على هامش إنعقاد المؤتمر الخامس لإتحاد الجمعيات المندائية في المهجر ، دور المثقف المندائي في المرحلة الحالية ( 2 )

فائز الحيدر
f_alhaider10@yahoo.com

2009 / 6 / 27

لقد استعرضنا في الحلقة الأولى ما هو دور المثقف المندائي في المرحلة الحالية ، وهل توجد هناك ثقافة مندائية خاصة ؟ وهل تنطبق التعاريف الخاصة بالثقافـة على الثقافة المندائية بالذات ؟ وما هي سمات الشخص لكي يكون مثقفا" وتوصلنا في نهاية الأمر الى أن هناك ثقافة خاصة بالمندائيين هي تراكمات لأجيال متعاقبة من الثقافة الروحية والأنسانية ساهمت في رفد الحضارة الأنسانية بالعلوم والأدب والطب وغيرها . كما إن هناك المئات من المثقفين المندائيين قد ساهموا برفع المستوى الحضاري للأنسانية في كافة المجالات في الماضي والحاظر . وفي هذه الحلقـة نـود أن نستعرض دور الثقافة المندائيـة والمثقف المندائـي في المرحلة الحاليـة وهل أدى المثقفـون المندائيـون واجبهم تجاه ما يعانيه أبناء شعبهم بشكل عام والطائفة المندائيـة بشكل خاص في هذا الوقت بالذات .

يتفق الباحثون بأن المندائيين هم من الأصول الآرامية بأعتبار إن لغتهم المندائية هي إحدى لهجات اللغة الآرامية الشرقية القديمة . وان ديانتهم تمتد بقدمها لألاف السنين في التأريخ ، وأنه نشأ وترعرع في ربوع بلاد الشام ، ثم نزح حاملي هذه الديانة الى مصر والعراق بسبب الأضطهاد الذي لحق بهم طيلة عقود من السـنين .
ولكن ما يثير الحزن في نفوس أبناء الطائفة المندائية هو الغموض الذي يلف تأريخهم بالرغم من قدم ديانتهم ، حيث لم يترك لنا أسلافنا غير بعض الشواهد في أماكن أنتشارهم في العراق وخاصة في وسطه وجنوبه وكتبوا بعض نصوص معتقداتهم الدينية في صورة كتب ولفائف مخطوطة وبعضها نقش على صفائح الرصاص ورقائق الجلود التي لم تسلم من التلف ، ولذلك فهم يشعرون اليوم قبل غيرهم بنقص الكثير من المعرفة التي يحتاجونها عن تأريخهم بسبب تقصير واضح في تلك الفترة الزمنية وبسبب الظروف الصعبة وحجم الكوارث التي مرت عليهم التي ادت الى فقدان الكثير من النصوص في تلك المخطوطات وبذلك شوهت الكثير من التعاليم اليدنية .

وأعتمد المندائيون بعض الشئ على ما كتبه المؤرخون العرب أمثال البغدادي ، أبن النديم ، البيروني ، الشهرستاني والقفطي والحسني وغيرهم عن ديانتهم وطقوسهم وهو خليط من الأحاديث المتداولة والمشوهة غير المستندة الى الواقع والدقة حيث لعبت عوامل عديدة في إضفاء هذا التشوه والتعقيد ولعدم توفر المصادر المندائية الموثوقة ، كما ولم يجدوا من يردهم من رجال الدين أو المثقفين المندائيين في حينها لتبيان الحقيقة .
ومن جانب آخر جذبت هذه الطائفة الباحثين والمؤرخين والرحالة الأوربين منذ منتصف القرن السادس عشر الميلادي حيث بدأت محاولات الترجمة من قبل ( أكناسيوس ) الذي ترجم ديوان أباثر ثم ( أبراهام الأيطالي ) الذي ترجم ( دراشة اد يهيا ، وأسفر ملواشة ) . أما ما كتبه المؤرخون أمثال الليدي دراور وكورت رودلف وليدزبارسكي وغيرهم الكثيرين فلا زال لحد الأن موضع نقاش وخلاف في الكثير من النقاط ولكن لا يمكن أنكار بأنهم قدموا للطائفة ما لا يمكنها تحقيقه لسنوات طويلة وتعتبر كتبهم وأبحاثهم المصادر الوحيدة والمعتمدة على الأقل لحد الأن .

ويبن التأريخ إن المندائيين قد لعبوا دورا" بارزا" في الحياة الروحية والثقافية في بلاد الشام وبلاد الرافدين قبل الديانة المسيحية وحتى ظهور الأسلام ، وكان لهم دورا" كبيرا" في أزدهار الحياة الفكرية والأجتماعية في العهد العباسي ودور خاص في نقل الفلسفة اليونانية الى العربية مثل العلوم الرياضية والفلكية والطب والأدب ، مما ساعد في تقربهم من الخلفاء العباسيين في ذلك الوقت . ولكن مع سقوط الدولة العباسية تعرض المندائيون الى الأضطهاد والقتل الجماعي لرجال الدين والأكراه بتحويل دينهم الى الدين الأسلامي ومنعهم من التحدث بلغتهم المندائية وزواج بناتهم الى المسلمين بالأكراه الأمر الذي أدى إلى إبتعاد المندائيون تدريجيا" عن المشاركة في الحياة العامة .

وبسبب هذه الظروف والأضطهاد لللأجيال المتعاقبة من قبل جبرانهم وأجبار الكثير منهم على دخول الأسلام ونتيجة لقتل الامئات من رجال الدين أضطر ما تبقى من المندائيين الى العزلة والأنكماش والانطواء على انفسهم في أماكن سكنهم في جنوب العراق ، ومالوا الى التقشف والبساطة والقناعة ولم يفكروا يوما" بأقامة كيان خاص لهم لكي يدافعوا عن أنفسهم وعلى هذا فلم يفكروا بكتابة تأريخهم للأجيال القادمة خوفا"، واقتصر تناول الكتب الدينية على رجال الدين فقط والذين أدركوا إن خير وسيلة للحفاظ على دينهم من الأنقراض هو توجههم نحو القضايا الروحية والاحتفاظ باسرار الدين والتحدث فيما بينهم بلغتهم المندائية بشكل سرى ، وعاشوا كأقلية دينية يغطيها الخوف والقتل والأضطهاد من جيرانهم في ظل مناطق يحكمها روؤساء عشائر مسلمين جهلة متعصبين دينيـا" وحكومات متوالية تجهل عن دينهم الكثير .

ورغم هذا الأضطهاد الذي أستمر طويلا" حافظت هـذه الطائفة على وجودها لأجيال عديدة بسبب الرابطة الروحية التي تجمعهم وأصبحت اليوم تزخر بمئات المثقفين وذوي الكفاءات الثقافية والعلمية التي غـذت مفاصل الحياة الرئيسية في العـراق من أبداعات رجالها ونساءها ، والذين أسهمـوا ببناء حضارة وادي الرافدين العريقة عبر تأريخه الطويل . كما إن هذه الطائفة رفدت الحركة السياسية الوطنية من خيرة مناضليها لما تفيض بالقدرات الفكرية المثقفة حيث لعب المثقفون المندئيون خصوصا" دوراً ريادياً في نشر الفكر التقدمي في المجتمع العراقي منذ نشوء الدولة العراقية الحديثة في بدايات العقد الثالث من القرن الماضي من خلال اشتراكهم في المعارك الفكرية والسياسية التي خاضها الشعب العراقي وحركته الوطنية طيلة عقود من السنين وقدموا العشرات من الشهداء ، كما رفدت المدارس والجامعات العراقية بخيرة كوادرها ، ولمعت بينهم أسماء من المبدعين كالعـلماء ، الأطبـاء ، المهنـدسين ، الشعـراء ، الكتاب ، الفنانين والمثقفين السياسين ، ولكن مع الأسف لم يعطي غالبية المندائييين طائفتهم جزءا" من هذا النشاط لأعتقادهم إن ما يصب في خدمة ومصلحة شعبهم ووطنهم هو خدمة لهم بالذات بأعتبارهم جزء أساسي من هذا الوطن الذين ساهموا ببناءه لأجيال عديدة .

لقد عانى المثقفون المندائيون كغيرهم من أبناء شعبهم صنوف البطش والحرمان والاضطهاد من الحكومات المتعاقبة ، وساهمت بأتباع سياسية الاحتواء لبعض المثقفين المندائيين عبر ربطهم بمؤسسات الدولة الثقافية والإعلامية وأعتماد سياسة الترهيب والإغراء مع المثقفين الأخرين الذين اتخذوا موقفاً مستقلاً . وظل بعضهم منعزلا" ، لاهثا" وراء النشر في الصحف والمجلات حتى تلك التي يصدرها النظام الدكتاتوري المنهار سعياً وراء أمتيازات أنانية خاصة إنعكست سلبيا" على عموم الطائفة .
وبعد سقوط الصنم ونظامه السياسي عام / 2003 تناسى البعض للأسف الشديد هؤلاء المندائيون ونضالهم المشترك والذين قدموا المئات من الضحايا قربانا" للوطن والشعب العراقي ، وكانوا مع جميع أطياف الشعب العراقي في خندق واحد ضد الدكتاتورية . إن هذه الطائفة العريقة تتعرض اليوم أكثر من أي وقت مضى وكأن التأريخ يعيد نفسه من جديد الى الخطف والأضطهاد والقتل والأبادة والتهجيرالقسري ، ونسمع ونقرأ يوميا" عن إنتهاكات خطيرة لحقوق الأنسان تنفذها أيادي قذرة من قوى الظلام والأسلام السياسي والعصابات المجرمة المرتبطة بمنظمات أرهابية وبجهات خارجية تعمل على تنفيذ أجندتها الخبيثة ، مما ادى الى هروب الآلاف من العوائل المندائية الى دول الأنتظار مثل سوريا والأردن واليمن ولبنان واندونوسيا وحتى الصين تاركين خلفهم بيوتهم وأملاكهم وأعمالهم ومدارسهم وكل مايملكون ويعيشون حاليا" في ظروف قاسية غير أنسانية ومستقبل مجهول ينتظرون عطف المنظمات الدولية وسفارات دول اللجوء . ولم تبادر الحكومة العراقية الحالية ومنظمات حقوق الأنسان ووزارة الهجرة والمهجرين حتي بالأتصال بهم والأسراع بـحل مشاكلهم والنظر في مظالمهم ومعالجة هـذه الكارثة الأنسانية التي يمرون بها .

وبعد كل هذه السرد التأريخي للمندائيين ودورهم والمآسي التي مروا ويمرون بها فإن السـؤال المطروح هل أدى المثقفين المندائييـن دورهم في هذه المرحلة بالذات ؟؟ وطائفتهم تتعرض للأبادة وبشكل منظم يومي وأمام العالم أجمع ؟؟ رغم ما يملكون من طاقات هائلة في إختصاصات مختلفة ، والجواب طبعا" لا !!!! رغم ما قام ويقوم به البعض منهم وبشكل محدود في أداء هذا الدور . إلا إن الكثير منهم لم يبادروا أو يساهموا حتى في أي نشاط ثقافي أو أعلامي معين يخدم طائفتهم ويعكس معاناتهم رغم قدرتهم على ذلك
وهناك البعض الآخر لا زال يقف متفرجا" ولا يجيد سوى لغة النقـد والبحث عن الماضي بسبب خلاف في الرأي أو لأمور شخصية أو عائلية أوعشائرية أحيانا" من قبل البعض حيث يعتقـد البعض انهم قد أدوا واجبهم وأصابهم الغبن في فترة ما وهم الأجدى في القيادة والأفضل والأكثر كفاءة من الأخرين ممن يبذلون جهود وتضحيات لخدمة الطائفة . فالمثقف المندائي مطالب في هذا الوقت أكثر من غيره في السمو على نزعاته الشخصية و الترفع على الخلافات الجانبية مع زملائه من المثقفين ليمارس دوره الطليعي في توعية الجماهير و الذود عن أهدافها في مقاومة الظلم و الأضطهاد وعدم المساومة على القيم و المبادئ التي يحملها .
إننا نعتقـد إن المثقف المنـدائي يواجـه في هذه الأيام دورا" إنسانيـا" كبيـرا" لكونه أكثـر قـدرة على التعبير عن قضايا طائفتـه والأكثـر وعيـاً وإنه يحمـل رسالـة خاصـة للدفاع عنها في أوقات الأزمات كما وهو المرآة التي تعكس هموم ومعانات الطائفة وثقافتها ، بكـونه صاحب موقف وصاحب رأي ويمكـن أن يؤثـر على مجموعـة كثيـرة من الناس ، وهذه الحالة نجدها منتشرة بين صفوف غالبية المثقفين في العديـد من دول العالم ولكن نراها ذات مستوى ضعيف في المجتمع المنـدائي مع الأسف بسبب عـدم وجود التنسيق ليكون الموقف بين المثقفين موحداً للتعريف بقضيتهم ومعاناتهم . ونعتقد هنا إن على المؤتمر الخامس لإتحاد الجمعيات المندائية أن يحدد واجبات المثقفين المندائيين وأهمية دورهم في هذا الظرف بالذات .

على المثقفين المندائيين اليوم أهمية الضغط على الحكومة العراقية الحالية بضرورية أقرار الحقوق الدستوريـة للطائفة المندائية ضمن الدستور العراقي الحالي بأعتبارهم أحدى مكونات الشعب العراقي الأساسية ، وتنسيق خطابهم الأعلامي المندائي الهادف من خلال التنسيق فيما بينهم عبر تشكيل هيئة أعلامية يساهم فيها المثقفين والباحثين والفنانين والمهتمين بالشأن المندائي ومن أصحاب الخبرة في الثقافة والأعلام والصحافة لتعريف المجتمع الدولي بالقضية المندائية والأطلاع على معاناتها والظروف اللأانسانية التي تمر بها في العراق ودول الأنتظار والمساعدة على تشكيل المجلس الروحاني للطائفة والتعاون مع كافة المنظمات المندائية لحل الأشكالات التي تواجه الطائفة في بلدان المهجر .

أننا نعتقد إن هذه النقاط وغيرها ذات أهمية بالنسبة للمندائيين في الوقت الحاضر ، كما إننا ندرك إن تحقيقها يحتاج الى تعاون كل المخلصين من أبناء الطائفة في المجالات المذكورة والأرتفاع الى مستوى المسؤولية التي يمرون بها حاليا" .

27 / حزيران / 2009





https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن