بين مصر وإيران، بين صراعات القصر ومواجهات الشارع

سامر سليمان

2009 / 6 / 27

لا يملك المصري الديمقراطي إلا أن يشعر بالحسد أمام ما يراه يومياً من صور ولقطات إيرانية تبين مدى حيوية السياسية في هذا البلد العريق. مؤشر واحد يكفي لكي يلخص الفارق بين الانتخابات الإيرانية والمصرية. في إيران ذهب حوالي 80 % من الناخبين للتصويت في الانتخابات الأخيرة، وفي مصر ذهب حوالي 20% فقط في انتخابات 2005. لكن مشاعر الحسد لا يجب أن تعطل إعمال العقل. من السهل أن نرمي الشعب المصري بالسلبية بالمقارنة بالشعب الإيراني، ولكن هذا لن يُغني شيئا،ً لأن السؤال الذي سينطرح بالضرورة هو لماذا هذه السلبية؟ ألم يصل معدل التصويت في انتخابات 1951 – وهي أخر انتخابات تجرى قبل انقلاب يوليو العسكري – إلى 60%؟ دعونا ننصف المصريين ونقول أن مشاركتهم المحدودة في الانتخابات منذ 1952 تعكس التأثير المحدود الذي تمارسه الانتخابات على السياسة المصرية، بعكس الانتخابات في إيران. في الانتخابات البرلمانية المصرية الأخيرة صوت حوالي 8 مليون مصري فقط طبقاً للأرقام الرسمية. كان لكاتب هذه السطور حظ دراسة تلك الانتخابات والتعرف على بعض ملامح الناخب المصري. هو غالباً ناخب فقير في المال وفي الشهادات الدراسية. لماذا لا يقبل إلا هؤلاء على التصويت في مصر؟ لأن مثل هؤلاء هم من يحتاجون الانتخابات. ماذا تعطي الانتخابات للمصريين؟ هي لا تمنحهم تغييراً في الحكومات أو في السياسات. معظم الناخبين هنا يصوتون مقابل عطايا، سواء اتخذت شكل مدفوعات نقدية مباشرة أو خدمات. لا مشكلة في أن يصوت الناخب على أساس المصلحة المادية. فالشعوب تشارك في الانتخابات أولاً وقبل كل شيء من أجل حياة يومية أفضل.. وظائف أكثر، دخول أعلى، أسعار أقل، تعليم أفضل، شوارع أجمل، الخ. لكن في البلاد التي تحكمها الديمقراطية الناس تصوت لحياة أفضل من خلال تغليب برامج على برامج وأحزاب على أحزاب. لكن في البلاد التي يحكمها الاستبداد الناس لا تصوت من أجل تغيير السياسات ولكن من أجل الحصول على العطايا. بعبارة أخرى، الشعوب كلها تذهب للصناديق أساساً من أجل الاقتصاد. الفارق بين الشعوب التي تنعم بالديمقراطية وتلك التي يحكمها الاستبداد هو أن الشعوب الأولي تصوت لتقرير مصير الاقتصاد ولكن الشعوب الثانية تشارك فقط للحصول على كعكة في "مولد" الانتخابات. لهذا يكون التصويت ضعيفاً في ظل انتخابات النظم السلطوية ويتركز بالذات في أوساط الفقراء والمحرومين.

لماذا صوت الشعب الإيراني إذا بكثافة بالرغم من سلطوية نظامه السياسي؟ يقوم نظام الحكم هناك على ولاية الفقيه. فأقوى رجل (رجل بالضرورة) في إيران هو على خامينئي مرشد الجمهورية، وهو غير منتخب من الشعب، ويستمد سلطته من رتبته الدينية. الدولة في إيران دينية، والدولة الدينية بالضرورة سلطوية. فالديمقراطية لا يمكن أن تقوم أبداً إلا على حداً أدنى من العلمانية يحد من تسلط رجال الدين على المجال السياسي. أنظروا إلى الخريطة السياسية في العالم.. لن تجدوا نظاماً ديمقراطياً واحداً لا يقوم على العلمانية السياسية. بالإضافة إلى ذلك، الديمقراطية ليست فقط انتخابات حرة نزيهة. فلو سلمنا بنزاهة انتخابات إيران لن يكون ذلك دليلاً على ديمقراطية النظام السياسي إذا كانت المجموعة الحاكمة هي من تقرر من له حق خوض الانتخابات وإذا كانت الناس لا تتمتع بحرية الرأي والتعبير والتنظيم. الديمقراطية بالتعريف هي حرية الناس في الاختيار. كيف يختار الإنسان بحرية في صندوق الانتخاب إذا كانت البدائل المتاحة له قليلة وتحت السيطرة وإذا لم تتح له الفرصة لكي ينتظم في جماعة سياسية بحرية؟ التصويت الإيراني الكثيف في الانتخابات يكشف عن نظام سلطوي فريد يختلف عن تلك السلطوية التي عرفناها وخبرناها في مصر وهو قادر على إقامة مهرجانات انتخابية حية.

في مصر السلطوية مركزية، تتمحور حول القصر الجمهوري في مصر الجديدة. أما في إيران، وخاصة بعد وفاة أية الله الخميني، السلطوية لها مراكز متعددة. هناك على الأقل ثلاث حكومات في إيران.. حكومة خامنئي مرشد الجمهورية، وحكومة نجاد رئيس الجمهورية، وحكومة رافسنجاني رئيس مصلحة تشخيص النظام. إيران هي أحد الدول النادرة في العالم التي تمتلك جيشين.. جيشاً نظامياً والحرس الثوري، ونظامين قضائيين، عادي وثوري، وستة مجالس تشريعية. مركزية النظام السياسي في مصر لا تعني أن المجموعة الحاكمة موحدة، لا تخترقها انقسامات. الفارق الأساسي بين مصر وإيران هو أن أجنحة النظام في إيران لها امتدادات عميقة داخل المجتمع وهي تخوض صراعاتها ضد بعضها البعض بواسطة تعبئة وتحريك فئات وجماعات، وهو الأمر الذي رأيناه بأعيننا في الشارع الإيراني طوال الأسابيع الماضية. أما في مصر فالنظام السياسي لا يمتلك جذوراً عميقة، لذلك تقتصر صراعات أجنحة المجموعة الحاكمة على مؤامرات القصر.. مجموعات تأكل في بعضها دون أن تستدعي أية قوى من خارجها. يقتصر دور المجتمع هنا على النميمة والثرثرة على فتات المعلومات التي تتسرب من داخل القصر. ومن المرجح أن القانون العرفي في الخصومة بين أجنحة النظام في مصر كان ألا يلجأ أحد للشارع أو للشعب، لأن في اللجوء إليهما مخاطرة على بقاء النظام كله. التضامن الشديد في مصر بين أجنحة النظام لا يرجع فقط إلى اتفاق "جنتلمان" بينها وإنما يعود أيضاً لحقيقة أن القطب الأمني/العسكري في مصر لم يظهر له منافس مستقل مادياً وله جذور اجتماعية قادر على تحريكها. هناك محاولات لخلق قطب قوي داخل الحزب الوطني بالاعتماد على رجال الأعمال القريبين من ابن الرئيس. لكن من المبكر الحكم على هذه المحاولات الآن.

لا يمكن فهم الصراع السياسي المستعر في إيران الآن بدون الكشف عن "الدورة الدموية المالية" للنظام الإيراني. المال هو الطاقة المحركة للانتخابات في النظام السلطوية. فعلى سبيل المثال لا يمكن فهم ملايين الأصوات التي ذهبت للرئيس نجاد إلا من خلال التعرض لدور مؤسسة هامة هي "لجنة الإمام للصدقات". لا يجب أن ينخدع القارئ الكريم بأن اسمها "لجنة"، فهي في الحقيقة إمبراطورية اقتصادية عملاقة تمتلك ألاف صناديق النذور المنتشرة في كل ركن من إيران، كما تحتل المرتبة الرابعة في التمويل من بين مؤسسات الدولة بعد وزارة الدفاع، والشرطة والحرس الجمهوري. بل أن ما تحصل عليه من أموال الدولة يفوق الميزانيات المجتمعة للمجلس التشريعي ولوزارات العدل والخارجية والثقافة والإرشاد. هذه اللجنة هي في الحقيقة دولة داخل الدولة. وهي بالرغم من حصولها على كل هذه الأموال العامة إلا أنها لا تخضع للإشراف الحكومي. هذه اللجنة هي أحد الخزائن المالية للجناح المحافظ في الحكم التي بواسطتها استطاع أن يحرك ملايين الأصوات لصالح نجاد. وما يسرى على نجاد ينطبق أيضاً على موسوي وإن كان بدرجة أقل.

إن فهم وتحليل الصراع السياسي الإيراني الذي يتخذ من الانتخابات والشارع ساحة أساسية له ومقارنته بالصراع السياسي المصري الذي يحتمي بأسوار القصور لا يستقيم بدون بناء هذا التحليل على أرضية الاقتصاد السياسي لكلا البلدين. يكفي أن نورد رقمين كافيين لتلخيص الفارق العظيم بين إيران ومصر. بلغت إيرادات النفط الإيراني في العام الماضي حوالي 70 مليار دولار بينما لم تصل في مصر إلا إلى 15 مليار فقط. فإذا أضفنا إلى تلك الإيرادات عائدات قناة السويس التي وصلت إلى حوالي 5 مليار دولار يكون النظام المصري قد حصل على إيرادات ريعية (هبات من السماء) تبلغ حوالي 20 مليار دولار، أي ربع الإيرادات الريعية التي حصل عليها النظام الإيراني بأجنحته المتصارعة. فهل لنا أن نندهش من أن نسبة المصوتين في انتخابات مصر لا تتخطى ربع تلك النسبة في إيران؟ فتشوا عن المال. إنه عصب الانتخابات في النظم السياسية السلطوية!



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن