أبو معيشي ..موهبة مبكرة وذاكرة شعرية لا تنسى

ضياء الاسدي
dhiaasadi@yahoo.com

2009 / 6 / 17



لم يحفل جميع أهالي سوق الشيوخ المُحبة للشعر والأدب بمقدم الصبي الأسمر جمعة معيشي داود خليل ألشمري مع أبيه وأخيه الأكبر الوافد من عمق الصحراء القصية ( نجد ) حيث موطنه الأصلي والذي أبصر النور فيه عام 1880 للميلاد وهو لم يكمل عامه الرابع إلا بعد أن اشتد عوده مع تقادم الأيام والسنوات وتفجر طاقاته الشعرية بفعل الموهبة المتفردة التي نهلت من معين مدينة سوق الشيوخ الشعري الزاخر بالأدب والمعرفة فضلا عن تكوينه البدوي الذي منحها معجما ثرا من المفردات المعيرة التي التصقت بمخيلته قبل أن يغرد في الفضاء الشعري الذي تربع عليه طيلة عقود من الزمن .
انتهج شاعرنا خطا متفردا بكتابة ( الابوذية ) وكل مولعا بها حتى منحها كل مقومات النجاح وكان نفسه الشعري في كتابة ( الابوذية ) محط أنظار الشعراء وقتذاك حيث أجاد بما يمتلك من رقي الحس بالغزل حتى ذاع صيته بهذا اللون من الشعر كما انه كان متمرسا بالسجال ويرد الصاع صاعين على كل من ساجله في تلك الأمسيات الجميلة التي واظب على حضورها وكان شاعرنا ميالا إلى الفكاهة حتى كتب بعض الابيات المثيرة للضحك والاعجاب في هذا المضمار .

بلاغة ومعنى

اشتغل الصبي ( جمعة معيشي ) في أحد بساتين المدينة ما ساعده على إطلاق العنان لموهبته الشعرية التي تناقلتها الألسن في كل مكان من المدينة قبل أن تتطاير ( ابوذياته ) الى المدن الأخرى المتاخمة لمدينة سوق السوق وتصبح سلوة للعاشقين ومتنفسا لمحبي الأدب والشعر وخصوصا من شغل قلبه الحب والوصال .. كما يبوح في أول ابوذية قالها :
وحك سورة عصا موسى ولك هاف
ما تسكي زرع كلبي ولك هاف؟
يناهي العرك غث عينك ولك هاف
ومن تنعس منامك بين اديه
شهدت المدينة برمتها نبوغ الرجل وفرادته بسبك اجمل الصور الشعرية ما استقطب الأصوات الأدبية المهمة واجبرها على الانصات لما يبوح به من نسج متمكن وباقتدار عال ينم عن ظاهرة شعرية لا يمكن إلا الوقوف عندها طويلا للتأمل وتذوق الشعر على أصوله الصحيحة .
أبو معيشي

تزوج جمعة معيشي وهو لم يكمل عقده الثالث بعد أن تطايرت أشعاره بين الناس وأصبحوا يرددونها بإعجاب كبير ، فأنجب ولده البكر ( معيشي ) ومن ثم ولديه عبد الله وفارس .
أصبح أبو معيشي من الشعراء المرموقين حتى أطلق عليه لقب الجوهرة السوداء ، وكانت له مساجلات كثيرة مع أعلام الشعراء وآنذاك كما أصبح مقصدا للكثير منهم حيث كانوا يلتقونه في بستان المرحوم " الزاير دولي " صباحا وفي مقهى صديقه الشاعر " الملا صكبان محيسن الازيرجاوي " حيث يجتمع الشعراء هناك قبل أن يعقدوا جلستهم في دكان كبير للمرحوم ( الحاج عناد الحريب ) بعدان يعد لهم مكانا خاصا مفروشا بالحصران والسجاد العربي قبل ان ينتقل مجلسهم ليلا إلى احد منازل الشعراء كما ذكر الأستاذ فرقد الحسيني في كتابه الموسوم ( ابو معيشي ).
وكانت تلك الجلسات عامرة بفاكهة الشعر والارتجالات المقتدرة في الابوذية التي كان شاعرنا احد قاماتها السامقة .
بحذر واصعد عليهن ساف منساف
لهه يمة محمد عين منساف
لهه جعود فوك المتن منساف
ولها منحر يوسدني المنية

أبو معيشي أميا

مما يثير الدهشة والإعجاب هو أن شاعرنا المبدع لا يحسن القراءة والكتابة ويعتمد في سبك ابوذياته على خزينه المعرفي الذي يضاهي العشرات من المتعلمين في ذلك الوقت حتى وصل ( ابو معيشي ) الى انساق ابداعية لا تدانيها موهبة اخرى في رقي المفردة وصهرها ضمن نتاجه الشعري الهائل حيث كان شاعرنا يوثق مدوناته الشعرية عبر الاستعانة بأي شخص يجيد القراءة والكتابة كما يؤكد الاستاذ فرقد الحسيني في نفس الكتاب ويقول :
" منذ نعومة أظفاري وانا اجلس أمام الشاعر الكبير ابو معيشي ، كان ذلك نهاية الستينيات عندما كنت طالبا في الصف الخامس الابتدائي ، عندها لم أكن أدرك ما هو الشعر ؟ لكني أدرك شيئا واحدا هو أني ارتعش أمام هذا الرجل الذي ترك الزمان على تقاسيم وجهه بصمات السنين بكل وضوح ، ارتعش ارتعاشة يديه وهو يشير الى نخلة في بستان المرحوم ( الزاير دولي ) تلك النخلة التي يفضل الجلوس تحتها معظم الوقت ليسلم أحاسيسه الى اللاوعي في غيبوبة لا يصحو منها الا على بيت او بيتين من شعر الابوذية ، كنت أشاهدإغماضة عينيه وتمتمات شفتيه الذابلتين قبل ان يفيق ليناديني بلهجته البدوية ( ولد نعاس ) اكتب لي ( يكول ابو معيشي ) ثم يكمل ما يريد تدوينه ، بعد ان انتهى من الكتابة يدفع لي ( عشرين فلسا ) عشرة منها للطابع حيث ارسل له ما كتبت الى شعراء الشطرة وعشرة فلوس يقول لي هذه لك ( كتابية ) أي ثمنا للكتابة .
هذه بعض مذكرات الحسيني الذي عاصر الشاعر قبل رحيله ويذكر ان الشاعر كان يصر عندما يطلب منه احد ما تدوين ابوذياته او يذكر جملة ( يكول ابو معيشي ) ثم يكمل الابوذية بحيث يزعل زعلا شديدا عندما لا تذكر هذه الجملة قبل كل بيت من كل ابوذية كتبها الشاعر .

وفاة الجوهرة السوداء

بعد عطاء شعري هائل وحضور متميز بالحلاوة والندية بين مجا يليه من الشعراء لفظ شاعرنا الكبير أبو معيشي أنفاسه الأخيرة في يوم 24/12/1978 لينهي بذلك رحلة شاقة مع الشعر امتدت لعقود طويلة عاشها الراحل متنقلا بين روابي الجمال الأخاذ من الشعر ومرابع الأبوذية التي أينعت على شفتيه وأورقت صورها المتلألئة بالحس الشعري الجميل ، بكنه بحرقة كل عيون المدينة التي حفظت شعره عن ظهر قلب وشيعته مدججا بالحب والشعر الى مثواه الأخير في مدينة الزبير حيث بقى قبره شاهدا على ظاهرة شعرية فذة وما زال عشاقه يزورونه استذكارا لروحه الحاضرة بين جنبات الشعر وقيل أن آخر بيت من الأبوذية نطقه الشاعر قبل الرحيل هو :
صد ليه حكيمي صدعني
عرف بجروح جبدي صدعني
يروحي اصفي البيابي صدعني
إحجيلي برفجة الجناز اليه

مقتطفات من أبوذيات أبو معيشي

( 1 )

ولا صحلك صديج ارشدك ودلاك
ابجليب اظلم تذب ارشاك ودلاك
ولا كلمن توده صار ودلاك
ابكلبه ولا صفتله اوياك نيه

( 2)

عليك وهملت اعيوني وساليت
يهاشم ناشد العالم وساليت
حسب ظنك نسيت انه وساليت
وراسك بالوسن تطري عليه

( 3 )

المصايب نحلتني الحيل واراك
وحك من خالج النيران واراك
بعد يوم الحشر وحساب وراك
والاعظم سنسله او سبعين اذيه

( 4 )

حادي البل سمع وني وردهم
جفوني اللي يحب كلبي وردهم
صار العرب يمعيجل وردهم
من دمعي اليكت فوك الوطيه

وقال ابو معيشي عندما احترق بيته مخاطبا الحاج سعود

( 5 )

يوم أكشر يحجي سعود يوماي
همت ما عاد اوجد ارض يوماي
هذا يصيح ذاك يهدم يوماي
الهلاهل للفزع تلحك عليه

وقال ابو معيشي

تهيم الروح عيب ادري شملهه
تون ولا فرح ساعة شملهه
مته يلتم بعد فركه شملهه
وتعود ايامنه الحلوة الزهية .

( 6 )

عليه او حرمت عيني وسنهه
زماني جرد اسيوفه وسنهه
وحك اللي فرض خمسه وسنهه
بعد هيهات عيش ايصير اليه .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن