مولاي اعتدل أو اعتزل

فتحي الضو
faldaw@hotmail.com

2009 / 10 / 12

لم يكن السيد محمد عثمان الميرغني في حاجة لمؤتمر مثل مؤتمر جوبا الأخير ليكشف عن تأرجح مواقفه السياسية، والتي تتراوح دوماً بين رفض لما هو مطروح من قضايا علناً وقبولها سراً أو الوقوف في منطقة رمادية إثر الجمع بين النقيضين. لم تكن تلك هي المرة الأولى بالطبع، ولن تكون الأخيرة، طالما أن القضايا التي يعج بها الواقع السوداني تتقاطع تماماً مع رؤية زعيم الحزب.. المُرهَق بمطابقة حسابات الحقل والبيدر، أي السياسة من جهة والطائفة من الجهة الأخري. ولهذا إن شئت يا عزيزي القاريء أن ترى حزباً تعثرت خطاه مثلما الوجِي الوحِل، وإن شئت أن ترى حزباً تفككت اوصاله بعوامل التعرية الذاتية، وإن شئت أن ترى حزباً اصبح حزمة من (اللوغريثمات) وعمليات الضرب والطرح كما الرياضيات، فأنظر وتأمل الحال الذي وصل إليه الحزب الاتحادي الديمقراطي.. في ظل زعامة مولانا الحسيب النسيب السيد محمد عثمان الميرغني. علماً بأنه ثاني أثنين في هذا البلد الصابر اهله، ممن يحق لهما اسكات أي صوت يحاول حل تلك الالغاز.. بإعتبار أن الحزب يظل في قاموسيهما تابعاً وليس متبوعاً. ولن يجهد المرء نفسه بالبحث عن مثلٍ يُضني عقله أو بدنه.. فدعك من كل الذي مضى وانظر فقط للمواقف المرتبكة التي صاحبت مؤتمر جوبا.. الذي تعددت فيه الأعذار والسبب واحد. فعندما شاء السيد الميرغني التخلف عن الركب اخرج ثلاثة روايات على لسان ناشطين ليدرأ بها شبهة التقاعس. فثمة صوت عزا عدم المشاركة لإكتشافهم أن المؤتمر (ملغوم) بأجندة خارجية، وقال آخر إنهم رأوا في الأفق سمات (مؤامرة) تهدف إلى إحلال تجمع جوبا مكان التجمع الوطني الديمقراطي، وقال ثالث للملأ إنا تطيرنا من مبارك الفاضل، وتشاءمنا من حسن الترابي، ولم يشفع للأول أن رسمه يوحى بنقيض ذلك، وإن كان للثاني من اسمه نصيب!
كان ذلك موقفاً متذبذباً افقد الحزب العريق الكثير من وقاره السياسي، والمفارقة أنه حينما استحكمت عليه حلقات النقد، جاء أحد دهاقنة الحزب (يُكحِّلها فعَمَاها) على حد تعبير المثل الدارج. إذ خرج علينا السيد حاتم السر الناطق الرسمي بإسم الحزب، في بيان غريب بتاريخ 28/9/2009 لم يخطر على قلب سياسي قط.. منذ أن طرح ياجوج وماجوج أول حزبين على البشرية. إذ قال السر (إن الحزب الاتحادي الديمقراطي إذ يتطلع بإيجابية تامة إلى ما سيخرج به مؤتمر جوبا من توصيات وقرارات، فإنه سيحدد موقفه النهائي منه على ضوء ما يخرج به من نتائج. فإذا أتت مخرجاته غير متناقضة مع مواقف الحزب الثابتة والمعلنة من قضايا الوحدة والسلام والديمقراطية والوفاق، وجاءت داعمة للوحدة الوطنية ومعززة للسلام ومطالبة بالتحول الديمقراطي، سيرحب بها ويعلن دعمه الكامل لها على رغم عدم مشاركته في الملتقى. أما إذا أتت بخلاف ذلك فإن الحزب سيخضعها للدراسة والتقييم ويصدر رأيه بشأنها) إذا قيل لك ببساطة - يا من تقرأ بعينين مفتوحتين وعقل في كامل وعيه - إن حزباً رائداً سُمي بحزب الحركة الوطنية، شاء القائمون على امره انتظار الحدث بدلاً عن الإسهام في صناعته ومخرجاته.. فماذا أنت قائل؟
لأن خير البر عاجله، كما يقولون، لم يشاء السر نفسه أن يجعل العقول تحتار في فك طلاسم قوله، وقبل ذلك ارجو ألا تتعجب يا قارئي الكريم من السرعة القياسية التي اتاحت لمكتب تنفيذي أن يجتمع ويجهر برأيه قبل أن يجف حبر البيان الختامي للمؤتمر بعد. إذ أردف بتصريحات اخري يوم 1/10/2009 ممهورة باسمه ومُعرِّفاً بالصفة الجاذبة كناطق رسمى. رحَّب على الفور بكل ما صدر عن المؤتمر ووصف (قراراته الخاصة بالوحدة والتحول الديمقراطي والدعوة لاستمرار الحوار من اجل تحقيق الوفاق الوطني الشامل واجماع أهل السودان بالايجابية) ومن جملة عبارات انشائية كثيرة لا تمت للواقع بِصِلة، استوقفنا انفسنا في مقتطف يعكس أزمة الحزب حينما يقرر التعاطي مع القضايا العامة بتقنية الاستشعار عن بُعد (جدد دعوته لضرورة وحدة الصف الوطني، وتجاوز الاختلافات والابتعاد عن الانقسامات، التي تهدد وحدة وتماسك أهل السودان، وتعرقل الوصول إلى بلورة وصياغة رؤى وطنية موحدة، تعبر عن طموحات وتطلعات كل السودانيين، وتمكنهم من تجاوز التحديات والمخاطر المحيطة بالبلاد) واستكمل حديث الكسل الذهني هذا بفقرة أخرى (أعرب الحزب الاتحادي الديمقراطي عن أمله في أن تسهم مقررات الاجتماع في تمهيد الطريق لعملية الوفاق الوطني الشامل، وأن تؤسس لقيام علاقات طبيعية بين الأطراف السياسية) ثم يكشف السر سر مؤتمر مماثل يزمع الحزب عقده (نأمل أن يكون من شأن هذه المواقف تمهيد الأرضية المناسبة لمؤتمر الحوار الوطني السوداني، الذي تدعو إليه قيادة الحزب الاتحادي الديمقراطي والذي يجب أن يعقد قريباً) ولم لا يا سيدى، فذلك زرع اطعمنا منه الحاكمون بأمر ربهم حتى أصبحت بلادنا تعرف بسلة مؤتمرات العالم!
بالرغم من أن السيد على محمود حسنين نائب رئيس الحزب، حاول معالجة المسألة بمشاركة أقرب إلى الرمزية بحضوره جزء من فعاليات اليوم الخاتمي، إلا أن الخطوة نفسها عبَّرت عن الأزمة العميقة التي يعيشها الحزب. كان الرجل مُنصِفاً وهو يقر للصحفيين (1/10/2009) ساعة وصوله مطار جوبا انه (لا يمكن للاتحادي أن يتخلف عن الاجماع الوطني) مثلما كان جريئاً في وضع اصبعه على الجرح النازف وقال إنه (يشارك في المؤتمر ممثلاً للحزب الاتحادي الذي لا يمكن أن يقرر مصيره شخص مهما كان ذلك الشخص، والحزب ملزم بقبول نتائجه) والحقيقة مع كامل التقدير لافتراضه هذا، لكن قرائن الأحوال تؤكد أن الشخص المعني، هو من ظلَّ يقرر مصير الحزب منذ أن تسلم مقاليده قبل أكثر من أربعة عقود زمنية، مع التأكيد على تمرد حسنين الدائم للانعتاق من ربقة تلك الهيمنة وآخرها تلك الخطوة. ولعل هذا ما جعل أحد ظلال السيد الميرغني في الحزب سلب حسنين حقه في تمثيلهم، ونسخ اقواله التي قال فيها إن الحزب ملزم بقبول مقررات المؤتمر، ذلك ما جاء تحديداً (الصحافة 5/10/2009) على لسان على السيد المحامي (نحن مصرين بأن الحزب لم يشارك في مؤتمر جوبا، ولكننا قلنا أذا كانت هناك توصيات مفيدة من مؤتمر جوبا فنحن لسنا ضدها) وإفترض على السيد كياناً غير مرئياً بقوله إن (المؤسسة قررت عدم الاشتراك، وقد يكون على محمود لا يعلم أن ذلك القرار قد صدر من مؤسسة الحزب، وبالتالي نحن نعطيه العذر، ولكن إذا علم أن هنالك قراراً صدر من المؤسسة فاشتراكه ليس صحيحاً) المفارقة أن على السيد الذي يتحدث عن المؤسسية لا يعلم أن الناطق الرسمي اعلن قبول الحزب مقررات المؤتمر فيما اقتبسناه عنه اعلاه.. فهل يا تُرى كَفر حسنين أم اسَلم على السيد؟
كان المتوقع ألا يتخذ الحزب الاتحادي موقفاً مناهضاً لمؤتمر جوبا، وذلك لعدة أسباب منها أولاً: إنه يدَّعي أن ثمة تحالف تاريخي بينه وبين الحركة الشعبية منذ العام 1988 وبما أنها الجهة الداعية، فذلك يعني إنه وضع هذا التحالف على سطح صفيح ساخن. ثانياً: المعروف أن الذين اجتمعوا في جوبا يعكسون تمثيلاً حقيقياً للقوى الوطنية والديمقراطية في الحياة السياسية السودانية، وهى من الناحية الواقعية تمثل القوى التي تناهض الجبهة الاسلامية سابقاً والمؤتمر الوطني حالياً مشروعها الاقصائي، فكيف يتأتى لحزب أن يعزل نفسه منها وهو يضع الديمقراطية عنواناً في اسمه ناهيك عن ممارستها فعلياً. ثالثاً: إن هذه القوى - عدا المؤتمر الشعبي – هي ذاتها التي تحالفت في إطار التجمع الوطني الديمقراطي، وللاتحادى قدح مُعلى في ذاك الصرح حتى وإن تهاوت اركانه. رابعاً: إن هذه القوى بإستثناء الحركة الشعبية، وقِلَّة أخرى ظهرت حديثاً في الساحة، هي نفسها التي عزلت تلك الجماعة بتوقيع ميثاق الدفاع عن الديمقراطية حتى وإن لم تطبق بنوده. خامساً: بما أن قضية الوحدة والانفصال تصدرت اجندة الاجتماع كان ذلك كفيلاً بمشاركة الاتحادي حتى لو ساهم بأضعف الايمان. سادساً: إن كان الحزب الاتحادي ينوى حقاً مع الحالمين اسقاط العصبة ذوي البأس عبر الصندوق الانتخابي - إن قيض الله لقوانين التحول الديمقراطي نفاذاً - فتلك امنية ربما جعلها مؤتمر جوبا قاب قوسين أو ادنى من الحقيقة، فهل يتمنى الحزب فعلاً ازاحت العصبة سلميا عن السلطة، وكلنا يعلم أن الأمانى تؤخذ غلابا. سابعاً: من الاسباب المنطقية لا يدري المرء كيف يستقيم لحزب كالاتحادي الوقوف حيث تقف العصبة ذوي البأس، وكيف يلحق ذلك بالحديث همساً عن تحالف محتمل – ترهيباً وترغيباً - قوامه صفقة بائسة خلف الكواليس.. أليست العصبة نفسها هي من أهان زعيم الحزب بسجنه لأول مرة في حياته؟ أليست هي ذاتها من صادر ممتلكاته الخاصة لأول مرة في تاريخه؟ ألم يردد ناعقها بذاءات وصفت الزعيم المبجل بأبشع النعوت وأسوأ الألفاظ؟!
في التقدير أن السيد الميرغني الذي جُبل على معالجة أمور الحزب بالكتمان، لم يكن حريصاً على لعب دور مباشر في الحياة السياسية السودانية، وهو ما حدث بعد النقلة التي احدثتها في حياته اتفاقية 1988 والتي سميت باسم اتفاقية السلام حينا واتفاقية الميرغني قرنق حينا آخراً. ومنذاك الوقت كلنا يلاحظ أن السيد الميرغني استعذب الظهور العلني، لكنه في الوقت نفسه لا يود أن يدفع ضريبته طالما تجييء خصماً على قداسته الطائفية. فلا غروَّ أن خروجه من السودان لأول مرة وضعه أمام امتحان قاسٍ بين هذا وذاك، وعندما إلتأم شمل القوى السياسية في مؤتمر اسمرا 1995 اصبحت الامتحانات إبتلاءات بلغة العصبة، فلم يكن ثمة مناص من ترؤسه الكيان المعارض رغم أنه تمنَّع للدرجة التي حدت ببعض ناشطي الحزب طلب وساطة الراحل دكتور جون قرنق ليقنعه، وصادف فعلاً أن قرنق كان يرغب في ذلك لشيء في نفسه.. افصحت عنه الأيام فيما بعد. وتمثل ذلك في منح النشاط السياسي والعسكري الذي بدا يتخلق بُعداً سريالياً، لا يعرفه سوى الراسخون في معرفة سايكولوجية الشعب السوداني. ولكن المفارقة إنها ذات الأسباب التي جعلت الميرغني نفسه يظهر بمظهر الزاهد في رئاسة جاءته تجرجر أذيالها! كما أنها ذات الاسباب التي جعلته يضاد افعال الكيان (التجمع الوطني) بعد إنطلاق المسيرة حتى تقزَّم، وعوضاً عن إقتلاع النظام الآبق من جذوره كما صدح ذات يوم، قرَّبه ذات النظام ووطد جذوره في تربة الميرغني.. ورواها بقسمة ضيزى!
نعم.. السياسة وحدها بكل دروبها الزلقة ومطباتها الفظيعة هي التي جعلت الميرغني يقف متردد دوماً في المنطقة الرمادية. لأنها يومذاك إختلطت بأبغض الحلال وهو النشاط العسكري الذي اتخذ من الجبهة الشرقية متكأً، ولأنها المنطقة التي عُرفت بمثابة السلسلة الفقرية في الحزب التليد، لم يكن ثمة مجال للمناورة ولهذا لم يجد سيادته حرجاً في نفسه من أن يصدر بيانات من حين لآخر يتبرأ فيها من أفعال الكيان الذي يرأسه، ذلك حدث يوم أن غزا جند التجمع الوطني بلدة همشكوريب أو (مزار شريف) كما يحلو له أن يسميها لخاصته. وذلك حدث يوم أن تمددت العمليات على طول الجبهة في العام 1997 حتى قال البعض أنه بات يرى الخرطوم بأم عينيه. بل حتى في دروب السياسة نفسها فكم من مرة إبتُلى السيد الميرغني بنقصٍ في المواقف والقضايا.. ذلك حدث يوم قصفت صواريخ (توماهوك) الأمريكية مصنع الشفاء فإنقسم الجمعان بين مؤيد ومعارض، وذلك حدث يوم أن انتبذ البعض مكاناً طرفياً في جنيف وجيبوتي وكمبالا، وذلك حدث يوم أن غلَّ سيادته يده اليسرى محرماً الدعم المالي الأمريكي، وبسط اليد اليمنى لتحصى منه ما تقدم وما تأخر. ولأسباب لن يسأل عنها أحد سوى المولى تبارك وتعالى يوم أن تدك الجبال دكاً.. لا يعرف الناس لماذا كان السيد الميرغني يصر طيلة سنوات المعارضة في الخارج على وضع بند مصادرة املاكه الخاصة كمادة ثابته في كل البيانات الختامية، مع أن بعض الذين كانوا يزينون بها تلك البيانات، لو بحثت يومئذ في جيوبهم لوجدت العنكبوت قد شاد فيها بيوتاً من حجارة صلدة.
نعم.. إنها السياسة التي حدت بالسيد الميرغني أن ينهى عن خلق ويأتي بمثله في آن معاً. لم يسع لاستثمار موقع رئاسته للتجمع الوطني لتأسيس كاريزما قيادية تضعه في مصاف قادة خلدهم التاريخ الانساني. لقد كبلته القداسة وفرضت عليه ألا يعقد اكثر من ثلاثة مؤتمرات صحافية طيلة عشر سنوات استبقى فيها نفسه في رئاسة الكيان المعارض. لقد كبلته القداسة وجعلته لا يُجرى أكثر من خمسة حوارات صحافية لنفس الفترة وكلها معدة سلفاً. لقد كبلته القداسة فلم يزر بلداً افريقياً عدا كينيا ويوغندا واثيوبيا زيارات يتيمة، وحصر تحركاته بين القاهرة وطرابلس وجدة واسمرا، بمثلما اكتفى من عواصم الدنيا بلندن وواشنطن رغم حصاد الهشيم الذي ادمى القلوب فيهما. القداسة وحدها هي التي فرضت عليه أن يلوذ بالمرض أو الاحتماء بمدينة مصوع الساحلية كلما حمى وطيس القضايا التي تتطلب اتخاذ موقفاً واضحاً في اروقة اجتماعات هيئة قيادة التجمع الوطني. ومن اجل كل هذا عندما دخلت تجربة التجمع بكل نجاحاتها وإخفاقاتها دائرة الموت السريري لم يشعر به أحد، ولكن يخشى الحادبون من مصير مماثل للحزب الاتحادي بعد أن اصبح عبئاً على القضية السودانية، ولن يشفع له أن فيه أناساً يسدون عين الشمس عطاءً!
فيا مولاي، نخاطبك بلغة السياسة - مع كامل الاحترام والتقدير - وإن ذبحت قداسة سيادتكم. لأنه لا مجال يومئذ من الوقوف في أي منطقة رمادية. لقد تلاشت الألوان ولم يبق سوى الأبيض والأسود.. فإما أن تعتدل أو تعتزل!!



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن