نمط تذبذبها أو اهتزازها طبيعةَ صفات الجسيمات. وأيضاً يحدِّدُ هذا النمط أنواعَ القوى العاملة في العالم. فإذا كانت النظرية صحيحةً، فإنَّ فكرةً بسيطةً منتزعةً منها ربما تكون قادرة من حيث المبدأ على تفسير كلِّ ظاهرةٍ فيزيائيةٍ. وبهذا الفهم الفعّال تكمن الأناقة.

نوفا: هل تعتقد أنَّ هناك حدوداً لمدى ما يمكننا معرفته عن الكون؟

غرين : لا أعرف. لكني أفكّر بأنْ لا حدود. لكني أظنُّ أن هناك قدراً قليلاً من التفاؤل. وكتشبيهٍ مستخدمٍ دوماً في التنظير الفيزيائي العام أراني مولعاً به: فإننا ندرك محدودية الكائنات الذكية القادرة على فهم القوانين العميقة على هذا الكوكب. فمهما حاولت أن تعلّم قطتك النسبية العامة فإنك ستفشل. هنا لدينا مثال على حياة ذكية لا يمكنها إدراك ذلك النوع من الحقائق عن عدم الاختلاف في العالم: لماذا لا يوجد اختلافٌ في هذا العالم؟. ويمكننا بالتأكيد أن نذهب إلى أبعد من القطط. لكن لماذا لا يكون ممكناً القول أن عقولنا تتوافق بطريقةٍ ما مع الكون بحيث أنها قادرة على فهم الأعمال الأعمق عنه؟

نوفا: طيب.. على سبيل المثال ، فإن معظم الناس تجد صعوبة في تصوُّر البعد المكاني الرابع. فهل ذلك ممكنٌ لك أنت؟

غرين: لا أستطيع تصوُّر أي شيء بأكثر من ثلاثة أبعاد. فما يسعني فعله هو أنني أبتكر استخداماً رياضياً قادراً على وصف هذه الأبعاد الإضافية. وبعدئذٍ أحاول ترجمة ما تريد أن تنبئني به الرياضيات إلى قياسات بُعدية قليلةٍ تساعدني في الحصول على صورةٍ لما تريد إخباري به هذه الرياضيات. لكن هذه الصورة لن تكون بالتأكيد كافيةً لإبراز الوصف لما يحدث تماماً، لأنه في أدنى الأبعاد وفي أقصى الأبعاد تبدو الأشياء مختلفة بلا ريب. فلأقول لكَ حقيقةً ما: فإني لم التقِ أي شخصٍ يستطيع تصوّر أكثر من ثلاثة أبعاد. هناك البعض ممَّن يزعم أنه يستطيع ذلك، (وربما يستطيع فعلاً) وليس سهلاً حتى قول ذلك(3). لكنه أمرٌ صعبٌ جداً أن يكون عقلك مضمَّناً في عالمٍ بثلاثة أبعاد، ومناسباً لتصوره ثمَّ يذهب إلى ما هو أكثر فيتخيَّله بأبعادٍ أكثر. هذا أمرٌ صعبٌ بالفعل!.

خيوط عملاقة:

نوفا: أنا مسرور لمعرفة أن هذا لا ينطبق علي(4)!. لنعد إلى الأوتار، فإنَّ (أد ويتن)(5) قال في مقابلة له: أنَّ من الممكن تصور أن الانفجار الكوني الكبير قد أنتج وتراً يبلغ من الكبر أنه يمكن وجوده في الوقت الحاضر ويمكن ملاحظته بالمناظير. هل توافقه على كلامه؟، وإذا كان الأمر كما يقول: فأين نبحث عن هذا الوتر؟، وكيف سيبدو شكله؟

جرين : أنا أوافق على أن ما قاله هو أمرٌ محتملٌ. لكني أقدّر أنَّ (اد ويتن) سيوافق على أنه سيناريو بعيد الاحتمال بمعنى الكلمة. لذا فإنها في عقل أي شخصٍ ليست الطريقة المثلى لتأكيد النظرية. ولكن من الممكن أن الطاقات الهائلة الموجودة في لحظة الانفجار الكوني الكبير قد ولّدت وتراً عملاقاً. الوتر العملاق يحتاج إلى طاقة أكثر لتوليده. أمّا كيف تراه؟.. فالجواب هو أنه إذا طاف في المنظار أو إذا ظهر في مجال الرؤية عن طريق الأقمار الصناعية فإنه يؤدي إلى تشويه الموجات الخلفية الدقيقة، ويمكنُهُ تغيير درجة حرارة الإشعاع بشكلِ متواصلٍ بنفس الطريقة التي تظهر من انعكاس صورتك عبر مرآةٍ متشقِّقة. فبمقدورك أن تنظر جيداً في جانبٍ من الشق، وفي جانبه الآخر، لكن في الشق نفسه فالأشياء تبدو مزاحة عن مواضعها. إنَّ هبّةً قويةً من المنظار ستؤدي إلى نسخةٍ مصقولةٍ من الصورة المُراقَبة.

نوفا: كيف يكون لهذه الأوتار الأساسية التي هي حسب تعريف النظرية لها بالغة الضآلة لأقصى حدٍّ.. كيف يكون لها أن تكون بحجم أكبر بمقدار كبيرٍ جداً من المعتاد؟

غرين : عندما نقول أن الأوتار بالغة الضآلة، فإننا نقصد بشكل عامٍ أنها لا تملك مقداراً هائلاً من الطاقة التي تُضخُّ إليها. وإنَّ طاقةً أكثر تضخٌّها إلى الوتر تعني أنه سيهتزُّ بشكلٍ أوسع، وفي نقطةٍ معينةٍ فإنَّ طوله سينمو. والسؤال هو: ما مقدار الطاقة التي يجسِّدها الوتر؟. عادةً هو لا يجسد مقداراً كبيراً، وبالتالي فهو عادة ضئيل جداً.

لحظات (وجدتها)(6)!:
نوفا: كيف شعرتَ ومعك اثنان من زملائك في معهد الدراسات المتقدمة بعد هذا الاكتشاف الرئيسي خاصةً في اللحظة التي أدركتم فيها أن النسيج الفضائي يمكن أن يتمزق وأن يعاد إصلاحه بطريقةٍ جديدةٍ؟

غرين: حسناً، ليس هناك في الواقع شيء يشبه هذا الشعور. فقد رأيتم نظرةً للكون لم يقع عليها أحدٌ قبلاً. وكذلك رأيتم إلى الطبيعة العميقة التي لم يدركها أحدٌ من قبل. إنه شعورٌ مدهشٌ. وأفكر أن أحداً ما لا يحصل له هذا الشعور لمراتٍ كثيرةٍ على صعيد مهنته وعمله. أنّك كثيراً ما تكتشف أشياء مفيدة ومهمة. لكني اعتقد أنه امتيازٌ نادرٌ أن تجد شيئاً أساسياً وحقيقياً يعطيك إحساساً بالتواصل مع الكون بشكلٍ يصعب جداً تحقيقه بطريقةٍ أخرى.

نوفا: هل لديك لحظة أكثر إثارة في عملك على نظرية الأوتار من نوع لحظة (وجدتها)؟

غرين: بالتأكيد. فواحدة أخرى من هذه اللحظات هي عندما كنت أعمل مع البروفيسور في جامعة هارفارد رونين بليسير (Ronen Plesser) الذي يحمل لقب "دوق"، وذلك حينما وقعنا على ما يسمى بالتناظر المرآوي الذي كان إلى حدٍّ ما غيرَ متوقعٍ. فعند استخدامنا لنظرية اينشتاين العامة وجدنا وبشكلٍ أساسيٍّ أن شكل الكون مختلف عما هو عليه عندنا بشكلٍ دراماتيكي. ومع ذلك فإن الفيزياء لا يبدو أنها تحمل أي أثرٍ من هذه الهندسة المختلفة للكون. وهذا شيء فذٌّ جداً، لأن آينشتاين علمنا أن َّالهندسة والفيزياء مترابطان سوية ًوبإحكامٍ. لكننا وجدنا ظروفاً لا يحدث فيها هذا الترابط الذي علّمنا إياه. وهذه كانت لنا لحظة (وجدتها) أخرى، راودنا خلالها إحساسٌ بشعورٍ حقيقيٍّ بأننا رفعنا الغطاء عن شيءٍ غير متوقّعٍ.

نوفا: ما النصيحة التي توجهونها لأي منظِّرٍ طموحٍ في النظرية الفائقة؟ هل تقولون له اذهب إليها أم تقولون: (لوجه الله أبقَ بعيداً عنها!)؟

غرين : أعتقد أنَّك في النهاية لا بدَّ أن تتَّبع قلبك في هذه المسائل. ففي النهاية عليك بمتابعة قلبك فيها. فإذا كانت هذه الأنواع من الأفكار والأسئلة تعتملُ في داخلك، وكانت هي على رأس اهتمامك يومياً، فأمامك فرصةٌ للخوض فيها. ومن جانبٍ آخرٍ فإنَّ هذه الأفكار هي حقلٌ تخميني جداً. فمن الممكن أن تتحوّل لتصبح كلها خاطئة. وإذا كان حالها كذلك، وكنت ستشعر أنه بعد صرف سنوات من البحث على هذا الموضوع بأنها قد ذهبت هباءً لأن النظرية خاطئة، إذن فمن المحتمل أنها لن تكون المجال المناسب لك. وبالنسبة لي ومعي آخرون كثيرين لا أشعرُ أن تلك الأفكار وهذه النظرية مضيعةٌ للوقت إذا ما تحولت مستقبلاً لتصبح خاطئة، ذلك لأننا طوّرنا مقداراً لا بأس به من علم الرياضيات. ونحن نعمل على تطوير علاقات وإنشاء مناطق للفيزياء أفكّر أنها ستكون هامةً بحدِّ ذاتها. وستكون لدينا بعض الأعمال القيمة جداً. ولكن لو تبيَّن أن النظرية صحيحة، فهذا يعني انطلاقٌ هائلُ ومذاقٌ رائعٌ للكعكة!. وشخصياً فحتى دون هذا المذاق وهذا الانطلاق فسيبقى عملي مثيراً ومفيداً بشكلٍ مميزٍ.

نوفا: بماذا تصف صنع تقرير وثائقي بالاستناد إلى كتابك؟

غرين : سيكون هناك الكثير من المتعة من نواحٍ عديدةٍ، وكذلك ستكون هناك صعوبات قاسية في نواحٍ أخرى. فإنَّ هكذا تقرير سيأخذ الكثير من العمل لفرز الأفكار الجوهرية ولإيجاد طريقة صحيحة للتواصل معها بشكلٍ ذهنيٍّ مثيرٍ. وفي كلِّ ذلك تسليةٌ ودقّةٌ وضبطٌ. أحياناً يحدث تعارض بين رغبتنا بأشياء ذات متعة أكثر وبين إدراكنا لما سيكون عليه أثر هذه الرغبة على الدقة العلمية. وبالنسبة لي، فلا بدَّ دوماً من الحفاظ على رقابةٍ تخلقُ فينا تأكيداً بأن العلم في النهاية هو الذي يفرض علينا ما يمكن عمله وما لا يمكن.

نوفا: لقد قمتم بنشر كتاب جرت مبيعاته جيداً. ولقد قمتم بأعمالٍ موسيقيةٍ، كما أنكم فزتم في دوري لعبة الجودو، وحتى أنكم ظهرتم على التلفاز مع كانون أوبرين(Conan O Brien) (7). هل هذه النشاطات تجلب لكم رؤية جديدة لعملكم في التنظير الفيزيائي، أم هي نوعٌ من التغيير الملطِّف للرتابة المرافقة للعناء الفكري؟.

غرين: جيد.. بالتأكيد أنها تغييرٌ ملطّفٌ. لكن شعوري هو أنَّ الاندفاع الفاعل والطاقات الفاعلة تتأثر بكلِّ شيء تتطلع إليه في الحياة. وأحياناً تتأثر بطرقٍ غير ملموسةً. عند تأليفي لكتاب الكون الأنيق، على سبيل المثال، وجدتني أرغم نفسي على محاولة رؤية قلب العلم، حتى أتمكَّن من إيصاله للناس بطريقةٍ مجرّدةً من التفاصيل التقنية التي لا يرغبون بسماعها. وخاصةً لمن لم يتثقّف منهم بهكذا أفكار. وهذا ما ساعدني للحصول على أشفِّ نظرةٍ شاملةٍ عن ماهية الأسئلة المهمة. وأيضاً إنَّ هذه الطريقة قد ساعدتني على تحديد وضعٍ خاصٍّ للبحث العلمي الذي أشارك فيه. ولست متأكداً ما كنتُ لأكون عليه بالضبط لولا تأليفي لكتاب الكون الأنيق.

نوفا: إنّك الآن على وشك إنهاء كتاب جديد، فما محتواه؟

غرين: يتحدّث محتواه عن المكان والزمان. إنَّ كتابي عن الكون الأنيق يدور حول قصّةٍ عن النظرية الموحدة. وكلٌّ من الزمان والمكان تمثل عناصر ثانوية داعمة في هذا القصة. أمّا في كتابي الجديد فالزمان والمكان هما العنصران الرئيسان. إنَّه في الحقيقة مناقشةٌ عن فهمنا المتغير دوماً عن تلك الأفكار العامة البسيطة عن المكان والزمان وكيف يبدوان فعلاً.

نوفا: لقد ذكرتم نظرية المجال الموحد. فلو قادتنا نظرية الأوتار إلى ما يسمى بـ (نظرية كل شيء)، وأدركُ أنك لا تحب هذا المصطلح كثيراً.. فإلى أين ينطلق الفيزيائيون النظريون من بعدها؟

غرين: حسناً.. كمثالٍ فاعتقد أنَّ ريتشارد فينمان (8) (Richard Feynman) ربما كان الأقدر على شرح أين سنكون. ولكني أقول: إذا شئتَ تعلّم لعبة الشطرنج، فأول ما عليك فعله هو معرفة قواعدها وقوانينها. وبعد تعلم القوانين فلعبة الشطرنج بالنسبة لك لم تنته بعد، ذلك أنَّ تعلّم القوانين هو مجرّد بداية، لأنّك بعدها ستطبِّق هذه القوانين كي تلعب أنواعاً من اللعبِ الممتعِ المُضمَّن في كل أشكال الاستراتيجيات، وعندها ستسمح لنفسك بالبحث عن ثراء هذه اللعبة. وبالمثل، إذا امتلكنا في النهاية النظرية الموحدة، وإذا وقعت القوانين الأعمق للكون بأيدينا، فإن هذا يعني وفق الفهم الدقيق جداً أننا على أعتاب البداية. وستكون هي بداية سعينا لاستخدام هذا الفهم العميق من أجل الاستكشاف الكلي لهذا الكون، ومن أجل الفهم التام للثقوب السوداء والنجوم والمجرات وحتى الانفجار الكوني الكبير. ومن أجل فهم كيف تسير الأشياء بالطريقة التي هي عليها. فالنظرية الموحدة هي مجرد بداية، وسوف تضعنا على عتبة الكون الفسيح بما فيه من أشياء لا حدَّ لها سنستكشفها بدقّةٍ.


هوامــــش:

(1) لقد تعرّضتَ نظرية الأوتار الفائقة إلى نقدٍ عارمٍ من قبل عموم علماء الفيزياء، بل لم يلتفت لها طيلة سنواتٍ سوى بعضٍ قليلٍ منهم. كارل كرين بهذه العبارات يعطي وصفاً لمدى العداء الذي يكنَّه بعض العلماء لهذه النظرية بحيثُ أنَّ ما تحقّقَ لها من إنجازات ما كان متوقّعاً لها في أسوأ توجساتهم عنها!.
(2) شيلدون كلاشو: أحد كبار الفيزيائيين حصل على جائزة نوبل عام 1979 بالاشتراك مع ستيفن وينبرغ والعالم الباكستاني عبد السلام ومن بين أقسى المعارضين لنظرية الأوتار الفائقة.
(3) أي قول العبارة التي بين القوسين.
(4) يقصد فيما يظهر أنه ليس من نمط هؤلاء الذين يدَّعون القدرة على تصور العالم بأكثر من ثلاثة أبعاد.
(5) أدوارد ويتن: من منظري نظرية الأوتار الفائقة. وهو رياضي فيزيائي في معهد الدراسات المتقدمة في مدينة بريسنتون في ولاية نيو جرسي الاميركية.
(6) (وجدتها) وتعني بالانكليزية (eureka) هي العبارة التي صاح بها أرخميدس محبوراً عند اكتشافه للقاعدة الفيزيائية المسماة باسمه عن وزن السائل المزاح.
(7) مقدّم برامج تلفزيونية معروف في أميركا.
(8) فيزيائي أميركي معني بالبحث في نظرية الكم حائز على جائزة نوبل بالاشتراك مع آخرين عام 1965. توفي عام 1988





https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن