الجدارة السياسية السبيل الوحيد لإصلاح الدولة العراقية

جاسم المطير
j.almutair@kpnplanet.nl

2009 / 10 / 13

كثيرا ما أسمع أصدقاء يعبرون، في أحاديثهم، أن مجتمعنا العراقي كان ينبغي أن يكون خلال 6 سنوات مجتمعا بلوريا نقيا ليس فيه رذيلة اجتماعية ولا قصور سياسي. حتى العمليات الإرهابية في شوارع بغداد وتخريب منشآت الدولة هناك من يظن أنها كلها ليست بأيد عراقية. هؤلاء الأصدقاء يتصورون أن الأعمال الهمجية لا يمكن حدوثها في بلدان نشأت فيها أسس الحضارة الإنسانية (حضارة سومر وبابل وآشور/ مثلا ) قبل غيرها متناسين أن المجتمع العراقي، ككل المجتمعات الإنسانية، يمكن أن تقود دولته وحكومته مجموعة من نخب فيها من يتميز بالفضيلة، كما يمكن أن يكون فيها من يتميز بالرذيلة. هناك، على رأس الدولة، من هو مؤتمن على مصالح الوطن وهناك من لا يترادف مع حب الوطن. هناك من يستهتر بمصالح الشعب التي اؤتمن عليها.. هناك من هو جدير بالأمانة وهناك من ليس جديرا.. هناك من تتوفر فيه (الجدارة السياسية) وهناك من يحتاج إلى ابسط مواصفاتها.
من هنا بالذات نجد العنف في بلادنا تصاعد بعيد حدوث التغيير الكبير في نيسان 2003 ومن هنا حدث خراب اجتماعي كبير بين صفوف سياسيين عراقيين وصولا إلى خراب إنساني شمل الأطفال أيضا حيث أصبحت المرأة (وهي نصف المجتمع) إما عاطلة عن العمل وإما أرملة، وإما ساكنة دائمة بين أربعة جدران.
الكثير من منظمات المجتمع المدني التي تكونت بعد 2003 والمنظمات الدولية العاملة في العراق تقدم الكثير من المعلومات والإحصائيات المخيفة عن واقع حال حقوق الإنسان وعن حقوق المرأة المغتصبة وعن حقوق الأطفال الضائعة. لكن لا احد يستطيع تحديد الأسباب المباشرة وراء هذه الحقائق التي تواجه الدولة والمجتمع غير القول أن بعض عناصر قيادة الحكومة العراقية غير (جديرة) بقيادة الدولة. هل هذا رأي صائب..؟
هل يستطيع كل حامل شهادة دكتوراه في الأدب العربي أن يكون أستاذا جامعيا ناجحا وان يقدر على المساهمة بخلق جيل أدبي جديد..؟ هل بإمكان القائد العراقي الناجح في صفوف المعارضة قبل نيسان 2003 أن يكون قائدا ناجحا، أيضا، في حكومة النظام الجديد بعد هذا التاريخ..؟هل يستطيع المنظـّر في الاقتصاد السياسي أن يكون قادرا على قيادة مشروع اقتصادي بنجاح..؟
هذه الأسئلة وغيرها الكثير يتبادر إلى ذهن الوطنيين العراقيين الغيارى. لماذا عجز القائد العراقي الجديد في الحكومة العراقية وفي البرلمان عن تحقيق "تغيير جذري" في الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي خلال السنوات الست الماضية..؟ هل كان السبب نقص بالحذاقة الإدارية؟، هل هو نقص الذكاء السياسي، أم بسبب تناقض ما بين نوايا ومقاصد القيادي ومزاياه الشخصية..؟
منذ زمان طويل وعلماء السياسة والاجتماع يبحثون عن أجوبة لمثل هذه الأسئلة وعن جميع الأمور والخطوات المتعلقة بإخفاق رجال السياسة والحكم وفشلهم في إصلاح الدولة، حتى أن الكثير من علماء السياسة منذ أكثر من قرن ونصف قاموا بدراسات عديدة للوصول إلى نتائج تخص الأسباب الحقيقية الكامنة وراء فشل ثورات 1848 وكومونة باريس، في فرنسا وغيرها من الدول الأوربية، رغم نبل الأهداف العظيمة التي حملها جميع قادة هذه الثورات.
في بلادنا، أيضا، نجد الكثير من المحاولات الأكاديمية وغير الأكاديمية لدراسة الأسباب الكامنة وراء فشل ثورة 14 تموز 1958 وسقوطها بضربة واحدة في 8 شباط 1963 رغم أن عبد الكريم قاسم كان رجلا وطنيا مخلصا لشعبه لكنه لم يستطع أن يبني دولة قوية محصنة ومتطابقة مع تفكيره وتفكير معاونيه المحيطين به قبل الثورة وبعدها، كما لم يستطع أن يمسك بيديه قضية الشعب العراقي المركزية المتمثلة بالاستقلال الوطني والعدالة والحرية.
نفس الأسئلة يمكن سحبها على قيادة الرئيس جمال عبد الناصر. كذا القول على المنجزات التاريخية والانتصارات العسكرية والآثار العمرانية وكشف الفضاء الخارجي التي أنجزها الاتحاد السوفييتي غير انه فشل في المحافظة على دولته الشيوعية. أية صفات يحتاج إليها القائد السياسي إذن..؟ هل يحتاج المسؤول الحكومي العراقي، في هذه الأيام، إلى إعادة قراءة مونتسكيو وجان جاك روسو وكارل ماركس من حيث مسعى كل واحد منهما في نصائحه لرجال الدولة القدماء والحديثين أم أن بعض رجال الدولة يحتاجون إلى نصائح الدكتاتور الجنرال بينوشيه الذي اغتصب بانقلاب عسكري دموي دولة شيلي في أمريكا اللاتينية..؟ أم أنهم يلجئون إلى (المزج بين المال العام والمصلحة الفردية) حال قيامهم بــ"إدارة" بعض مرافق الصالح العام كما فعل بعض الوزراء والمدراء في العراق الجديد كان آخرهم حادث المصرف الإسلامي العراقي حيث أظهرت وثيقة نشرتها، في الأسبوع الماضي، وكالة الصحافة العراقية المستقلة، حجم الاختلاسات بأموال المصرف الإسلامي العراقي اثر قيام لجنة تفتيشية تابعة لدائرة الرقابة المصرفية والائتمانية بتدقيق إعمال المصرف المذكور التي تبين فيها أن (رئيس مجلس إدارة المصرف الإسلامي) قام بمنح تسهيلات مصرفية من فرع المنصور بالدولار وبطريقة الدفع الآجل بصورة تجاوزت على الصالح العام من اجل الصالح الخاص حيث أشارت الوثيقة إلى أن تلك المبالغ يتم تحويلها لحساب أبن رئيس البنك المقيم في العاصمة الأردنية عمان من غير اخذ إي ضمان يغطي قيمة تلك المبالغ الممنوحة، بل استندت بضمان العلاقة الشخصية بين رئيس مجلس إدارة المصرف للأشخاص الممنوحين وهو ما يعد مخالفة قانونية بحق المصرف وفق قانون المصارف المعمول به.
هذا الخبر يذكرنا جميعا بعملية الاختلاس الكبرى أوائل أيام تأسيس الدولة الإسلامية حين أقدم والي البصرة وهو أبن عم الإمام علي بن أبي طالب على سرقة أموال الولاية والهرب بها وغير ذلك من التجاوزات المالية الكبرى في قصور خلفاء الدولة الأموية وما تلاها من خزائن الدول الإسلامية المتعددة. كذلك التجاوزات المالية الخطيرة التي جرت في المصارف العالمية الكبرى في الدولة الرأسمالية العالمية الأولى (أمريكا) التي انكشفت في عام 2008 مسببة واحدة من عوامل الأزمة العالمية الحالية. لو وجهنا سؤالا لأي مواطن عراقي، في هذه الأيام، عن أهم قضية تشغل باله فأنه سيركز جوابه على قضية أساسية واحدة هي المتعلقة بــمستوى "الجدارة السياسية " ذات الأفق القيادي، الأخلاقي والفقهي، التي جاءت بهذا الرجل أو ذاك حتى يصبح مسؤولا دنيويا عن أحوال الناس ومعاشهم و عن حماية حقوق الإنسان وعن التطبيقات الديمقراطية في بلادنا. لا شك انه سيتحدث عن قصص طويلة وعريضة تدور حول الفساد المالي والإداري وحول عدم نزاهة الانتخابات وحول صعوبات الحياة اليومية التي تطال أرزاق الناس بسبب مباشر أو غير مباشر من هذا المسئول الحكومي أو ذاك لعدم توفر الجدارة السياسية في شروط قدراته ومواهبه وصفاته وعلومه ومعارفه عموما. ربما سلامة الطوية واستقامة السلوك متوفرة لدى المسئول الحكومي غير أن الإشارة تظل قائمة في علاقة الوظيفة السياسية بالجدارة السياسية، مثلما علاقة الوظيفة الإدارية بالجدارة الإدارية حتى مع توفر الاختصاص عند المسئول.
إن العلاقة بين القائد السياسي و"الدولة" ليست علاقة شخصية، ليست علاقة وظيفية بحتة، بل ينبغي أن تكون علاقة قائمة على ممارسة الحق والحرية والمشاركة الوطنية وتحمل المسئولية التامة في الشئون العامة والصالح العام. القائد السياسي الرافض لمثل هذه العلاقة، بوعي أو من دونه، إنما يرفض بالنتيجة عملية بناء الثقة غير المحدودة لسيادة مصالح الوطن ووضعها فوق كل اعتبار وربما يتجه في الممارسة الوظيفية نحو تفضيل "السعادة الشخصية" من خلال المنصب الإداري أو السياسي. رب سائل يسأل: هل هذا النوع من علاقات القائد السياسي ورجل الدولة يعني أن هناك تضادا بين حكم القانون وتمثيل المصالح الشخصية أو المصالح الحزبية الضيقة..؟
الإجابة حتما بالإيجاب استنادا إلى أمثلة كثيرة في كل مكان من دول العالم. هذا ما يؤكد بالتجارب العملية الكثيرة استحالة بناء الديمقراطية أو تصعيبها، بأقل الاحتمالات، إذا استمر هذا التضاد في (الحكومة) أو في (البرلمان) أو في أي دائرة من دوائر الدولة ولا بد من التأكيد، هنا، بأن هذا التضاد يصيب بالصميم نظام الديمقراطية القائم على مبادئ المؤسساتية والعدالة. لابد من التنبيه أن المصالح الشخصية لا تعني أنها جزء من "المذهب النفعي" المعروف منذ عصر أرسطو وفلسفته أي (الإنسان الاقتصادي) لكنني احدد القول بوضوح اكبر حين يسخر رجل السياسة أثناء وجوده على كرسي منصبه بإخضاع مصالح الشعب إلى مصالحه الشخصية وهو ما تم تسميته بالفساد الإداري والمالي.
خلال السنوات الست الماضية أصبحت (الديمقراطية) مجرد كلمة هزيلة في الشارع العراقي، في البيت العراقي أيضا، لأنها لم تستطع أن تواجه الكلمة الأكثر اتساعا في شؤون الدولة العراقية الجديدة وهي كلمة (الفساد).
أن مفهوم الديمقراطية كما فهمه واستوعبه الحزب الشيوعي العراقي منذ عقود بعيدة هو صيغة من صيغ الحياة السياسية والإنسانية التي تجعل أبناء الشعب قادرين على ممارسة حرياتهم في القول والتعبير وبناء المجتمع الواعي. لم تكن ثقافة الحزب الشيوعي وسلوكياته، قيادة وقاعدة، ترضى بأي شكل من الأشكال أن يكون هناك أي تعارض بين حقوق الإنسان العراقي وواجبات المواطن، بالتالي لم يكن هناك أي مثل في تعارض مصالح الشيوعي العراقي كأفراد أو كحزب مع مصلحة الشعب. وقد ظل الشيوعي العراقي ساعيا إلى تحقيق شعاره المجيد في المساهمة ببناء وطن حر وتحقيق السعادة لشعبه وقد قدم الحزب الشيوعي العراقي آلاف التضحيات في مسيرته النضالية الكبرى من اجل الوفاء لموروث تاريخه النضالي الذي يحمل تجانسا ثقافيا وإنسانيا مع أهداف ومطالب جميع مكونات الشعب العراقي واثنياته.
ظلت هذه الثقافة الشيوعية تتجانس إلى ابعد الحدود بالفكرة الديمقراطية القائمة على دقة العلاقة بين الحرية الشخصية والقانون، بين الحرية السياسية ومصالح الشعب. كذلك ظل الحزب الشيوعي كمروج يومي للقيم الإنسانية وللقيم الديمقراطية والدفاع عنها بكل الوسائل والتضحيات مع تحمله الشجاع في النقد الذاتي مسئولية الكثير من أخطائه التطبيقية في ظل ظروف قاسية محيطة بتنظيماته كافة خلال كل العهود المظلمة التي مرت بالوطن، حتى غدت المسالة الكبرى في النشاط اليومي الشيوعي هي إنتاج أساليب نضالية جديدة متنوعة من اجل تطبيق مبادئ الديمقراطية ليس في علاقاته داخل تنظيماته بل في علاقاته مع جميع الأحزاب والكتل والجمعيات ذات الثقافة الديمقراطية الساعية إلى حماية التعددية داخل المجتمع العراقي الذي تحرر من الروح التوليتارية عام 2003 حيث توغلت المفاهيم والشعارات والأفكار والمفردات الديمقراطية توغلا واسعا في حياة المجتمع والأفراد حيث تتنوع في بلادنا المعتقدات والأصول الاثنية والدينية والآراء الفردية والمشاريع السياسية والحزبية.
هذا الواقع يتطلب من الشعب ومن نخبه التنويرية أن لا يتحدد مفهوم الديمقراطية على مجموعة من القوانين والإجراءات الدستورية بل يجب أن تبنى الديمقراطية على قدرة الشعب (الناخب العراقي) على اختيار (الشخص) الذي يحترم جميع التطلعات الشعبية الفردية والجماعية وأن يتم اختيار النواب عنه في البرلمان من بين العناصر الجديرة باحترام القوانين واحترام العمل المؤسساتي. كما ينبغي على البرلمان أن يختار رجال الدولة (رجال الحكومة) من الذين يملكون (جدارة سياسية) لا تخضع لضغوطات المصلحة الشخصية الأنانية أو المنفعة الحزبية الضيقة، بل من المعروفين بتقاليد الالتزام الديمقراطي الجماعي اعتمادا على العقلانية كروح ملازمة للروح الديمقراطية إذ بهذا فقط يتم حماية الديمقراطية من كل أعدائها، الداخليين والخارجيين، الذين هم أعداء، مباشرين أو غير مباشرين، لمصالح الشعب العراقي..
إن (الجدارة السياسية) ضرورية لتطبيق الديمقراطية مثل جدارة الإخلاص الوطني نفسه. أول صفة من صفات الجدارة السياسية هي أن يعمل رجل الدولة لتطوير المجتمع المدني باتجاه (المساواة) بين المواطنين. هذه مشكلة قديمة بل هي معاناة قديمة عند المواطن العراقي منذ تأسيس الدولة العراقية حتى اليوم حيث لا يشعر المواطن بالمساواة الحقيقية أمام القانون كما نصت على ذلك جميع الدساتير العراقية وهذا ما أدى لزمن طويل إلى نشوء ظاهرة (شعلية) وهي ظاهرة تشير إلى عدم اكتراث المواطنين بالشئون الوطنية وبمصلحة الشعب. لا شك أن الكثيرين يعرفون أن (مرض عدم الاكتراث) موجود، أيضا، بين رجال الدولة، خاصة عند أولئك الذين يضعون الحرية النفعية الفردية فوق المصلحة الجماعية. وقد شاهدنا على شاشة التلفزيون كيف تجندت الكثير من أفكار برلمانيين ليس لحماية شئون المواطنين ومصالحهم وحرياتهم بل محاولات إخضاع قوانين الدولة تحت ضغط أهواء فردية للحصول على مصالح شخصية كثيرة لأعضاء مجلس النواب أنفسهم مما يؤكد نقصان الجدارة السياسية.
من أهم مظاهر (الجدارة السياسية) التي ينبغي توفرها لدى رجال الدولة العراقية الجديدة هو ضرورة إحلال (النظام) محل (الطائفة) بمعنى إحلال مصلحة الوطن فوق مصلحة الطائفة. هذا الإحلال هو وحده القادر على إيجاد نسق عقلاني يوفر اندفاع نواب البرلمان ورجال الحكومة للتصرف واتخاذ الخطوات القانونية التي تعزز عمل مؤسسات الدولة بما في ذلك عمل النقابات المختلفة ومنظمات المجتمع المدني جمعاء. هذا يؤدي بدوره إلى وضع العراق في طريق التقدم الاقتصادي السريع إذا ما كانت الجدارة السياسية لرجال الدولة والبرلمان قادرة على تنمية العمل النقابي الدافع لتنمية الديمقراطية الصناعية كما أشار إلى ذلك بعض دعاة الفكر الليبرالي مثل جون هوبز وستيوارت مل وبينامين كونستان وغيرهم بعد أن استطاع نضال النقابيين الديمقراطيين الانكليز في تقليل تأثير( الفكر النفعي) لدى رجال الدولة الذي فرض نفسه خلال القرن التاسع عشر، بينما تعزز خلال القرن العشرين تيار سموه (دولة الرفاهية) رغم أنني اعتقد أن الطبقة البورجوازية الحاكمة في البلدان الرأسمالية يقف فيها النفعيون الطبقيون كقوة فاعلة فوق كل المصالح والطلبات الشعبية مما يؤكد حقيقة واحدة من حقائق الماركسية وهي أن المجتمع البورجوازي مهدد دائما بغياب فرص المساواة والعدالة أمام المواطنين لأن (جدارة) رجال الدولة الرأسمالية هي (جدارة طبقية) بالدرجة الأولى.
من هذا المثال الواقعي يمكنني القول أن القوى الطائفية وغيرها في العراق الجديد وجميع القوى التي تتراكض وراء تراكم رأس المال ووضعه بين أيدي مجموعات قيادية، طائفية وطبقية، أتاحت لها سلطات الاحتلال الأميركي بعد عام 2003 كل الفرص المناسبة لاحتلال مراتب الدرجة العليا في قيادة اقتصاديات الدولة وتجارتها الخارجية والداخلية من دون توفر عناصر الجدارة السياسية التي أول استهلال فيها هو الفضيلة السياسية، أي الحرص على تقدم اقتصاديات الوطن ومساواة المواطنين في نيل فرص التقدم الاجتماعي.
الجدارة السياسية عند رجال الدولة وعند رجال البرلمان تعني من ضمن ما تعني أن يتحلى رجل الدولة ورجل البرلمان بمحبة البشر، بمحبة العراقيين كلهم، خاصة الناس الذين عانوا المصائب والويلات خلال نصف القرن الماضي بسبب المضاعفات السياسية الناشئة عن صراع المصالح من اجل الإمساك بعرى الدولة التي ساعدت صدام حسين وحزبه من السيطرة على كل مقدرات المجتمع وثرواته بتيارات الحديد والقمع والنار، وقد توجهت الدولة ورجالاتها خلال 35 عاما نحو استبداد مصالح رجال الدولة بمصالح الشعب كله وتجاوز رجال الدولة أثناء قيادة حزب البعث على كل (قيم الجدارة السياسية) مما اوجد بقايا منظومات دولة البعث داخل الدولة الجديدة ما بعد 2003 وفيها تكمن بذور الفساد السياسي المهيمن في مفاصل اغلب مؤسسات الدولة الجديدة حيث اللجوء إلى (الطائفية السياسية) و (الطائفية الإدارية) يؤدي إلى تحديد دور الديمقراطية والى إضعاف دور ثقافة الجدارة السياسية عند دراسة السير الذاتية في لحظة اختيار رجال الدولة والبرلمان، فالجدارة السياسية المطلوبة بعد 2003 هي العقلنة الشاملة والإخلاص الشامل وهي التخلص من الرؤية النفعية التي أوجدتها وغذتها دولة البعث السابقة.
أشير إلى أمر لا يقبل الرفض : أن الجدارة السياسية ملتصقة تماما مع الديمقراطية إذ أن الديمقراطية الحقيقية تتحول إلى ديمقراطية شكلية عندما يفتقد رجال الدولة جدارة سياسية ضرورية، هي في الواقع أهم صفة من صفات الحرية إذ عدم وجود (الجدارة السياسية) في حزب أو في حكومة أو في برلمان لا يخلق أية إمكانية حقيقية للتطور الطبيعي أمام الديمقراطية في بلادنا. أقول بذات الوقت أن توفر الجدارة السياسية بكل معانيها القيمية ومواصفاتها الديمقراطية هي الذهنية الوحيدة القادرة على أن تطرح أمام النخب وأمام الشعب كله مهمة ايجابية دائمة التفوق هي مهمة تحقيق التقدم والعدالة والحرية.
باختصار أقول أن الجدارة السياسية تتطلب تواضعا إلى درجة قبول (الحاكم) لنصائح (صحفي) في جريدة ما، وأن يكون (الحاكم) قادرا على فهم اللحظة التاريخية التي يحكم فيها بلده إذا كان يهمه فعلا تنفيذ رغبته الوطنية ورغبة المواطنين في إصلاح الدولة وتطوير عملها وجعل المطلب السياسي للناس تنفيذ إرادتهم بالدرجة الأولى كلما كانت هذه الإرادة ضمن المعقولية. كما أن الجدارة السياسية تتحكم في قدرة البرلمانيين على أن يكون (رجل التشريع) مؤمنا، حقا، بحقيقة أن الجديد في الحياة الإنسانية ينبغي له أن يحتل مكان القديم لأن هذا هو قانون التطور الطبيعي الذي يعتبر امتدادا لقيمة الإنسان وتاريخه.
بصرة لاهاي
في 8/10/2009
***********
نقلا عن جريدة طريق الشعب العدد 46 في 13 – 10 - 2009





https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن