نظرية الانفجار العظيم بين العلم و الدين والفلسفة

حسين شبّر
h.shubber@gmail.com

2009 / 9 / 10

اذا سلمنا بنظرية الانفجار العظيم التي نادى بها الفيزيائيون على انها حقيقة واقعة لا محال، واذا سلمنا كذلك بأن النظريات تاتي دائما لتفسير ظواهر واقعية مرتبطة بحقائق واقعية فإننا نقع بإشكالات معرفية على مختلف المستويات , فنظرية تشكل الكون تظل في سياقها الطبيعي نظرية تضع تصورا يبدو مقبولا الى غاية هذه اللحظة عند علماء الفلك ، هذة النظرية لا تقف عند حدود وجود وتشكل الكون كمفهوم نظري وإنما تعمد الى اسقاط مفاهيمها وتصوراتها على سياق معرفي يتعلق بوجود الانسان ذاته في هذا الكون ً , اما اصحاب نظرية الخلق المستمر كما يقول الفلاسفة الماديين و الوجوديين والوضعيون الجدد الذين يقولون بأن الكون ازلي فهم بلأساس وفي جدلهم ذاك اعتمدوا على منطق الفلسفة وتوجهاتها لديهم ,اما اصحاب نظرية الانفجار العظيم وهم على التحديد علماء نظريون فانهم يتقاطعون مع ان نظرية الكون الازلي ويعتقدون ان للكون بداية حتمية .
تقول هذه النظرية بشكل مختصر أن الكون كان مضغوطا بطريقة كبيرة وأن حجمه لا يزيد عن حجم قبضة اليد ، وكانت قوة الجاذبية بين أجزاءه مخيفة ، حيث وصل في لحظة ما الى عدم امكانية تحمل قوة الجاذبية هذه ثم انفجر بشكل عشوائي وعجيب . اذ مر بمراحل متعددة وكلها أجزاء لا تذكر من الثانية . ففي واحد على مليون جزء من الثانية الأولى بعد لحظة الانفجار تشكل السديم الكوني العملاق ، ثم تشكلت المجرات وأخذت وضعها الطبيعي قي نصف المدة السابقة ثم بدأت الحركة بين هذه الاجرام السماوية تحت ضعط الجاذبية تأخذ مجالها في استقرار الكون على الشاكلة التي نراها اليوم ، ولكن هذا الكون الذي اخذ يبرد تدريجيا لا يزال في حالة توسع دائم وبسرعة تقترب من سرعة الضوء .
ان الوصول الى هذة النظرية تم كما يقول الفيزيائيون من خلال الضوء المنبعث من المجرات والنجوم وتحليل هذا الضوء الى الطيف الضوئي المتدرج من الاحمرالى الازرق, وبما ان اللون هو الذي يحدد بعد الاشياء عنا, فإذا كان اللون ازرقا فأنة يعني ان المجرة تقترب منا، واذا كان اللون يميل الى الاحمر فإن المجرات أو النجوم تتباعد عنا . ولهذا وجدوا بعد الرصد ان الاجسام الكونية تميل الى اللون الأحمر هذا يعني انها في حالة تباعد عنا، وبدون ان يحدث تغيرفي حجمها بسبب هذا التباعد. ولكن لم يقل لنا علماء الفلك من أين جاءت تلك القبضة الأولى وفي أي وسط كانت موجودة وعلى أية شاكلة ؟. ومن أوجدها ولماذا أوجدها؟ . واذا كان ذلك الوسط عدما فالعدم لا يتحدد الا في مقابل الوجود، اذ هو جز من الوجود . وقد انعدم في تلك القبضة الزمان والمكان . ثم اين يتوسع هذا الكون . هل يتوسع في العدم مرة أخرى ،؟ ثم هل يصل الكون بعد توسعه ذلك الى حالة قصوى يتوقف فيها عن التوسع ؟ وهنا كما تقول النظرية ينفجر الكون مرة أخرى ولكنه انفجار الموت المرعب ، حيث تبدأ الجاذبية تزداد بين أجزاءه وتبدأ الثقوب السوداء بالتضخم المخيف، فتبلع مجرات بكاملها حتى يعود الكون كما بدأ مرة أخرى ، ثم تتكرر مسألة الخلق من جديد . ..............
كيف نموضع هذه النظرية في اطارها الفلسفي من جهة، ومن جهة اخرى في اطارها الديني . اي كيف راحت العلوم هذه تغير مفهومنا عن الكون أو الوجود الكوني .ذلك أنه قبل هذا الكشف المعرفي كانت العلوم تركز على نظريات ثلاث في اصل الكون ،الأولى: هي اللادرية بمعنى عدم المعرفة كيف أنبثق هذا الكون ومن أي شيء تكون والى أين ينتهي . بطبيعة الحال هنا كانت ثمة مفارقات كبيرة تشكلت في الرؤية وطبيعة المنهج الاستدلالي، ولذلك ظلت الأفكار هنا أسيرة هذا النمط التصوري عند الفكر في طور انبثاقه . اي نرجع في الوراء الى الفكر الوحشي في سياقه السفسطائي الاغريقي اي ما قبل تثبيت القواعد الفلسفية بشكلها المنطقي والصوري، ومن ثم القيمي . أما الثانية: فكانت تركز على أزلية الكون أي أن الكون لا بداية له وبالتالي لا نهاية له وهذه النظرية ظلت الى وقت قريب هي الي تطبع كافة المدارس الفلسفية بطابعها وتلوي اعناق الحقائق وترتب النتائج على ذلك ، بطبيعة الحال يمكن أن نرحل في هذا السياق رحلة طويلة ولكننا لسنا معنين بهذا الطرح هنا ،لأن لأشكالية كبيرة منذ الأغريق مرورا بكافة المدارس الفلسفية اللاحقة حتى بداية ظهور هذه النظرية . أما الثالثة: فكانت تركز على نظرية الخلق المعروفة، أي ان هذا الوجود كانت له بدايه بارادة من الله الذي هو الخالق الذي شاء لهذا الكون ان يظهر او ان يوجد على الشاكلة التي ارادها وللغاية التي يرتئيها، وهنا بطبيعة الحال ايضا يمكن أن نموضع كافة الفلاسفة الأغريق في هذا الاطار اي الذين قالوا بنظرية الخلق الممكن من الخالق الذي يتصف بصفات الارادة والمشيئة، والقدرة، والعلم، على اختلاف في طريقة التناول بين فيلسوف وآخر. وهذه قضية ليس هنا مجال بحثها ، اضافة الى ذلك يمكن ان نضع التصور الديني في هذا النسق أ ي نسق الخلق ، اذن هذه النظريات الثلاث هي التي كانت سائدة قبل اكتشاف نظرية الأنفجار العظيم .
ما يهمنا هنا هو أن الفلسفة الحديثة بمناهجها المتعددة لم تعر هذه النظرية أدنى اهتمام يذكر ، ذلك أن هذه النظرية تحمل طابعا اشكاليا في عملية التثبت القصوى مما يوقع هذه النظرية في اطار تصورات العلم وليس حقائق العلم . ونحن نعلم كذلك أن الفلسفة الحديثة قد تجاوزت مقولات الفلسفة القديمة وتقاطعت معها في كل مقولاتها، اذ لم يبق من هذه الفلسفة القديمة إلا صورة باهتة لا تصلح لمعالجة مشاكل العصر الراهن . قد نقول أن العديد من المدارس الفلسفية الآن قد تأثرت بشكل كبير بالنظريات الفيزيائية العلمية الحديثةـ وصاغت مقولاتها بناء على نتائج هذا العلم الذي يخضع للتجربة العلمية الخالصة وخرجت من هذه المزاوجة مقولات غاية في الأهمية راحت تغير الكثير من وجهات النظر عن الوجود بشكله العام والخاص . نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر نظرية الكم، أي ان الضؤ يسير بشكل كميات فهو يحمل خاصيتين خاصية المادة، وخاصية الطاقة ، وخاصيتة المادية لا يمكن أن تفنى بقانون أن المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم ، ومن هنا وتحت ظروف غاية في التعقيد يمكن اعادة تشكيل النجوم والمجرات التي تفقد مقومات وجودها أو تنفجر، فهي بناء على ذلك لا يمكن أن تفنى بالمعنى العام والخاص لهذا المفهوم. إذن الكون بالنهاية وبناء على هذه النظرية يتصف بالأزلية المطلقة وتتلاشى فكرة الخلق تماما من هذا السياق . هناك نظرية البعد الثالث في الزمان ، تداخل الزمان بالمكان ، هذه النظرية غيرت مفهوم الزمان المطلق والزمان الوجودي وغيرت مفهوم المكان بمعناه العام والخاص وصبح الحديث هنا عن الزمان النسبي والمكان النسبي . هناك ايضا نظرية الطاقة وعلاقتها بالمادة والسرعة وهي نظرية مهمة لأنها قلبت مفهوم الانفصال بين االمستويات الثلاث رأسا على عقب . الى غير ذلك من النظريات المهمة التي يطول تتبعها وشرحها في هذه العجاله .

ما يهمنا هنا هو موقف الدين من قضية الانفجار العظيم فقد هللت الاديان الثلاث الكبرى الى هذا الكشف المهم واعتبرت ذلك دليلا لا يقبل الدحض على فكرتها عن خلق الكون لكن مع الفارق بين اهمية التناول او تعميق هذه الفكرة بين الاديان تلك ،
فاما الدين اليهودي فتصوره يرجع الى فكرة انبثاق الكون من تلك الارادة السارية في فكر الله المسبق لذا نبثق الوجود على هذه الشاكله ولم يتحدث الفكر اللاهوتي اليهودي ابدا عن فكرة العدم ذلك أن فكرة العدم والوجود كما صاغتها الفلسفة الأفلاطونية المحدثة لم يستطع كتبة اللاهوت في ذلك الوقت تقبلها او هضمها على نحو عميق وهي الفكرة الي سادت مع مدرسة الاسكندرية في وقت متقدم جدا . اما في الجانب المسيحي فهي لم تعرف نظرية الخلق في جدلها المهم الا في وقت متأخر اي مع ضهور الفلاسفة المسيحيين من امثال اغسطونيوس وتوما الاكويني ومارسياحابي وغيرهم .
اما في الجانب الاسلامي فقد أخذت هذه النظرية ابعادا كبيرة وغاية في الاهمية حيث صدرت العديد من الكتب والابحاث، وخصصت الكثير من الندوات والملتقيات الدينية الي راحت تبشر بفتح عظيم وكشف خطير وصل اليه العلم اخيرا في اثبات صحت ما اخبر عنه القرآن قبل اربعة عشر قرنا من الزمان، مما يدل دلالة قاطعة على صدق وصحة الرسالة الاسلامية . وقد استشهدوا بالعديد من آيات القرآن التي راحوا يسقطون عليها آراءهم وطريقتهم بالفهم والتفكير :
( أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ) الانبياء 30
وهذا برأيهم دليل على الانفجار العظيم، أي أن السماوات والارض كانتا مطويات طيا على شكل كرة فحدث هذا الانفجار الذي فصل الأرض عن السماوات، وهنا يمكن أن نثير العديد من الاسئلة عن معنى السماء ، وعن الأرض في مقابل السماء ونحن نعلم أن الأرض تكاد تنعدم اذا ما قيست فقط مع مجرة درب التبانة التي تنتمي اليها المجموعة الشمسية . ثم السؤال الكبير عن مفهوم الرتق والفتق اذا هو لا يعطي هذا المعنى في قوامييس اللغة ، ثم عن السياق الذي تموضع به نص الآية ... الى غير ذلك .
( والسماء ذات الحبك ) الذاريات 47
وهنا جال علماء الاسلام في زويا الكون البعيدة والقريبة واطلعوا على خارطة الكون المشكلة على غرار النسيج المتشابك، والمعقد المتداخل والمتراكب ، ثم استدركوا بأن هذا الانفجار لم يحدث عشوائيا لأنه لو حدث بهذا الشكل لكان مدمرا ولا يمكن أن ينتج هذا النظام الرائع والتوازن الكامل. وانه لا بد أن يحدث عن ارادة واعية ولغاية مقصودة تماما . وتناسوا تماما فكرة الجاذبية وقوة الطرد المركزي اللتان تحددان طبيعة العلاقة بين الاجرام السماوية .
( والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون )
وهذا الآية تدل على تمدد الكون المستمر الى ما لا نهاية وأنه بدأ من نقطة معينه تماما ثم أخذ بالتمدد والاتساع .
هذه جملة من الآيات التي جاءت في القرآن اخذناها على سبيل المثال ولنلاحظ كذلك مدى الاهتمام البالغ الذي اولاه علماء التفسير الحديث هنا . فيما يسمى بنظرية الاعجاز العلمي في القرآن . لقد وقع أصحاب نظرية الاعجاز هذه باخطاء كبيره وخطيرة وهم يحاولون تأكيد أن هذا القرآن اشار الى العديد من الآيات الكونية التي لم يكشف عنها العلم إلا في وقت متأخر من القرن الماضي، وبالتالي فإن بين دفتيه دليل صدقه وصحته وصدق النبوة فمن أين للرسول محمد هذه المعرفة بحقائق العلم الحديث لو لم يكن رسولا مبلغا من الله .
إن المشكلة تكمن في تورطات بالغة في الرد على مسألة الاعجاز العلمي هذه وعلى النحو التالي :

ـ أن القرآن هو كتاب منهج وطريقة حياة للبشر. وليس كتاب في الفيزياء أو الكمياء ، وهذا لا يمنع تماما مشكلة الاشارة من قريب أو بعيد الى حقائق العلم الحديث ولكن بمفهوم مختلف تماما .
ـ يجب التدبر في التفسير الكلاسيكي للقرآن و خاصة في الجانب اللغوي والمعرفي المفهومي لهذه الآيات التي أشارت الى حقائق العلم في العصر الحديث فستجد أن طريقة الفهم في هذين الجانبين مختلفة تماما كذلك.
ـ لا تعتبر الحقيقة القرآنية حقيقة قرآنية، إلا اذا انقطع سبيل الفهم بكل مستوياته اليها . ونحن نعلم أن القرآن لم تستقر فيه معرفيا الا الأحكام والجزء الكبير منه يخضع لعلم الفهم والتفسير والدلالة وتطور المعاني وعلم اللغة، اذن هو يمر بمرحلة تطور كما قال علي بن ابي طالب ( القرآن حمال أوجه ) (والقرآن لا ينطق وإنما ينطق به رجال ) . (والقرآن لا تنقطع عجائبه ) .
ـ لا تعتبر الحقيقة العلمية حقيقة علمية إلا اذا نقطعت الآفهام اليها بشكل مطلق وهذا امر واقع ا. اذ تظل الحقيقة العلمية . وما يرتبط بها يخضع لها ، فالعلم لا يقف عند شيئ ولا ينتهي الى حدود، فهو في تطور مستمر ، فما هو حقيقة بالنسبة له اليوم قد لا يعتبر كذلك في المستقبل .
وهنا يمكن القول ان نظرية الانفجار العظيم التي راح يهلل لها اصحاب الاعجاز العلمي. في تأكيد رأيهم في خلق الكون على هذه الشاكلة ليست بمنأى عن النقد العلمي ذاته والنقد الفكري العقلي . لنا أن نقول في النهاية أن مسألة خلق الكون وانبثاقه من العدم هي مسألة لا تقع تحت مفاهييم العلم بشكل نهائي و بشكل مطلق وان التصورات الفلسفية الايمانية ظلت تقدم صورة اقرب بكثير للتصور الذهني وليس المنطقي الجدلي . وان كانت ولا تزال تخضع للنقد بتجاهاته المختلفة .





https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن