مآل الانتقال الديمقراطي بعد استيفاء ضروراته السياسية وانتفاء تمظهراته التوافقية

علي أوعسري
aouasri@yahoo.fr

2009 / 6 / 25

1- ملاحظات عامة حول مفهوم الانتقال الديمقراطي
لا يختلف اثنان في أن تناول مسألة الانتقال الديمقراطي، بالنقاش والتحليل، مرتبط بشكل عام بتحديد بعض المفاهيم النظرية الأساسية، باعتبارها مداخل ضرورية لرصد ملامح وتمظهرات هذه العملية السياسية التاريخية المعقدة التي من المفترض أنها ذات صيرورة ديمقراطية.... أيضا، ليس من السهل التصدي لمناقشة الانتقال الديمقراطي من دون استحضار سيرورات تجارب تاريخية أفضت إلى ديمقراطيات فعلية. فاستحضار مثل هذه التجارب كفيل بمساعدة كل مهتم في محاولته استجلاء تداعيات الانتقالات الديمقراطية على مستوى تطور المجتمعات البشرية وتشكيلاتها الاجتماعية من جهة، وكذا على مستوى صيرورة تشكل الكيانات السياسية-الوطنية لهذه المجتمعات من جهة أخرى؛ وهذا هو الأهم من كل انتقال ديمقراطي حقيقي.
قد يتمخض عن أي انتقال ديمقراطي فعلي، كما بينت العديد من التجارب التاريخية، إرساء الأسس المادية والسياسية لتشكل الدولة-الأمة، في أفق تحققها لاحقا كغاية عليا، باعتبارها تجسد ذلك الكيان الوطني الجامع في مرحلة متقدمة من مراحل تطور المجتمعات البشرية عبر التاريخ. هذا لا يعنى طبعا القفز على المراحل التاريخية برغبة ارادوية، وإنما القصد هنا أن يتمخض أي انتقال ديمقراطي فعلي عن سيرورة تاريخية مرحلية، في إطار من الدولة الوطنية الديمقراطية التي يفترض أن تكون هي هي إحدى الصيرورات المباشرة لأي انتقال ديمقراطي فعلي.
وإذا كان من الصعوبة بمكان الإحاطة بكل العناصر/العوامل التي من شأنها التأثير على صيرورات الانتقال الديمقراطي، وأيضا التأثر بهذا الانتقال، وفقا لعلاقة جدلية تعكس التمايزات العينية والشروط التاريخية لتطور كل مجتمع بشري، فإنه ينبغي في اعتقادنا ربط مسألة الانتقال الديمقراطي بالعوامل الأساسية المميزة لكل بنية اجتماعية تاريخية، أي تحديدا ربط هذا الانتقال بالمستويات الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية، لا بوصفها مستويات للتحليل والتوصيف ، بل باعتبارها مستويات تتشابك واقعيا وفي لحظات تاريخية في وحدة الأحداث الكبرى، أو قل في الانعطافات الكبرى.
إن التركيز على هذه المستويات الرئيسة لا يعني بتاتا إغفال ما يتفرع عنها من مستويات أخرى لا تقل أهمية عنها، من قبيل ما يتصل بالثقافي والديني والعرقي واللغوي والفلكلوري، الخ. فهذه المستويات الفرعية إنما تندرج، كعوامل مؤثرة وذات أهمية بالغة، ضمن ما يصطلح عليه في الأدبيات الماركسية الكلاسيكية ب "البنية الفوقية" التي تتشعب كذلك إلى مستويات أخرى ذات صلة بمفهوم الدولة، أي تحديدا ما يرتبط منها بالقانوني والدستوري والمؤسساتي. ثم إن علاقة كل هذه العوامل الفرعية، فيما بينها، وفي تفاعلها بالعوامل الرئيسة المشار إليها، إنما يجري في إطار علاقة جدلية معقدة حد تعقد جماع البني الاجتماعية في مرحلة تاريخية معينة.
غير أنه لا بد من تجاوز ذلك التصور الماركسي الكلاسيكي القائم على تحدد البنية الفوقية انطلاقا مما يجري داخل البنية التحتية، أي تحديدا تحدد السياسي والإيديولوجي انطلاقا من الاقتصادي حيث توجد علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج والتناقضات بينهما.
لذا نرى من الأهمية بمكان الاستعانة بالمفهوم الغرامشي لهذه العلاقة الجدلية المعقدة، وتحديدا في مفهومه الكتلة الإيديولوجية التي هي كتلة غير متناسقة، بحيث أنها تتألف من ثلاث مستويات: العنصر الأول وهو الفلسفة باعتبارها مستوى أعلى يتسم بنوع من التماسك والانسجام وهي تعبر عن رؤية الطبقات السائدة في ما ينبغي أن تكون عليه الفئات المسودة، العنصر الثاني هو الحس المشترك الذي يجسد مجموع الأفكار المشتركة كما تراها الفئات السائدة والتي تندرج وفق منظورها لما هو وطني، أما العنصر الثالث والسفلي، من الكتلة الإيديولوجية، فهو الفلكلور الذي يتسم بنوع من التبعثر وهو يحيل أيضا الى كل ما هو سيء من الماضي/التراث.
تعمل إذن الطبقات السائدة على نشر (والحفاظ على) مجموعة من الأفكار التراثية، بحسب ما يقتضيه تعدد الفلكلور وبحسب اختلاف مقاصدها وغاياتها؛ لكن يبقى الهدف دائما هو إبقاء الطبقات المسودة الشعبية مبعثرة في تبعثر فلكلورها، وبالتالي الحيلولة دون تنظيمها على قاعدة برنامج حد أدنى يسمح لها بخلق رؤية خاصة بها، أي الحيلولة دون المساس بذلك الحس المشترك وبالتالي الحيلولة دون تكون حس وطني تقدمي يطرح مسألة الديمقراطية، في عمقها، بما هي آليات وقواعد الحكم الذي يجب أن يستمد من هذا الجمهور الفلكلوري في حال تحقق أي انتقال ديمقراطي.
لذا فان أي حديث عن عملية الانتقال الديمقراطي سيبقى متسما بنوع من التعقيد الذي يتجاوز ذلك الفهم الميكانيكي المبسط الذي استعمل، أو قل الذي وظف، لردح من الزمن في الساحة السياسية الوطنية، والذي كان يستمد أسسه مما يسمى "التجارب المقارنة"، ويعتمد في جهازه المفهومي على ما يسمى " العدالة الانتقالية".
فحينما نتصدى لمناقشة الانتقال، فإنما نحاول، بذلك، رصد مجموع التغيرات الكيفية التي تحدث في البنى السياسية والاقتصادية والإيديولوجية في المجتمع والدولة. يحصل عادة أن تتكثف مجموعة من التغيرات الكيفية، بشكل مفاجئ في لحظات تاريخية معينة، فتتمخض عنها تحولات نوعية في جماع البنى الاجتماعية للمجتمع والدولة معا.
إلا أن مثل هذه التحولات النوعية لا بد وأن تنجم عن أحداث تاريخية كبرى، تتمفصل في وحدة تحققها، كل العوامل السياسية والإيديولوجية والاقتصادية، كما أن من شأن تحقق هكذا تحولات نوعية أن يعطي للانتقال دفعة قوية، مما يمكنه في آخر المطاف، من اكتساب مضمونه الديمقراطي الذي لا بد وأن ينعكس على مستوى الشروط المعيشية لكافة الفئات المجتمعية، وعلى مستوى تطلعاتها، بما يتيح لكافة مكونات المجتمع الاطمئنان إلى المستقبل المشترك في إطار من الدولة الديمقراطية الوطنية.
بدون الوصول إلى هذه اللحظة التاريخية الحاسمة التي تتيح الانتقال من وضع سابق على الديمقراطية إلى وضع جديد تسود فيه الديمقراطية، في كل أبعادها، أو قل للتحديد، الانتقال من بنية اجتماعية متأخرة إلى بنية حداثية، تسود فيها العقلانية (حتى نقول العلمانية) كقيمة وكآلية لتدبير كل التناقضات المجتمعية، الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية؛ فبدون تحقق ذلك، لا يمكننا الجزم أن مجتمعا ما أنجز انتقالا ديمقراطيا فعليا.
إن الانتقال الديمقراطي، في حالة تحققه، لا بد له أن يمس المنطق الداخلي لاشتغال البنية الفوقية، وتحديدا مركزها السياسي، الشيء الذي سينعكس في المستويات القانونية والدستورية؛ وتبعا لذلك، فان الانتقال لا بد وأن ينعكس على طبيعة المؤسسات الدستورية القائمة، حيث ينتج عن ذلك تغيرات عميقة في جوهر وطبيعة ووظيفة النسق السياسي العام المؤطر للدولة والمجتمع. فمثل هذه التغيرات لا بد وأن تنطوي على إمكانيات القطع، على المستوى الفكري/الثقافي مع رواسب الماضي، مما يسهل إطلاق ديناميات فكرية وثقافية تنويرية توازي مجمل التغيرات السياسية والاقتصادية المستجدة في البنية الاجتماعية لما بعد الانتقال.
ما الفائدة، إذن، من تحقق "الانتقال الديمقراطي" إن لم يكن له أثر يصب في مصلحة ورقي الإنسان الذي يفترض أن يكون، أولا وأخيرا، محور وهدف أي انتقال إلى الديمقراطية، وليس فقط وسيلة لانجاز هكذا انتقال، وإلا فان الانتقال هنا سيكون مجرد انتقال فئات معينة على حساب فئات أخرى. إن في طرحنا لهذه المسألة استحضار لما آل إليه الوضع العام للإنسان في معظم دول العالم المستعمرة والتي أنجزت استقلالات شكلية، حيث ضل فيها الإنسان دون وضع اعتباري، بمعنى أن الهدف الأسمى من تلك الانجازات التحررية لم يكن تقدم ورقي وتحرر الانسان الذي كان فقط وسيلة في تحقق تلك الاستقلالات.
فنحن، بهذا الاستحضار، لا نتغيى الانحراف عن هدفنا المركزي الذي هو تحليل ومناقشة الانتقال الديمقراطي، بل نود الإشارة، ولو بشكل وجيز، إلى أن الوضع الراهن المأزوم الذي أضحى يعيشه الإنسان في الدول التي لم تحقق بعد الديمقراطية، إنما يرجع في أصوله إلى المأزق الطبقي التاريخي لحركات التحرر الوطني التي لم تعمل على تلازم المسألة الاجتماعية، بما لها من بعد طبقي، والمسألة الوطنية، في برامجها السياسية التي دفعت بعموم الفئات المجتمعية للانخراط في المعركة الوطنية، من دون أي أجندات اجتماعية واضحة.
هذا نقاش طويل لا يسع المقام هنا للخوض فيه؛ غير أنه وبسبب من تغييب ذلك التلازم، من طرف القوى الإقطاعية والبرجوازية الهجينة المهيمنة في الحركات الوطنية تاريخية، صار الإنسان في هذه البلدان يعيش أزمات معقدة على عهد الاستقلالات الوطنية الشكلية.

2- تمفصل الضرورات "الوطنية" على المستجدات العولمية في إعمال الانتقال الديمقراطي
إن الكتابات والمساهمات، سواء الفكرية منها أم السياسية، التي واكبت تلك الفترة التوافقية التدبيرية المرحلية اعتمدت في كثير من الأحيان على مقولات سياسية وحقوقية تم استنباتها في الساحة الوطنية، اعتمادا على مجموعة من التجارب المقارنة. لقد طرح استعمال مثل هذه المقولات، بشكل مفرط، مشاكل نظرية أعاقت إنتاج نوع من المعرفة الخاصة بالواقع المغربي، في تمفصله التاريخي على التحولات الكونية التي طرأت في بداية التسعينيات والتي أدت إلى تبوئ ثقافة حقوق الإنسان ومسألة الديمقراطية صدارة الأولويات في الأجندات الدولية والوطنية لأهداف رأسمالية إستراتيجية ليسنا بصدد الخوض فيها في هذا المقام.
هذا التمفصل، بين الضرورات السياسية الوطنية، بما هي ضرورات تأمين انتقال سلس للحكم على مستوى المؤسسة الملكية من جهة، وضرورات انخراط يسار "الحركة الوطنية" في السلطة، بعد التحول السياسي والإيديولوجي الذي عرفه الاتحاد الاشتراكي في المؤتمر الاستثنائي سنة 1975 من جهة أخرى، وبين المستجدات الكونية – التي هي بطبيعتها رأسمالية امبريالية انكشفت في شكل تاريخي هو بالذات العولمة - هو الذي أضفى على ما أسميناه "الفترة التوافقية التدبيرية المرحلية" طابع "الانتقال الديمقراطي"، بحمولاته الجاهزة التي أسقطت بشكل تعسفي على التجربة المغربية التي لم تستطع، بسبب من ذلك الإسقاط التعسفي، أن تنتج مفاهيمها المعرفية الخاصة بها. مما أدى بها إلى السقوط في التجريبية أحيانا والشعبوية أحيانا أخرى، بين من يدافع عن تلك التجربة إلى حد نعت خصومه بالعدمية والراديكالية، وبين من يشكك في التجربة برمتها.
سقط، إذن، كلا الطرفين في ممارسات ومقاربات سياسوية لم تخدم في أخر المطاف الانتقال الديمقراطي الفعلي الذي كانت إرهاصاته الأولية والفعلية قد أخذت تتشكل في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، نتيجة لتنامي النضالات الجماهيرية الديمقراطية التي بلغت ذروتها في 14 دجنبر 1990.
لذا نرى أنه من الأهمية المنهجية بمكان، أن نربط الحديث عن مسألة الانتقال الديمقراطي بالظروف الموضوعية والشروط التاريخية التي تميز تطور البنية الاجتماعية التي يجري فيها الإنتقال "الديمقراطي" في مرحلة تاريخية محددة. ما يستدعي أولا تحديد شروط تلك المرحلة التاريخية وآفاقها السياسية الممكنة، من خلال القيام بتشريح علمي مختلف الأبعاد لهذه البنية المركبة والمعقدة - في شقيها المجتمع والدولة – مع ضرورة الوعي التام بشروط وجودها وتطورها، الخاصين بها، في ظل النسق السياسي العام المؤطر لها، أو قل للدقة المؤطر لأزمة تطورها، في علاقة جدلية بالظروف التاريخية الفعلية المميزة لها.
اظافة الى ذلك لا بد من الأخذ بعين الاعتبار التناقضات الداخلية والخارجية التي تفرزها مجريات الصراع السياسي والحراك الاجتماعي والتنوع الثقافي وما ينجم عنه من حساسيات وصراعات أفقية، في كل مرحلة معينة، وفق منطق واتجاه تطور الحركة التاريخية بشكل عام.
ذلك أن اتجاه الحركة التاريخية إنما يتحدد وفق منطق التطور الجدلي، انطلاقا من تحقيق تراكمات كيفية وصولا إلى انجاز قفزات نوعية، في لحظات تاريخية معينة، فيما يشبه قطائع فجائية تحمل في طياتها جديدا يحاول الخروج من رحم ذلك القديم الذي يتهاوى أمام عنفوان وقوة ذلك الجديد، وذلك بالرغم من مقاومته الشرسة - أي مقاومة ذلك القديم- لكل انبعاث ولكل تشكل للجديد.
في التجربة المغربية، نعتقد أن تراكمات كيفية تاريخية بالغة الأهمية، تستمد أصولها من نضالات وتضحيات الشعب المغربي، كان لها أن تستحيل انتقالا نوعيا إلى الديمقراطية لو أحسن التدبير السياسي لمرحلة ما سمى التناوب التوافقي. لكن، ما كان لحسن التدبير هذا أن يقع من دون بناء جبهة عريضة من القوى اليسارية والتقدمية والديمقراطية، بمختلف فصائلها، لإسناد تلك التجربة التاريخية كي لا تميل يمينا لصالح القوى المحافظة والمخزنية؛ فالتجربة المغربية كشفت على أن هذه القوى الأخيرة استرجعت كامل حيويتها وهيمنتها على تدبير الشأن العام الوطني، وذلك بعد زهاء عشر سنوات من انطلاقة مسلسل التناوب التوافقي.
لا يمكن، منهجيا، إذن مقاربة مسألة -أو قل إشكالية- الانتقال الديمقراطي، إلا على أساس من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية والتاريخية المذكورة سابقا، والتي تميز خصوصية الساحة السياسية المغربية، من حيث هي تعبير عن صراع فوقي حول المشروعية بين المؤسسة الملكية وبين يسار الحركة الوطنية تحديدا، بعيدا عن أنظار فئات واسعة من الشعب المغربي؛ يمكن، إذن، اعتبار هذه العوامل بمثابة مداخل محددة وضرورية، لفهم ما جري أثناء ما سمي "الانتقال الديمقراطي"، خصوصا على المستوى الشعبي الذي أبعد -أو قل أريد له أن يبتعد– عن مسار ذلك الصراع السياسي، وبالتالي عن مسار ذلك "التناوب التوافقي" لاحقا.

3- الانتقال الديمقراطي في ضل خصوصية التجربة المغربية
لقد كان من المفترض، أن يفضي مسلسل "التناوب التوافقي" في آخر المطاف، وباعتباره يشكل حلا تاريخيا وسطا لإشكالية الحكم بالمغرب بين المؤسسة الملكية و"الحركة الوطنية"، إلى وضع مقدمات بناء دولة ديمقراطية حديثة، دولة الحق والقانون، دولة المؤسسات المنتخبة ديمقراطيا والتي تشتغل في إطار من فصل تام للسلط، حيث يتم تحديد صلاحيات هذه المؤسسات الدستورية الوطنية، طبقا لدستور تعاقدي يشكل مرجعية قانونية عليا لتوزيع هذه السلط؛ مما يجعل الدولة في خدمة المجتمع ويؤهلها لتلبية مطالبه الأساسية، المدنية والاقتصادية والسياسية والثقافية، بما يضمن الحفاظ على حرية الرأي والإعلام، واستقلال القضاء ويضع قطيعة مع الانتهاكات الجسمية لحقوق الإنسان بشكل لا تردد فيه.
لم تؤشر مجريات الأحداث السياسية، في الساحة الوطنية، الى ما يحيل الى انجاز انتقال ديمقراطي؛ ذلك أن الانتقال، في الحالة المغربية، كان غير ديمقراطيا في جوهره، بحيث جرى استغلال الحديث عن انتقال ديمقراطي مفترض، لإعادة إنتاج نفس أزمة تطور البنية الاجتماعية، التي هي تجسيد لأزمة تطور النظام السياسي السائد، بكل قواه الاجتماعية والسياسية الملتفة حوله.
في أزمة النظام السياسي هذه، تتبدى أيضا أزمة القوى الاشتراكية واليسارية والديمقراطية المعارضة لهذا النظام، بسبب من كون هذه القوى ضلت تاريخيا عاجزة عن انجاز تحالفات جبهوية وطنية عريضة من شأنها التعبير عن طموحات وآمال أوسع الفئات المجتمعية، بما فيها القوى المنتجةّ، بصفتها قوى قادرة على الدفع في اتجاه تحقيق الحد الأدنى من المطالب الديمقراطية. إن من شأن تأسيس جبهة وطنية عريضة أن يفتح أفاقا جديدة نحو تجاوز أزمة تطور هذه البنية الاجتماعية، بما يضمن عدم تجددها في أشكال تبدو كما لو أنها ديمقراطية وحداثية، ولكنها في العمق ليست سوى ذات حمولات ودلالات تقليدانية متخلفة ومعيقة لأي انتقال ديمقراطي فعلي؛ أي إعادة إنتاجها في أشكال من التحديث الذي لا يمس الجوهر "المخزني التقليداني"، بل يطال الشكل فقط.
أما التحديث، في نظرنا، فليس يعبر في شيء عن الدمقرطة. فلا تلازم، إذن، بينهما في البنية الاجتماعية المغربية التي هي، بطبيعتها، بنية كولونيالية بالمعنى الذي يسود فيها نمط الإنتاج الرأسمالي التبعي للنظام الرأسمالي العالمي، شأنها في ذلك شأن باقي البنى الاجتماعية في كل الدول التي ضلت تدور في فلك التبعية الاقتصادية للرأسمالية المركزية في أمريكا أم في أوروبا.
فالبورجوازيات المحلية في هذه البلدان عامة، وفي ظروف تاريخية معينة، قد تلجأ الى انجاز مستويات عليا من التحديث بفعل علاقاتها الاقتصادية التبعية للرأسمالية الغربية، كما يبدو من النموذج الخليجي؛ ورغم فإنها لا تملك القدرة على دمقرطة المجتمع الذي لا يزداد، في ظل هذه المفارقة التاريخية بين "التحديث" وبين الحداثة، إلا محافظة، بحيث يصير أكثر تشبثا بكل ما هو تقليداني ماضوي. يؤدي هذا التجدد في البنية الاجتماعية، على مستوى الشكل فقط، إلى تجدد نفس الأزمة البنيوية، أي إلى الإبقاء على مستوياتها السياسية والاقتصادية والإيديولوجية المتخلفة، أو قل تحديدا المتأخرة، هي هي.
في هذه الحالة، يَضل النظام السياسي السائد، وهو مستند الى قاعدته الاجتماعية والى مؤسساته الدستورية الفوقية، منغلقا على نفسه، وأيضا عاجزا عن الانفتاح على القوى الاجتماعية الديمقراطية ذات المصلحة في الانتقال الحقيقي. ومن ثم يضل النظام السياسي والدولة غير مؤهلين لاستيعاب وإدماج كل القوى الاجتماعية والسياسية التي تعتمل داخل المجتمع، وبالتالي غير قادرين على تلبية مطالبها الأساسية، في الديمقراطية والمواطنة والحقوق الاجتماعية، وكذا في التوزيع العادل للسلطة وللثروة الوطنية.
ففي ظل عدم تحقق الانتقال الديمقراطي الفعلي في المغرب، ضلت الدولة تحافظ على بنيتها وهيكلتها العامة، من حيث هي بنية طبقية ذات دور مركزي/محوري في تنظيم المجتمع سياسيا وإيديولوجيا واجتماعيا. لذا فان وظيفة الدولة الإستراتيجية، باعتبارها دولة استبداد ودولة أجهزة قمعية، هي الحفاظ على أهداف ومصالح الفئات المهيمنة فيها، والتي تتكشف، الى جانب أهداف أخرى، في ضبط التطور السياسي والمدني للمجتمع، في محاولة للتحكم في التوازنات السياسية العامة.
يزداد هذا الضبط حدة إذا تعلق الأمر بالمجتمع المدني المستقل الذي يعتمل على مستوى الطبقات الشعبية الكادحة، أو على مستوى الطبقة العاملة، حيث نجد الدولة تتوسل، في هذا الضبط المجتمعي، بكل الوسائل الإيديولوجية والأمنية، بما في ذلك ممارسة الإكراه الجسدي والنفسي والتضييق على الحريات العامة والفردية، سواء في شقها المدني أو السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي أو الديني.
لقد توافرت جملة من الشروط التاريخية، الذاتية والموضوعية، لمجموع الفئات والقوى المسيطرة، على مستوى البناء الفوقي، بتعبير الأدبيات الماركسية الكلاسيكية، لتأبيد هيمنتها على مفاصل اقتصادية وسياسية حيوية، بحكم تموقعها داخل جهاز الدولة. وقد سعت تلك الفئات، تاريخيا، لإعادة إنتاج مواقعها وتموقعاتها، عبر محاولاتها إظهار مشاريعها ورؤاها المجتمعية بمظهر المشروع السياسي الوطني الجامع لكل الفئات والطبقات الاجتماعية.
إن سعي هذه القوى، في إظهار مشروعها باعتباره ذاك المشروع الوطني الجامع، ليس سوى محاولات إيديولوجية هدفها ضبط المجتمع السياسي والمدني الذي يفترض فيه أن يكون مستقلا عن الدولة؛ في حين، يدل واقع الحال على أن تلك القوى لا تحمل أي مشروع سياسي بديل في ماهية "الدولة الديمقراطية" التي تريدها في ظل استمرار نفس النظام السياسي وهيمنة مشروعه على الساحة السياسية الوطنية.
ثم إن تلك المحاولات الإيديولوجية ضرورية، في منطق ذلك التحالف المسيطر، باعتبارها خطوات قبلية يتم اللجوء إليها، قبل الإقدام على الضبط الأمني في مرحلة انكشاف ذلك الوهم الإيديولوجي لدى أوسع الفئات الشعبية، كما أكدته نتائج انتخابات شتنبر 2007.
غير أن مثل هذا الانكشاف لن يتحقق، أو قل لن يرفع هذا الوهم الإيديولوجي، دونما أدوار وتدخلات العناصر المثقفة العضوية الملتزمة، التي تنشط سواء من داخل بعض التنظيمات اليسارية والامازيغية الديمقراطية أو من خارج هذه التنظيمات، على اعتبار أن هناك عناصر، عضوية ملتزمة سياسيا ومستقلة تنظيميا، تناضل لتنزيل مشاريعها ورؤاها السياسية والثقافية من خارج الأحزاب بسبب من غياب الديمقراطية الفعلية وضبابية المشروع السياسي حتى في الأحزاب اليسارية الديمقراطية التي انتقلت الى مرحلة أضحت فيها مشاريعها متماهية مع المشروع السياسي المركزي المهيمن في الساحة السياسية، كما هو شأن أحزاب يسار "الحركة الوطنية" في فترة حكمها التوافقي.
ليس هدفنا أن نتوسع هنا في البحث عن أسباب عدم الالتزام التنظيمي الحزبي -وليس الالتزام السياسي– بالنسبة لمجموعة من الفعاليات اليسارية والامازيغية الديمقراطية المثقفة؛ ما نود إبرازه هو أن هذه العناصر، ومن خلال أدوارها الإعلامية والصحفية والتربوية والسياسية والتثقيفية، إنما تتولى مهام نقض الأطروحات الإيديولوجية السائدة، بشكل ربما أكثر تحررا وأكثر تجاوزا للسقوف التنظيمية الحزبية. وهذا يجعلها أكثر جرأة في ملامسة الإشكالات السياسية الحقيقية التي يطرحها الواقع المغربي، في بعده الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، في أفق تشكيل وعي جماعي وطني نقيض من شأنه استنهاض الفعل الجماهيري الديمقراطي الذي من دونه لن يتحقق أي انتقال فعلي إلى الديمقراطية.
تجدر الإشارة هنا الى تسليمنا واقتناعنا بأن المثقف لن يصير مثقفا عضويا ثوريا فاعلا - ليس بمعنى تبنيه العقيدة الثورية وإنما بمعنى اصطفافه الفكري إلى جانب القضايا العادلة لعموم الكادحين - ما لم يكن ملتزما تنظيميا في حزب تقدمي ديمقراطي يساري، على اعتبار أهمية العمل الحزبي المنظم في التأثير في الواقع السياسي في كل بنية اجتماعية معينة.
ولئن تطرقنا هنا –عرضا- الى دور المثقفين غير الملتزمين تنظيميا، أي حزبيا، فان ذلك ليس بهدف الدفاع عن ضرورة مقاطعة المثقف للعمل الحزبي، وإنما، وهذا هو الأهم، بسبب من أهمية وجدلية تلك العلاقة بين الثقافي والسياسي. ودون الخوض في إشكالية العلاقة بين المثقف والحزب، وحتى لا يفهم من حديثنا أننا مع تكريس الهوة بين المثقف والحزب، فان أي حزب تقدمي يساري سيضل في حاجة قصوى إلى المثقفين بنفس القدر الذي يضل فيه هؤلاء دائما في حاجة إلى مثل هذا الحزب حتى يتسنى لهم التأثير الفعلي في مجرى التاريخ البشري؛ أي ببساطة النهوض بالمهام والمسؤوليات الملقاة عليهم تاريخيا.
كل ما هنالك أن هذه الإشكالية العلائقية بين الثقافي والسياسي-الحزبي تستحق دراسة موضوعية وعلمية خاصة، في أفق تصويب العلاقة القائمة بين الطرفين، وكذلك من أجل العمل على توعية مختلف الفئات الشعبية التي يسعى الحزب الطليعي إلى تأطيرها وتمثيلها والرقي بها إلى تحقيق نوع من الوعي السياسي/الوطني الضروري، لها، حتى تتهيأ لاستلام مهام الدفاع عن أهدافها وغاياتها في التحرر الاجتماعي وفي التحرر الوطني.
وجدير بنا هنا أن نؤكد على أهمية وضرورة تلازم التحرر الوطني والتحرر الاجتماعي، باعتبار هذا التلازم ضرورة تاريخية لا غنى عنها، تمليها الشروط التاريخية التي تمر منها البنية الاجتماعية الكولونيالية، إذا ما أريد تحقيق الديمقراطية الفعلية وبناء دولة الحق والقانون. ورغم أن المقام ليس مناسبا هنا للخوض في هذه الدراسة، النظرية التاريخية، إلا أنه يجب الانتباه الى وجوب هذا التلازم وضرورته في ربط المسألة الاجتماعية بالمسألة الوطنية، بالشكل الذي يمكن من تحويل علاقات الإنتاج الكولونيالية الى علاقات إنتاج ديمقراطية، حتى لا نقول اشتراكية، أي على الأقل أن تتحرر تلك العلاقات من تبعيتها للرأسمالية الغربية، بما يمكن الطبقات الكادحة والطبقة العاملة بشكل خاص من تبوء مواقع ريادية وقيادية في علاقات الإنتاج،الشيء الذي سيؤهلها لانجاز مهماتها التاريخية، في تحرير المجتمع والدولة وفي سن سياسات اقتصادية وطنية، مستقلة عن الدوائر الامبريالية.

4- في علاقة الانتقال الديمقراطي بالمجتمع المدني
على المستوى المدني، يبدو من المنطقي أن يتمخض تاريخيا أي انتقال ديمقراطي عن بروز مجتمع مدني قوي وفعال ومبادر على أساس من الروابط والتنظيمات المدنية المستقلة عن أجندات الدولة دون أن يعني ذلك عدم مشاركة فعاليات المجتمع المدني في تدبير الشأن العام أو عدم الانخراط في مجمل القضايا الاجتماعية والثقافية والسياسية الوطنية، مع ما يترتب عن ذلك بشكل أوتوماتيكي من تقليص أو إنهاء مظاهر التنظيمات الأهلية والقبلية والدينية، أي كل تلك الدوائر التقليدية تنظيميا والتقليدانية نزوعا، التي تجد في نمط الإنتاج الإقطاعي/ما قبل الرأسمالي أساسا لديمومتها وتجددها.
إن تمظهرات مرحلة ما قبل الانتقال الديمقراطي، على المستوى المدني، تتبدى في استمرار تلك التنظيمات الأهلية، مستندة إلى أسس قبلية وعشائرية وعرقية؛ بمعنى آخر، يفترض أن يصير الإنسان مدنيا ومواطنا بعد انجاز الانتقال الديمقراطي، أي أن ينزع بحس وطني مشترك إلى الارتباط بالوطن واعتباره فوق كل الحاضنات الأهلية، وكذا أن يسعى إلى الانتظام في بنيات تنظيمية حداثية، كالحزب والنقابة والجمعية، من أجل تدبير جميع القضايا والخلافات المجتمعية، بدلا من أن يتقوقع في تنظيمات أهلية عرقية ودينية تعيق كل مظاهر التقدم ولا تسمح بتحقيق المدنية في بعدها الإنساني.
ما نلاحظه في هذه المرحلة الانتقالية – لا نعني بالانتقالية أن هناك انتقالا ديمقراطيا – في تطور مجتمعنا هو تناسل جمعيات وتنظيمات ما يسمى "المجتمع المدني" من دون أن تكون في الجوهر كذلك، بحكم طبيعة هذه التنظيمات من جهة، وبحكم سياق نشأتها وسيرورة تطورها، وكذا بحكم ارتباط هذا المجتمع المدني بالدولة، ماليا وتخطيطا وعلى مستوى القضايا التي ينشغل بها وأهداف المنشودة من جهة أخرى.
في ضل هذا الوضع العام، تتبدى مفارقة صارخة في كون المجتمع المغربي لم يكن بمثل هذا السكون السياسي والحزبي الذي هو عليه اليوم؛ فقد أفرز ذلك التوافق المرحلي التدبيري نفور المجتمع عن السياسة، باعتبارها انشغالا بقضايا الشأن العام الوطني ومجالا لتدبير الاختلافات المجتمعية، فتراجعت أهمية المؤسسة الحزبية والنقابية على الساحة السياسية والاجتماعية الوطنية، في حين استعادت الدولة المبادرة من خلال تنامي نفوذ التقنوقراط/المتحزبون الجدد، واستمالة نخب سياسة واقتصادية جديدة من يساريين، أو قل لوجه الدقة متمركسين، سابقين، بالاظافة الى اخطبوط من فاعلين اقتصاديين جدد.
لذلك يتعذر علينا القول أن مجتمعا مدنيا قويا ومستقلا، بالمعنى الغرامشي وليس بالمعنى الهيغلي، قد انبثق في البنية الاجتماعية المغربية في المرحلة التاريخية الراهنة، اللهم إذا استثنينا بعض الجمعيات الحقوقية المستقلة نوعا ما عن الدولة وعن الدوائر الرأسمالية العالمية، أجندة وتمويلا وتخطيطا وبرامج، والتي لا تمثل بالضرورة كل الحركة الحقوقية؛ كذلك نجد بعض مجموعات العمل التي لم ترق بعد، تنظيميا وممارسة، إلى مستوى الجمعيات الحقوقية المذكورة، رغم إبدائها قدرات لا يستهان بها على مستوى الفعل الجماهيري المنضم.
إلا أن هذه المجموعات التي تناضل، جادة، من أجل انتزاع مكاسب ذات طبيعة مادية أو ثقافية أو ديمقراطية، سرعان ما تنحل/تختفي لمجرد تحقيقها لأهدافها المسطرة؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر، نذكر مجموعات الدكاترة والاطر العليا المعطلة، التي أبدعت أشكالا نضالية واحتجاجية مؤثرة على مدى العقدين الأخيرين، معتمدة في ذلك على إمكاناتها وقدراتها الذاتية المحدودة وعلى دعم بعض الهيئات المدنية المستقلة: الهيأة الوطنية لدعم الأطر العليا نموذجا.
بالمقابل، نجد أن تنظيمات، مما يوصف بجمعيات المجتمع المدني، تتناسل بسرعة تحت رعاية وتمويل جهات نافذة في الدولة وأيضا جهات دولية من أجل انجاز مهام "تنموية" تعويضا لمهام اجتماعية إستراتيجية لم تعد الدولة الوطنية قادرة على تحملها وانجازها، بحكم التطورات العولمية المستجدة كونيا والتي تحد من مجالات تدخل الدولة لصالح "المجتمع المدني".
لذا نرى الدولة، وتحت ضغوط واملاءات خارجية، تتخلى عن أدوارها الاجتماعية وتوكل بعض من مهامها "التنموية التي حلت محل الاجتماعية" لتنظيمات "مدنية"، تدور في فلكها ومن فبركتها. أضحى إذن المجتمع المدني، البديل الأساس، لانجاز تلك المهمات التي تخلت عنها الدولة الاجتماعية، تحت جبروت العولمة وضغط تحرير الاقتصاد ورفع الحواجز الجمركية وتوقيع اتفاقات التبادل الحر، إلى غير ذلك من تداعيات القفزات الفجائية التي ما انفكت تطرأ في نمط الإنتاج الرأسمالي.
وعوض أن تقوم النخبة المثقفة بتشريح بنية وطبيعة وأهداف هذه التنظيمات المدنية على أساس من النقد الموضوعي لها في محاولة للوقوف على حقيقة ما يجري من حراك على المستوى المدني، باعتباره في آخر المطاف يشكل مجالا مستترا للصراع السياسي الطبقي، فإننا نرى كيف أن الحديث عن المجتمع المدني أخذ منحى آخر، من قبيل طرح أسئلة تمويهية تجانب الصواب، مفادها هل المجتمع المدني بمقدوره أن يحل محل الطبقة السياسية؟ وتحديدا هل بإمكان الجمعيات المدنية أن تضطلع بأدوار ومهام الأحزاب السياسية؟ أضحى الفضاء المدني الرسمي يتوسع على حساب الفضاء الحزبي، خاصة بعد أن صار دور الحزب ينحصر، فقط، في "تأطير المواطنين" من دون أن يسمح له - بمقتضى قانون الأحزاب - أن يطرح مشاريع سياسية ومجتمعية مناقضة لتلك التي تطرحها الدولة.

5- في التموقع بين السياسي والمدني كتكتيك انتقالي لبعض النخب
هناك من التيارات والفعاليات من ذهب في منحى استعارة مفاهيم جديدة تتلاءم مع ما تعتقده أنه مرحلة انتقال ديمقراطي. هذه المفاهيم المقارنة في كثير من الأحيان، تجسد نوعا من الالتباس والغموض، بفعل التقاطعات التي تنطوي عليها تلك المفاهيم، سواء بين السياسي والمدني، كمفهوم "السياسة المدنية"، أو بين السياسي والاجتماعي كمفهوم "التنمية البشرية"، أو بين السياسي والحقوقي كمفهوم "العدالة الانتقالية"، أو بين السياسي والثقافي-الهوياتي كمفهوم "الثقافة الامازيغية".
لقد أدى ترويج هذه المفاهيم السياسوية، على المستوى الإعلامي في عهد التناوب التوافقي، الى تشكل أوهام إيديولوجية وثقافية، لدى فئات واسعة من المجتمع، وخاصة في صفوف بعض "الفاعلين والمثقفين" الذين انبهروا لمثل هذه المفاهيم، وصاروا يرددونها من دون طرح أسئلة عميقة في ماهيتها. وبسبب من ترويج هذه المفاهيم الإيديولوجية، تمكن أولئك الذين نصبوا أنفسهم "مدافعين" عن العديد من القضايا الاجتماعية والثقافية والحقوقية، أن يتموقعوا في مساحات الظل المريحة، فتراهم يتصيدون كل الإشارات والمبادرات، سواء تلك التي تطرحها الدولة أو تلك الآتية من الخارج -وهي كلها مبادرات سياسية طبقية وإستراتيجية- فيعاودون صياغتها بشكل يصير مضمونها السياسي مضمرا حتى يتمكنوا من تمريرها بشكل سلس داخل المجتمع المدني والسياسي.
ومما ساعدهم في تلك الوظيفة الإيديولوجية، ادعاءاتهم و"مواقفهم المعلنة"، في كونهم هجروا العمل السياسي بعد سلسلة من الانكسارات والخيبات التي منوا بها أيام النضال السياسي الطبقي، قبل أن يهتدوا إلى العمل المدني "المستقل" - وهو غير مستقل في نظرنا - عن أجندات الدولة والدوائر الخارجية. إنهم يقومون بكل ذلك تحت عناوين وشعارات شتى كالتنمية البشرية والمحافظة على البيئة ومحاربة الأمية والدفاع عن الحقوق الثقافية واللغوية، كالامازيغية وهلم جرا.....
من جهة أخرى، يبدو هذا التموقع للعديد من النخب في إطار السياسة المدنية كما لو كان بديلا ناجعا للعمل السياسي أو الحزبي التنظيمي بعد الفشل الذريع في تحقيق الآمال والأحلام السياسية السابقة. لذا تجد أصحاب هذا الطرح ينبرون إلى ممارسة نوع من العمل السياسي غير الحزبي – وهو عمل سياسوي - في إطار من المستوى المدني اقتناعا منهم – أو توهما منهم - بأن شروط مرحلة الانتقال أضحت جد ملائمة للاشتغال على قضايا متعددة من داخل جمعيات مدنية تعنى، كما أشرنا سابقا، بعدة ملفات ذات طبيعة تنموية وثقافية وبيئية وحقوقية....
كان من المفترض أن تقوم الدولة بالاشتغال على هكذا ملفات في إطار سياسات وطنية تحضى بتوافق وطني بعد إعمال الحوار الوطني مع كل الفرقاء الاجتماعيين والسياسيين والمثقفين، مع الأخذ بعين الاعتبار كل وجهات النظر السياسية والثقافية المطروحة على الساحة الوطنية، على اعتبار أن المرحلة الراهنة هي مرحلة انتقالية إنما تستوجب، من بين ما تستوجبه، التأسيس لممارسات وقواعد جديدة لتدبير المرحلة المقبلة، سواء تعلق الأمر بالمسألة السياسية في بعدها الدستوري والديمقراطي، أو بالمسألة الحقوقية في شقها المتعلق بمعالجة ملف الانتهاكات الجسيمة وجبر الضرر، أو فيما يتعلق بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية التي تضل هي هي المحددة لنجاح أي عملية انتقالية إلى الديمقراطية، بالاظافة إلى المسألة الثقافية الهوياتية التي غالبا ما تسفر أثناء الانتقال الديمقراطي الفعلي – وطبعا في علاقة جدلية بالمسألة الاجتماعية والسياسية والديمقراطية بشكل عام – عن تقوية الهوية الوطنية على حساب النزعات الرامية إلى التقوقع داخل فضاءات هوياتية ذات خلفيات عرقية أو جهوية أو لغوية.
تدلنا اليوم بعض المؤشرات السياسية والثقافية عن تنامي نزعات عرقية ودينية وربما أحيانا مذهبية، تحت يافطات متعددة، فهذه المؤشرات تحمل دلالات بالغة الخطورة، مفادها أن المشروع الوطني الديمقراطي بات يعاني من انكفاء تاريخي أمام عودة قوى يمينية محافظ، بشتى تشكيلاتها وتعبيراتها التقليدانية، مستغلة بذلك عواطف الشعب المغربي، سواء الدينية، حيث نجد تنامي الحركات السلفية، أو العرقية الهوياتية حيث نلاحظ انبثاق أجنحة راديكالية، من داخل الحركة الثقافية الامازيغية، تتبنى المطالب الامازيغية بشكل فيه الكثير من التضخيم والتشدد، بالاظافة إلى "العودة السياسوية" للحركة الشعبية إلى تبني جزء من هذه المطالب الامازيغية: الجامعة الربيعية للحركة الشعبية نموذجا.
وتندرج، في هذا السياق ذاته، عودة بعض القوى المخزنية في شكل تيارات "حداثية ديمقراطية" مستندة إلى معطيين أساسيين حاسمين: أولهما مواقعها السلطوية وقربها من المؤسسة الملكية، بما يشكله ذلك من ثقل تعبوي في التقاليد السياسية المغربية، ثانيهما استمالتها لبعض "المناضلين اليساريين الجذريين" الذين ما إن تحققوا من أن "الثورة" ما عادت ممكنة، بعد سقوط جدار برلين، حتى هبوا يتسارعون للارتماء في أحضان هذه القوى المخزنية الجديدة، فيما يشبه نوعا من المفارقة التاريخية التي لا تتحقق فعليا إلا في لحظات الأزمة، أو قل في لحظات المأزق البنيوي، أو تحديدا إن صح هذا التعبير في لحظات التناقض المأزقي في تطور البنية الاجتماعية بصفة عامة.
وكمحصلة لكل هذا، تبدو لنا فكرة أساسية في غاية الأهمية، مفادها أن كل عملية انتقالية إلى الديمقراطية الحقيقية، بأبعادها السياسية والدستورية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لا بد وأن تؤدي بشكل دياليكتيكي تاريخي إلي التحرر الاجتماعي وانتصار البعد الوطني، بما يمكن من انصهار مختلف الحساسيات اللغوية والثقافية والعرقية والدينية في ذلك البعد الوطني الجامع. يِدي ذلك إلى بروز ما يسمى الدولة–الأمة، التي تشكل مرحلة عليا من مراحل تطور الشعوب و في مسار تحقيق تماسكها الاجتماعي، نحو بناء فضاء جغرافي تاريخي سياسي قانوني ثقافي، يضمن الحقوق الديمقراطية لكل المواطنين، بما في ذلك حق الاختلاف باعتباره شرطا أساسا ليس فقط في الانتماء والمواطنة، بل قل للاعتزاز بالانتماء إلى ذلك الكيان الوطني الديمقراطي التاريخي المنشود.

6- في علاقة نخب السياسة المدنية بمشاريع الدولة الانتقالية
أين نحن الآن من هذا الخطاب الإعلامي الرسمي والحزبي، والمستقل أحيانا، الذي قيل في الانتقال الديمقراطي؟.. وأين نخبة السياسة المدنية من هذا المبتغى المنشود الذي هو الديمقراطية؟.. هل تحققت كل الأهداف المؤطرة لكل تلك الشعارات التي واكبت الحديث عن الانتقال الديمقراطي؟.. أم أن النخب التي هجرت العمل السياسي-الحزبي المنظم لتتولى الاشتغال على ملفات سياسية حساسة في إطار مدني -أو قل تحت يافطة العمل المدني- قد حققت لنفسها مكاسب مادية ورمزية ما كان لها أن تحصل عليها لو استمرت في التزامها السياسي بالمشروع المجتمعي الذي ناضلت من أجله في إطار حزبي؟.. ألم تحصل بعض القيادات الحزبية، وبعض النافذين في التنظيمات الحزبية الديمقراطية على وجه التحديد، على مكاسب مادية واعتبارية من جراء مشاركتها في تدبير الشأن العام، من خلال "التناوب التوافقي"؟؟؟.
لهذه الأسباب مجتمعة، وقطعا لأسباب لأخرى، لم نعد نسمع أولائك الذين دافعوا باستماتة عن مقولة الانتقال الديمقراطي، ينبسون ببنت شفة حول ما آل إليه ذلك الانتقال الديمقراطي المزعوم؟.. كيف أمكننا اليوم أن نطوي الحديث عن "الانتقال الديمقراطي" من دون تنوير الرأي العام الوطني حول ما إذا كان الانتقال إلى الديمقراطية قد تحقق فعليا أم أنه لم يكن ليبدأ بعد!!. لقد صرنا اليوم، في أمس الحاجة لفتح نقاش عميق بغية الوقوف على أعطاب ذلك الانتقال حتى يتحمل كل طرف سياسي مسؤوليته في ما آل إليه ذلك التناوب التوافقي، على الأقل الوضوح مع الشعب ولم لا تحصين مكتسبات ذلك التوافق إن وجدت في أفق وتجاوز معيقاته.
في هذا الصدد، نعتقد أن الانتقال ما كان قط ديمقراطيا، وليس الانتقال في حد ذاته انتقالا إلا بالمعنى التوافقي، أما التوافق فلم يكن إلا شفهيا. كان الغرض من ذلك التوافق الشفوي تدبير مرحلة سياسية حساسة من تاريخ المغرب المعاصر، بكل تناقضاتها التاريخية، الداخلية والخارجية، ممثلة في إيجاد نوع من السكينة بين مشروعيتين متصارعتين: المؤسسة الملكية التي كانت في حاجة لتأمين انتقال سلس للحكم، ويسار "الحركة الوطنية" الذي وجد نفسه مشدوها بالتحولات الكبرى التي وقعت بداية تسعينيات القرن الماضي.
ولأن التوافق جرى شفهيا، فانه ما كان بمقدوره أن يستمر حتى يثمر انتقالا ديمقراطيا، بل كان أن ضاع التوافق والانتقال معا في سيرورة تدبير تلك المرحلة السياسية المفصلية في تاريخ المغرب المعاصر.
لقد توارت الكتابة حول الانتقال الديمقراطي إلى الخلف بعد حوالي عقد من الزمن، ولم تعد إذن تضفي على مقولة الانتقال ذلك الإشعاع وذلك الزخم اللذين واكبا الحديث عن الانتقال الديمقراطي سابقا!...هل صار بإمكاننا اليوم أن نستمر في الدفاع عن شيء اسمه الانتقال الديمقراطي؟ الحقيقة أن المدافعين، بالأمس، عن هذا الانتقال انبروا، اليوم، يكررون مقولات مستحدثة، من قبيل التنمية البشرية، للتغطية على فشلهم أمام الرأي العام بخصوص ادعاءاتهم طيلة "زمن الانتقال الديمقراطي"!!..
لقد عملت بعض العناصر النافذة في الأحزاب الديمقراطية على جني ثمار ما اعتبرته انتقالا ديمقراطيا أثناء انخراطها في تشكيل حكومة التناوب التوافقي، ثم حكومة جطو قبل أن تتكشف أوهام ذلك الانتقال مع نتائج استحقاقات السابع من شتنبر الماضي. أما العناصر التي تموقعت في ما أسميناه السياسة المدنية، بسبب من كونها ليست في مواقع نافذة في تنظيماتها الحزبية السابقة، اظافة الى كون تنظيماتها الصغيرة لم تكن تستند إلى قاعدة اجتماعية واسعة تؤهلها لتحقيق مكاسب سياسية معينة من داخل مسلسل التناوب، فقد هجرت مواقعها الحزبية السابقة وراحت تستبدلها بالاشتغال على قضايا "مدنية" لفرض نفسها كمخاطب للدولة، كل في مجال انشغاله. لقد تمكنت هذه العناصر، بعد سلسلة من التسويات الفوقية لهذه القضايا، مع الدولة، من تبوء مناصب في كل المؤسسات والمجالس العليا التي أنشأت للالتفاف على جوهر تلك القضايا، من قبيل قضايا حقوق الإنسان، والقضية الامازيغية وقضية الهجرة والجالية المغربية في الخارج......
يبدو واضحا من تلك التقاطعات بين المستوى السياسي من جهة، والمستويات الأخرى سواء كانت اجتماعية أم تنموية أم ثقافية من جهة أخرى، أن العمل المدني لأولئك الفاعلين على اختلاف مجالات اشتغالهم، ليس قطعا مدنيا كما يدعون، بل هو شكل، من بين أشكال أخرى، يتمظهر فيه العمل السياسي لنخبة السياسة المدنية، وهذا الشكل من العمل السياسي، بطبيعة الحال، هو في تناغم مع توجهات ومخططات الدولة والدوائر الخارجية.
وحتى تحضى هذه البرامج والمشاريع السياسية بالقبول من طرف الرأي العام وتضمن بالتالي انتشارا في أوساط المجتمع، فان العمل السياسي الذي تتولاه هذه النخبة لتمرير هكذا مشاريع لا يفصح عن نفسه إلا في مظهر "العمل المدني" عبر فعاليات وتيارات السياسة المدنية التي تعتمل في الساحة الوطنية لهذا الغرض.
لقاء وظيفتها تلك، فان هذه النخبة تتقاضى امتيازات ومكاسب تتمثل في تبوءها مناصب جد مرموقة في المؤسسات والمجالس المستحدثة لاستيعاب هذه النخبة التي، ما أن تجلس على كراسيها، حتى تتنكر لما كانت تدعي الدفاع عنه من قبل تاركة القضايا المجتمعية وراءها من دون حلول واقعية مقبولة. بهذه الطريقة، فان هذه النخب لا تسيء إلى العمل المدني فقط، بل تساهم بممارساتها هذه في العزوف عن العمل السياسي بشكل عام والحزبي التنظيمي بشكل خاص.
في هذا السياق، وعلى سبيل المثال نذكر ذوبان بعض اليساريين الراديكاليين "دعاة الثورة سابقا" في المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان والمجلس الأعلى للسمعي البصري (الهاكا)، وأخيرا في المجلس الأعلى للهجرة. نفس الشيء ينسحب على بعض "الامازيغيين" الذين لا يعبرون في شيء عن قضايا الإنسان الامازيغي الحر المتسامح. هؤلاء "المثقفون الامازيغيون" إنما يستعيرون هم أيضا مفاهيم خاصة بهم وينصبون أنفسهم ممثلين للهوية الامازيغية، في محاولة لتحقيق مصالح ذاتية، عن طريق الحصول على مناصب في المؤسسات المستحدثة للالتفاف على مطالب الحركة الامازيغية الديمقراطية، كما هو حال هؤلاء في المعهد الملكي للثقافة الامازيغية.
لا بد وأن نشير هنا إلى اعتزازنا، ليس فقط بالثقافة الامازيغية كمكون من مكونات الهوية الوطنية، بل بالإنسان الامازيغي أيضا، والذي هو بعيد كل البعد عن هؤلاء "أشباه المثقفين" الذين يستغلون المسألة الامازيغية لقضاء مآربهم الضيقة. لقد تعايش الإنسان الامازيغي تاريخيا في هذه البلاد منذ قرون وكان نموذجا في الوطنية والوحدة والتسامح وساهم في تشكيل الهوية الوطنية المغربية، بالرغم من محاولات الطمس الذي تعرضت له الهوية الامازيغية من طرف دعاة وقيادات وأتباع "الحركة الوطنية. إن الانسان الامازيغي، الذي أعطى الدليل التاريخي على تسامحه ومقاومته الاستعمار والدفاع عن الوحدة الوطنية، بعيد كل البعد من أجندات هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم ناطقين رسميين للأمازيغيين، وأيضا بعيد كل البعد عن الاتهامات الإيديولوجية للحركة الوطنية فيما يخص "الظهير البربري".
وحدهم المثقفون اليساريون والامازيغيون الديمقراطيون، قادرون اليوم على تقييم تلك المرحلة السياسية التي وصفت بكونها انتقالا ديمقراطيا، لاستخلاص العبر الضرورية في أفق ممارسة سياسية حزبية ناجعة تروم ارجاع الثقة للعمل الحزبي اليساري الديمقراطي، وإلا سيكون انكفاء الحركة اليسارية التقدمية للخلف من نصيب الحركات التي تمتطي الدين واللغة والعرق لتحقيق أهدافها الشوفينية.
فهذه الحركات بمختلف تلاوينها إنما تسعى جاهدة لطمس كل نقاش ديمقراطي في محاولة لإبقاء نوع من الالتباس في الساحة السياسية الوطنية حتى يتسنى لها "دعويا وتعبويا" ممارسة نوع من التأطير الإيديولوجي لتحقيق أغراضها السياسوية التي هي بعيدة كل البعد عن تحقيق الديمقراطية التي ترفعها كشعار لها والتي تريدها فقط مطية للوصول إلى السلطة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن