نظرية التطور لدارون (5)

محمد زكريا توفيق
zakariael@att.net

2009 / 6 / 7

التطور لا يحدث بسبب تغير البيئة والمناخ فقط, لكن لأسباب أخرى هامة. منها, التعاون الجنسى, والحروب الكيميائية, والمنافع المتبادلة التى تدور بين كائنات مختلفة الأنواع. فهناك أنواع من الكائنات لا تستطيع البقاء بدون مساعة أنواع أخرى. مثل التعاون الذى يحدث بين الزهور والحشرات, وبين الأشجار والحيوانات.

فى غابات مدغشقر, سريعة التقلص والإنكماش بسبب قطع الأشجار, يوجد نبات على وشك الإنقراض, له إسم غير عادى هو "أنجرايكم سيسكويبيدال" من فصيلة الأوركيد. أحد بتلات زهوره البيضاء تتشكل على هيئة أنبوبة عمقها 16 بوصة, وفى قاعها تفرز الزهرة عدة قطرات من رحيق حلو المذاق.

ما الهدف من وجود مثل هذا الرحيق؟ وما هي قوى التطور التى أنتجته؟ الجواب يأتى على أجنحة نوع من الفراشات يزور زهور هذا النبات. تمد الفراشات ألسنتها التى تظل تطول وتطول حتى الواحد منها 16 بوصة. وهو طول يزيد على طول الفراشة نفسها.

تأتى الفراشة وتدفن وجهها فى الزهرة, وتلامس جبهتها حبوب اللقاح فتعلق بها. عندما تنتهى الفراشة من شربها للرحيق, ينكمش لسانها فى شكل حلزونى, وتطير حاملة حبوب اللقاح إلى زهرة أوركيد أخرى, حيث يتم اللقاح.

ربما يكون من الصعب تصديق وجود نوعين من الكائنات ترتبط حياتهما معا هذا الإرتباط الوثيق. إلى الدرجة التى يتوقف وجود أحدهما على وجود الآخر. لكن الحياة مليئة بمثل هذا التزامل والإزدواجية. فهو موجود بين الفراشات والزهور, وبين الحيوانات المفترسة, والحيوانات التى تعيش على لحومها. شبكة من العلاقات المتبادلة بين أنواع مختلفة. يتأقلم كل منها لكى يوائم النوع الأخر. مثل المفتاح الذى يجب أن يلائم قفله, وإلا أصبح كلا منهما عديم الفائدة.

التزامل بين الأوركيد والفراشات لم يأت منذ بداية تواجد كل منهما. هذه العلاقة الخاصة, أتت بالتدريج. عن طريق التطور المستمر الذى لايزال يحدث حتى اليوم.


إكتشف دارون عام 1930م التطور المتبادل بين الأنواع, عندما كان يقوم بدراسة تطور الجنس فى النباتات. الزهرة بصفة عامة, تنتج أعضاء أنوثة وذكورة.

النبات يريد التزاوج مع نبات آخر من نفس النوع. لكنه لا يستطيع أن ينزع جذوره من التربة لكى يسير باحثا عن شريك. كيف يتثنى لحبوب لقاحه أن تصل إلى أعضاء التأنيث فى النبات الآخر؟

بعض النباتات, يكفيها أن تذرى بذور لقاحها فى مهب الرياح. لكن البعض الآخر تستخدم الحشرات لنقل حبوب لقاحها. راقب دارون النحل, وهى تأتى إلى زهور اللوبيا لكى تتغذى على رحيقها الشهى.

فى كتابه أصل الأنواع, بين دارون أن نبات البرسيم الأحمر الشائع, يعتمد فى تلقيحه على النحلة الطنانة. وهى نحلة كبيرة الحجم نسبيا, لها طنين مميز. لنفرض أن النحلة الطنانة إنقرضت فجأة لسبب أو لآخر. نبات البرسيم الأحمر, إن لم يجد من يساعده فى نقل حبوب لقاحه من زهرة إلى إخرى, سوف يختفى هو الآخر وينقرض من الوجود.

ربما تستطيع نحلة العسل أن تقوم بنفس الدور الذى تقوم به النحلة الطنانة. عادة, نحلة العسل تلقح أنواعا مختلفة من البرسيم. فى البداية, سوف تجد نحلة العسل صعوبة, لأن لسانها ليس فى طول النحلة الطنانة. لذلك لن يمكنها إمتصاص كفايتها من الرحيق. أية نحلة عسل ولدت بلسان غير عادى طويل, ستكون أكثر إستفادة من زهور البرسيم الأحمر, وأقدر على البقاء والتكاثر من نحلة العسل ذات اللسان القصير. بذلك يكون الإختيار الطبيعى هو المسؤول عن طول لسان نحلة العسل فى هذه الحالة.

فى نفس الوقت, البرسيم الأحمر ربما يتأقلم هو الآخر, حتى يوائم نحلة العسل من جديد. البرسيم الأحمر ذو الشكل الذى يجعل إمتصاص الرحيق أسهل, سوف يكافأ بأن تنتشر حبوب لقاحة. بالتدريج كلا من البرسيم الأحمر ونحلة العسل, سوف يتطوران معا, لكى يناسب كلا منهما الآخر.

فى زمن دارون, كان الناس يعتقدون أن الله سبحانه, ما خلق زهور الأوركيد إلا لكى تبهج الأنظار. لكن تبين لدارون أن جمال الزهور بألوانها المختلفة وأريجها العطر, ليس حبا فى الجمال نفسه, ولكن وسيلة رائعة لإغراء الحشرات على الإنخراط فى حياتها الجنسية. الزهور لم تخلق لنا لكى نقطفها ونضعها فى الفازات. إنما لجزب الحشرات.

قام دارون بفحص أجزاء نبات الأوركيد, ليعرف وظيفة كل جزء. أحد الأنواع التى بهرته, هو أوركيد من أمريكا الجنوبية إسمه "كاتاسيتوم ساكاتوم". زهور هذا النبات تضع حبوب لقاحها على قرص مثبت ببرعم متحرك, يستطيع أن ينثنى, بحيث يبقى القرص داخل الزهرة نفسها. يظل القرص فى هذا الوضع وهو مشدود مثل القوس والنشاب, إلى أن تأتى فراشة أو نحلة لإمتصاص الرحيق الشهى.

لكى تصل النحلة إلى مكان الرحيق, عليها أن تهبط إلى بتلة الزهرة. فيلامس ظهرها جزء آخر من النبات أشبه بالهوائى (إيريال). الهوائى متصل ببرعم لين يستخدم كزناد البندقية. فى الوقت المناسب, يجذب الزناد فينطلق القرص المحمل بحبوب اللقاح من مكمنه, ليصيب جسم الحشرة فتلتصق عليه حبوب اللقاح. السبيل الوحيد لإطلاق حبوب اللقاح من القرص, هو تحريك الهوائى(الإيريال). مجرد تحريك الزهرة لا يطلق حبوب اللقاح. حاجة الزهرة للنحلة مثل حاجة النحلة للزهرة.

وجد العلماء فيما بعد, أنواعا كثيرة من الفراشات والذباب لها ألسنة طويلة لمص رحيق أزهار لها بتلات طويلة تناسب طول ألسنة هذه الحشرات. هذه الكائنات لا توجد فقط فى مدغشقر, لكن توجد أيضا فى البرازيل وجنوب أفريقيا.

تأثير التطور المتبادل على الكائنات, أكبر بكثير مما كان يتخيله دارون. يتعرف العلماء الآن على 290 ألف نوع من النباتات المختلفة, تعتمد على الحيوانات فى نقل حبوب لقاحها. لكن يوجد 20 ألف نوع فقط من النباتات التى تنشر حبوب لقاحها عن طريق الرياح والمياة, ولا تحتاج لعالم الحيوان لأداء هذه المهمة.

الحشرات لا ترى الألوان, لكن الطيور تستطيع. لذلك, الزهور التى تساعدها الطيور فى نقل حبوب لقاحها, لونها أحمر فاقع كنوع من الإغراء. والطيور لها حاسة شم ضعيفة, لذلك نجد الزهور التى تلقحها الطيور عديمة الرائحة.

تضع الزهور رحيقها فى أنابيب طولية من بتلاتها, تلائم منقار الطائر الذى يتغذى عليها. عادة تتفتح الزهور أثناء النهار لكى تسمح للحشرات بزيارتها. أثناء الليل, تقفل بتلات الزهور وتنكمش. لكن العكس يحدث بالنسبة للزهور التى تعتمد على الخفافيش فى نقل حبوب لقاحها. أثناء الليل, تتفتح الزهور, وتنكمش أثناء النهار.

فى الظلام الدامس, ليس لدى الخفاش سوى موجاته الصوتية. لذلك تطور شكل الزهرة وهى متفتحة حتى يأخذ شكل الأطباق الهوائية. وهى فى الغالب تأخذ الشكل الهندسى للقطع المكافئ المستخدم فى كشافات السيارات. بذلك تستطيع أن تستقبل الموجات الصوتية التى يطلقها الخفاش أثناء الليل, وتقوم بردها إليه لتساعده على تحديد مكان الزهرة بدقة متناهية.

عن طريق التمثيل الضوئى, تنتج النباتات السكر. لكنها تجد صعوبة فى إمتصاص النيتروجين والفسفور وعناصر غذائية أخرى من التربة. لحسن الحظ, جذور معظم النباتات, محاطة بانواع من الفطر تمدها بالغذاء اللازم.
الفطر ينتج إنزيمات تفتت التربة, فتسمح لها بإمتصاص الفسفور والمواد الغذائية الأخرى. بالتالى تستطيع جذور النبات الإستفادة منها. فى المقابل, يمتص الفطر جزءا من الغذاء الذى كونه النبات عن طرق التمثيل الضوئى.

عادة, التطور المتبادل ينتج عنه صداقة وفائدة متبادلة بين الطرفين. لكن يمكنه أن يخلق عداوة بين الكائنات أيضا. كما أن تهديد الضوارى المتواصل يؤدى إلى زيادة سرعة الحيوان, أو لظهور صدفة صلبة خارج جسمه, أو لإتقانه فن الخداع والتمويه. وفى نفس الوقت, تتطور الضوارى أيضا, بحيث تكون أرجلها أسرع, وأنيابها أقوى, وعيونها أحد. سرعة الغزال تعادها سرعة الشيتا (نوع من الفهود).

كما يوجد سباق تسلح بين الأمم, يوجد سباق تسلح أيضا بين الضوارى و فرائسها. ما أن يجد أحدهما ميزة تساعده على البقاء والتفوق على غريمه, إلا ليجد أن التطور قد منح خصمه ما يفسد هذه الميزه.

سباق التسلح هذا قد ينتج عنه قوة وحشية, أو سرعة فائقة. وقد ينتج عنه أيضا أسلحة كيميائية متطورة فى غاية الدقة والإتقان. أفضل مكان لمشاهدة هذه الأسلحة على الطبيعة, هى مستنقعات وغابات شمال غرب المحيط الهادى. هناك سوف تجد حيوان السمندل. وهو حيوان برمائى فى شكل السلحفاء. يبلغ طوله 8 بوصة. له جلد خشن, وبطن لونه فاقع الصفرة. وأرجوك, إذا وجدت أحدها, أن لا تقترب منه, أو تأكل فى الوعاء الذى وجدت به.

عندما يهاجمه حيوان آخر, ينقلب السمندل على ظهره, فيظهر بطنه منذرا من يهاجمه بمدى الخطر الذى ينتظره. إذا لم ينتبه الحيوان الضارى لهذا التحذير, وقام بإلتهام السمندل, فإنه سوف يموت بالتأكيد, لأن السمندل ينتج سم أعصاب يكفى لقتل 17 إنسان بالغ, أو لقتل 25 ألف فأر.

لماذا الإفراط فى كمية السم هذه؟ ولماذا المبالغة الأكثر من اللازم فى درجة القتل؟ السبب هو وجود الأفعى ذات الجوانب الحمراء. فهى تبتلع هذا النوع من السمندل, ولا تموت بسمه. يرجع ذلك بسبب تطور الأفعى. فلم يعد سم السمندل يقتلها.

بالنسبة للضوارى الأخرى بما فيها الثعابين, يقوم سم السمندل بسد قنوات معينة موجودة على سطح الخلايا العصبية, فيتوقف إتصال الخلايا العصبية ببعضها, ليصاب الحيوان بشلل تام قاتل. لكن الأفعى حمراء الجوانب, تطورت بحيث لا يستطيع سم السمندل أن يسد قنواتها العصبية بالكامل. قد تصبح الأفعى غير قادرة على الحركة لمدة عدة ساعات بعد إلتهامها السمندل, لكنها تسترد عافيتها بعد ذلك.

تهديد الأفعى, طور سم السمندل الزائد عن الحد. وسم السمندل, طور مقاومة الأفعى الشديدة للسم. سباق فى التسلح بين الأفعى والسمندل. مثل ما يحدث بين العرب والإسرائيليين. كلما زادت أسلحة القتل والفتك ضراوة عند أحدهما, زادت عند الطرف الآخر. حتى وصلت إلى القنابل النووية لدى إسرائيل. نظرية التطور تخبرنا أنه آجلا أم عاجلا, سوف يحصل العرب على السلاح النووى هم أيضا. لأنها مسألة حياة أو موت. إلا إذا قد ماتوا فعلا. هذه سنة التطور, والسباق الذى نشاهده بين شدة سم السمندل ومقاومة الأفعى.

الحشرات تعيش على مضغ وإلتهام أوراق الشجر, وعلى حفر الجذور والجزوع وإتلاف الثمار. وهذا يؤدى إلى الإضرار بالنبات وتعريض حياته للخطر. أكل أوراق الشجر شئ غير ظريف. يحرم النبات من التمثيل الضوئى. وإتلاف الجذور, يحرم النبات من إمتصاص الماء والغذاء من التربة. إذا أتلفت الحشرات الكثير من أوراق الشجر أو الجذور , فإن النبات يمرض ويموت. حتى لو إقتصر الضرر على البذور, فإن النبات لا يستطيع التكاثر, وقد ينقرض تبعا لذلك.

لذلك قامت النباتات بتطوير دفاعاتها الحربية والكيميائية لصد هذه الحشرات الجائعة. نبات الإيلكس طور أوراقه بحيث توجد على أطرافها أشواك حادة تحميها من الحشرات آكلة الأوراق. وبعض النباتات تنتج السم داخل أنسجتها. والبعض الآخر تحمى أوراقها بشبكة من الأنابيب اللزجة. إذا حاولت حشرة مضغ الأوراق, خرجت المادة اللزجة من الأنابيب لتلتصق بالحشرة فتشل حركتها حتى تموت.

نباتات أخرى تدافع عن نفسها عن طريق طلب النجدة, مثلما نطلب نحن الرقم 911. عندما تهجم اليرقات على أوراق الشجرة كالغيلان لإلتهامها, يفرز النبات مادة كيميائية تجذب الدبابير بملابسهم الرسمية, التى تشبه ملابس الشرطة العسكرية. لكى تقوم هى بدورها بحقن بويضاتها داخل اليرقات المعتدية لإلتهامها من الداخل وقتلها. قسوة شديدة لم تصل إليها شرطة بلادنا بعد.

بدأ الإنسان فى تهجين وزراعة النباتات منذ 10 آلاف سنة تقريبا. عندما يزرع الإنسان محاصيل مثل القمح أو العدس, تأتى الحشرات لكى تتغذى عليها كعادتها. فى البداية, لم يكن فى مقدور الإنسان فعل أى شئ سوى الإبتهال إلى الله, طالبا العون لحماية محصوله. فى أحيان أخرى كان يأخذ الحشرات إلى المحكمة. وهذا هو تاريخ أوروبا.

فى عام 1478م, كانت الخنافس تدمر المحاصيل الزراعية فى ضواحى مدينة بيرن بسويسرا. قام الفلاحون بالمدينة بتكليف محام ماهر, لكى يذهب إلى المحكمة ويطلب معاقبة الخنافس على فعلها المشين هذا. فى نفس الوقت, قامت المحكمة بتعيين محام بارع للدفاع عن الخنافس (حق الخنافس الطبيعى فى محاكمة عادلة).

قام كل من محام المدعى ومحام الخنافس بعرض قضيته بأمانة وصدق. إستمع الأسقف إلى الطرفين. فقد كانت المحاكم تتبع الكنائس فى ذلك الوقت.

بعد فحص الدعوى وسماع الشهود والذى منه, قام الأسقف بالحكم لصالح الفلاحين الغلابة. معلنا أن الخنافس قد تقمصتها أرواح الشياطين: "نحن هنا ندينهم ونحملهم لعناتنا. ونطلب منهم أن يكونوا مطيعين, ونمنعهم بإسم الآب والإبن والروح القدس, من الإقتراب من الحقول والأرض والنباتات والبذور والثمار. ونسألهم الرحيل." (أسألك الرحيلا – رائعة نجاة الصغيرة وكلمات نزار قبانى).

لم تعبأ الخنافس بلعنات الأسقف ولم ترحل. إستمرت فى أكل المحصول على عادتها بشهية تحسد عليها. حينئذن, علم الأسقف أن الخنافس لا تتقمصها أرواح الشياطين كما كان يعتقد. إذن, لا بد أن تكون غضب من الرب. أتت لمعاقبة الفلاحين, بسبب خطاياهم وذنوبهم. وما أن قام الفلاحون الغلابة بالتبرع للكنيسة بما تيسر من القليل الذى تبقى لهم من المحصول المأكول, حتى رحلت الخنافس. وذهبت إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم. وربما تكون غادرت لتبحث عن عصاة آخرين.

لم يكن الدعاء واللجوء للمحاكم هو السلاح الوحيد لمقاومت الحشرات. إنما المبيدات كانت أيضا أحد الأسلحة. فقد وجد أن السومريين قد إستخدموا الكبريتات فى مقاومة الحشرات منذ 4500 سنة. والرومان كانوا يقاومن الحشرات بالزفت والقطران. واليونانيون كانوا ينقعون البذور فى عصير الخيار لحمايتها من الحشرات. وفى عام 1600م كان الأوربيون يستخدمون مواد مستخرجة من التبغ لمقاومة الحشرات. فى عام 1807م كان الفلاحون الأمريكيون يستخدمون مادة البيرثروم فى مقاومة الحشرات, ولا يزالون يستخدمونها حتى الآن.

فى نفس الوقت, إكتشف اللأوربيون مبيدات حشرية أفضل لإستخدامها فى مزارعهم الكبيرة فى بلادهم ومستعمراتهم. وقام الفلاحون بإستخدام مبيدات أشد فتكا مثل السيانيد والزرنيخ والزنك. وكانوا يطبخون النحاس والجير لتكوين ما يعرف بالأخضر الباريسى شديد السمية. وبإختراع الطائرات, كانت تغطى المزارع بطبقة من المبيدات. فى عام 1934م, إستخدم الفلاحون الأمريكان 30 مليون رطل كبريت و 7 مليون رطل زرنيخ و 4 مليون رطل أخضر باريسى لمقاومت الحشرات.

فى عام 1870م, ظهرت حشرة تتغذى على الفاكهة فى سان جوز بكاليفورنيا. أتت هذه الحشرة مع فاكهة مستوردة من الصين. سرعان ما إنتشرت هذه الحشرة إلى باقى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا. أثناء إنتشارها, كانت تقتل أشجار البساتين والحقول التى تمر بها. وجد الفلاحون أن أفضل طريقة لمقاومة هذه الحشرة, هو رش أشجارهم بمبيد مكون من مزج الكبريت بالجير. بعد أسابيع قليلة, إختفت الحشرة تماما من كل الحقول. شئ عظيم.

مع نهاية القرن, إكتشف الفلاحون أن مزيج الكبريت والجير لم يعد له تأثير جيد فى مقاومة الآفات, كما كان من قبل. مجموعة قليلة من حشرة الفاكهة قد نجت من سم الكبريت والجير, وتكاثرت بسرعة لكى تصل إلى أعدادها السابقة.

فى وادى كلارك ستون بولاية واشنجطون, إعتقد أصحاب البساتين أن أصحاب المصانع تقوم بغش المبيدات الحشرية بسبب عدم جدواها فى مقاومة حشرة الفاكهة, فقاموا ببناء مصانع بأنفسهم للتأكد من أن إنتاجها من المبيدات غير مغشوش. لكن الحشرة لم تتأثر بهذا السم الزعاف, وأستمرت فى إنتشارها وإتلافها للأشجار.

هذا حدث أيضا فى مصر فى الستينات أيام المهندس سيد مرعى. عندما بطل مفعول التكسافين وأكلت الدودة محصول القطن بالكامل. فقد توجهت أصابع الإتهام للمسؤولين فى وزارة الزراعة, بتهمة إستيراد تكسافين مغشوش. لكن الغش التجارى برئ من هذه التهمة. ذلك بسبب جهلنا بنظرية التطور, وتفسيرها الصحيح لما حدث.

فى عام 1939م, وجد الكيميائى السويسرى بول ميولير أن أحد مركبات الكلورين والهيدروكربونات (دى دى تى) هو أكثر فاعلية فى قتل الحشرات من أى سم آخر أكتشف من قبل. هذا المبيد رخيص الثمن يسهل صناعته. يستطيع قتل أنواع كثيرة من الحشرات, ويمكن تخزينه لعدة سنوات. كذلك يمكن إستخدامة بكميات صغيرة, كما أنه لا يشكل أى خطر بالنسبة لصحة الإنسان كما يبدو.

بين عامى 1941م و 1976م, 4.5 مليون طن من الدى دى تى تم إنتاجها, أى أكثر من رطل لكل إنسان يعيش على ظهر الكرة الأرضية. الدى دى تى كان رخيصا وفعالا بدرجة كبيرة, مما جعل الفلاحين تتخلى عن طرق المقاومة التقليدية الأخرى, مثل التخلص من المياة الراكدة و تهجين المحاصيل المقاومة للآفات وعدم تشوين الحطب والقش وإستخدام الأدى وخلافه.

إعتقدت الناس خطأ أن الدى دى تى, والمبيدات المشابهة, تحد من تكاثر الحشرات وتؤدى فى النهاية إلى إبادتها. فكان الفلاحون يرشون محاصيلهم بشكل روتينى منتظم بدلا من الرش عند الحاجة. فى نفس الوقت, كان المشتغلون بالصحة العامة يرون فى مبيد الدى دى تى كل الأمل فى السيطرة على الباعوض المسبب لأمراض مثل الملاريا.

ال دى دى تى بالتأكيد قد نجح فى الحفاظ على العديد من الأرواح, وإنقاذ محاصيل كثيرة, لكن بعض العلماء وجدت, فى بداية إستعماله, شواهد تثبت إدانته.

فى عام 1946م, إكتشف العلماء السويديون أن الذبابة المنزلية لا تموت إذا رشت بالدى دى تى. بعد عدة سنوات, وجد أيضا أن الذبابة المنزلية فى بلاد أخرى قد أصبحت مقاومة لل دى دى تى, ثم تلا ذلك حشرات أخرى, أصبحت هى بدورها تقاوم نفس المبيد.

حدثت لى تجربة شخصية عندما كنت أزور مصر منذ عامين تقريبا. فقد ذهبت مع عائلتى لقضاء أسبوع فى مدينة العريش للتصييف. وكنا نستأجر شاليه مطل على البحر الأبيض. كل شئ على مايرام. لكن الذى كان يعكر صفو الصحبة والفسحة, وجود ذبابة منزلية صغيرة الحجم, سريعة الحركة جدا. هذا نوع غير الموجود فى شمال الدلتا, ولا بد أن يكون قد جاء من إسرائيل.

كان الحل, هو المبيد الحشرى البيرسول, الوحيد المتوافر فى الأسواق. قمنا بإظلام المكان ورش كمية لا بأس بها من البيرسول. وتركنا الشالية عدة ساعات على أمل أن يموت كل الذباب. لكن, وعلى غير المتوقع لم تمت ذبابة واحدة. وكدت أجزم أن الذباب يشرب البيرسول كأنه كوكاكولا أو بيبسى ويطلب المزيد.

فى عام 1992م, وجد أن ما يقرب من 500 نوع من الحشرات أصبحت مقاومة لمادة الدى دى تى, والأعداد فى تزايد مستمر. وعندما تبين للفلاحين أن الرش بالدى دى تى لا يأتى بالنتيجة المرجوة, كان الجواب هو المزيد من نفس المبيد. وعندما كان المزيد من نفس الشئ لا يفيد, لجأ الفلاحون إلى البديل الأقوى من المبيدات مثل الملاثيون, وعندما يفشل المبيد الجديد, يبدأون فى البحث عن مبيد آخر, وهكذا ...

الرغبة فى إبادة الحشرات بإستخدام مادة ال دى دى تى أو بإستخدام سم مشابه, قد حظيت بفشل هائل. كل عام, يستخدم ما يقرب من 2 مليون طن من المبيدات الحشرية فى الولايات المتحدة وحدها. الأمريكان يستخدمون من المبيدات 20 ضعف ما كانوا يستخدمونه عام 1945م, بالرغم من أن المبيدات الجديدة تزيد فاعليتها فى القتل ب 100 ضعف. إلا أن المفقود من المحاصيل بسبب الحشرات قد زاد من 7% إلى 13%. والسبب يرجع بالطبع إلى زيادة قدرة الحشرات على المقاومة.

فشل مادة الدى دى تى فى مقاومة الحشرات يمكن إعتبارها تجربة عارضة لإثبات نظرية التطور. وكما أوضحا إهريلش ورافين عام 1964م, أن النباتات تقوم منذ ملايين السنين بإنتاج السموم لمقاومة الحشرات, والحشرات تقوم بدورها بمقاومة هذه السموم عن طريق التطور المتبادل.

خلال آلاف السنين الأخيرة, واجهت الحشرات سموما صنعها الإنسان, وهى تقوم بما كانت تقوم به دائما منذ ملايين السنين: أى تطوير نفسها بحيث تتغلب على السموم الجديدة. التطور المتبادل دخل عصر الإنسان.

أول مرة يرش فيها الحقل بالمبيدات, تموت معظم الحشرات. قليل منها ينجو من السم لأنها لم تأكل جرعة كافية منه مع غذائها. حشرات أخرى تنجو لأنها تملك جينات فريدة تصادف أنها تحميها من السم. الجينات الفريدة تتكون عادة من تراكم تغيرات فى الجينات على مدار الزمن, من جيل إلى جيل, تسمى بالتغير الأحيائى. ولا تكون عادة فى مصلحة النوع.

لكن تصادف فى هذه الحالة أن التغير الأحيائى هذا, يحمى الحشرة من السم. فمثلا, قد يجعل قشرة الحشرة سميكة نوعا ما لا يستطيع السم أن ينفذ خلالها, أويجعل بروتين الحشرة أكثر قدرة على تفتيت جزيئيات السم فيبطل مفعوله, أو يجعل الحشرة تنفر من السم وتبعد عن النبات المرشوش.

بعد رش السم, الحشرات الناجية من الموت لا يكون لها منافس ولا أعداء. لأن السم يكون قد تخلص من الأعداء أيضا. قليل من الحشرات بدون أعداء وكثير من الغذاء, يؤدى إلى تضاعف أعدادها إلى حد الإنفجار. أثناء هذا التكاثر, تنتشر الجينات المقاومة للسم بسبب تزاوج الحشرات المقاومة له, بسبب التغير الأحيائى, مع الحشرات الغير مقاومة والناجية من الموت بالصدفة.

هل هناك أمل فى إيجاد طرق أخرى غير المبيدات الحشرية فى مقاومة الآفات؟ نعم, الأمل معقود فى هندسة الجينات. فهناك ثمانية ملايين هكتار من الأراضى مزروعة بمحاصيل تحمل جينات مستخرجة من باكتيريا تعيش فى التربة وتهاجم الفراشات. هذه الجينات تنتج بروتين سام يقتل الحشرات. البروتين غير ضار بالنسبة للثدييات, ويتحلل بسرعة فى ضوء الشمس. الآن يستطيع علماء الهندسة الوراثية إدخال الجين المنتج للبروتين السام فى نباتات مثل القطن والذرة والبطاطس. وإذا أكلت الحشرات من هذه النباتات بعد تطعيمها فإنها تموت.

المشتغلون بالبيئة يأملون أن لا تؤدى طرق المقاومة بإستخدام هندسة الجينات إلى مقاومة كل الحشرات لها عن طريق التطور المتبادل. إذا زرع الفلاح كل حقله بالقطن المطعم بالجينات المقاومة للحشرات, فإن الحشرات سوف تواجه نباتات تنتج كلها نفس السم القاتل, وبالتالى سوف تجبر على التطور المتبادل لمحاربة السم الجديد.

لكن إذا ترك الفلاح 20% أو أكثر من حقله مزروع بنباتات عادية غير مطعمة, فإن النباتات الغير مطعمة سوف تصبح ملجأ للحشرات الغير مقاومة للسم. هذه الحشرات الغير مقاومة سوف تتزاوج مع الحشرات المقاومة للسم, وبذلك لا تتحول كل الحشرات إلى حشرات مقاومة. أى نصف العمى ولا العمى كله كما يقول المثل الشعبى.


ربما نكون فخورين بأنفسنا لأننا قد إكتشفنا الزراعة منذ آلاف السنين. لكننا لسنا أول المزارعين. فى أعجب فصل من فصول التطور المتبادل, تحولت مجموعة من النمل إلى مزارعين يقومون بزراعة عش الغراب منذ 50 مليون سنة. ولا يزالون يقومون بهذا العمل الناجح حتى الآن, مع تجنب مشاكل الحشرات الأليمة التى نعانى نحن منها اليوم. فيجب أن لا نخجل من التعلم من النمل.

هذا النمل يعيش فى الغابات الإستوائية فى كل أنحاء العالم. طابور من نمل كبير الحجم يغادر العش كل يوم, ويسير بحثا عن الأشجار والغصون. يتسلق النمل الأشجار ويقطع أجزاء من أوراقها, ثم يعود بها إلى العش فيما يشبه العرض العسكرى أخضر اللون. يترك هذا النمل أوراق الشجر لمجموعة ثانية من النمل لتقوم بتقطيعها إلى أجزاء صغيرة, ثم تسلمها إلى مجموعة ثالثة لتقوم هى بدوره بتقطيعها إلى أجزاء أصغر, وهكذا.

إلى أن تتحول أوراق الشجر إلى عجينة. ثم يقوم النمل بفرد عجينة أوراق الشجر فوق مزرعة من الفطر (عش الغراب) داخل العش. فينمو الفطر خلال عجينة الأوراق, ويقوم النمل بجنى محصوله الشهى والغنى بالمواد الغذائية من أجزاء معينة من الفطر. ليست كل أنواع النمل التى تربى الفطر تستخدم أوراق الشجر كسماد لنمو الفطر, فهناك أنواع أخرى تستخدم مواد عضوية مثل الزهور المتساقطة والبذور.

الفطر الذى ينمو داخل مزارع النمل أصبح يعتمد كلية على مزارعيه. الفطر العادى يتكاثر عن طريق إنتاج بذور يحملها الريح. بينما الفطر الذى يقوم النمل بزراعته, فقد هذه الخاصية فى التكاثر وأصبح أسيرا داخل عش النمل, ولا يتركه إلا عندما تنتقل الملكة إلى عش جديد, فهى تأخذ فى فمها, عند إنتقالها, جزءا من الفطر لتكون به مزرعتها الجديدة فى العش الجديد.

النمل الذى يستخدم أوراق الشجر كسماد, يستفيد فائدة كبيرة بزراعته للفطر. النمل لا يستطيع هضم الخلايا النباتية, وبالتالى تحرم من الإستفادة من الغذاء الوفير المحيط بها. النمل قاطع أوراق الشجر, جعل الفطر يقوم بالعمل الشاق الخاص بهضم أوراق الشجر. هذا التعاون جعل هذا النمل من أقوى العوامل التى تؤثر فى الغابات الإستوائية, فهو يقوم بقطع ما يقرب من 20% من أوراق الشجر كل عام فى بعض الغابات.


بالنسبة لمقاومة الآفات, وجد العلماء أن النمل قاطع الأوراق يستخدم مبيد فطرى لقتل الفطريات الطفيلية التى تنمو على الفطر الأصلى المزروع. هذا الفطر الطفيلى يمكنه, إن لم يعالج, أن يقضى على المزرعة بالكامل فى عدة أيام فقط. وجد العلماء أن جسم النملة مغطى بطبقة باكتيريا الستربتوماسيس, التى يستخرج منها المضاد الحيوى الستربتومايسين. الباكتيريا تنتج مركب كيميائى يقتل الفطر الطفيلى أثناء قيام النمل برعاية المزرعة.

السؤال هنا كيف لم يتطور الفطر الطفيلى لمقاومة السم الذى تفرزه باكتيريا الستربتوماسيس خلال الخمسين مليون سنة التى عاشها هذا النمل؟ هذا مايقوم بدراسته العلماء الآن. فقد وجد أننا فى مقاومتنا للآفات, نعزل مركب كيميائى واحد ونستخدمه فى مقاومة الحشرات. لكن الباكتيريا التى يستخدمها النمل هى كائن حى, يستطيع أن يتطور هو الآخر بحيث يبقى فعالا إذا واجه مقاومة من الفطر الطفيلى. بمعنى آخر, يقوم النمل بإستخدام قوانين التطور المتبادل لمصلحته, بينما نفعل نحن العكس.


التطور المتبادل يزاوج بين الأنواع المختلفة, لكن فناء أحد الأنواع قد يحول النوع الآخر إلى أرامل, تكافح من أجل البقاء بدون رفيق تطور, وقد ينتهى بها الأمر إلى الفناء هى الأخرى.

يقول عالم البيئة دانيل جانزن من جامعة بنسلفانيا والذى يقوم بدراسة غابات كوستاريكا, أن هناك عدد من الأشجار فى العالم الجديد هى أرامل تطور منذ العهد الجليدى. الكثير من أنواع النباتات تنشر بذورها عن طريق إنتاج الفاكهة. الفاكهة تجذب الحيوانات بغذائها الشهى, والبذور تطورت بحيث يكون لها قشرة صلبة تحميها من الجهاز الهضمى للحيوان. البذور تخرج سليمة مع إخراج الحيوان بعيدا عن النبات الأم. البعد عن النبات الأم, يزيد من إحتمال البذور على البقاء. البذور التى تسقط من الشجرة غالبا ما تأكلها الخنافس التى تنتظر تحت الأشجار. أما البذور التى تنجو من الخنافس وتنبت تحت الشجرة, تحرم من الشمس لأنها تكون فى الظل, وتنافس الأم فى الغذاء والماء.

الثدييات كبيرة الحجم لاتزال فى بعض المناطق لها علاقة ببعض النباتات. وحيد القرن الذى يعيش فى سوماطرة على سبيل المثال, يتغذى على المانجو. يأكل الثمرة بقشرها, فتنجو البذرة من العصارات الهضمية, وتخرج سليمة مع الروث وتنتقل إلى أماكن بعيدة عن الشجرة الأم.

فى غابات كوستاريكا, الفاكهة هى نتيجة التطور المتبادل بين الأشجار والحيوانات الكبيرة. بإختفاء الحيوانات الكبيرة, عانت نباتات مثل الأفوكادو (شجرة المحامى) والبابيا (الباباظ), معاناة كبيرة. فى بعض الحالات, يمكن أن تنتشر عن طريق الحيوانات الصغيرة مثل القوارض, لكن إنتشار بذور هذه النباتات لم يعد بالكفاءة السابقة. وأصبحت أنواع كثيرة منها نادرة, أرامل التطور, وفى سبيلها للإنقراض.

بعض المحاصيل التى نعتمد عليها قد تصبح هى الأخرى أرامل للتطور. النباتات تعتمد على الحشرات فى نقل حبوب لقاحها. لكن الإنسان يعوق عملية تلقيح الحشرات للنباتات بسلوكه خلال القرون الماضية. قبل وصول الأوربيون إلى أمريكا الشمالية, كانت أنواع الحشرات التى تساعد النباتات فى عملية التلقيح تعد بالألوف, منها النحل والدبابير والذباب.

أحضر المستعمرون معهم نحل عسل منافس للنحل الذى يعيش أصلا فى أمريكا الشمالية. كل خلية نحل أحضرها المستعمرون, تسببت فى إبادة مائة خلية من النحل الطنان. أعداد كبيرة جدا من الحشرات المساعدة فى التلقيح إنقرضت هى الأخرى.
نحل العسل أصبح الآن فى خطر الإنقراض. العثة التى أحضرها المستعمر معه, تقتل مستعمرات نحل العسل بأكملها. فى عام 1947م, كان هناك 5.9 مليون نحلة عسل فى مزارع بأمريكا. يتناقص العدد إلى النصف بحلول عام 1995م. نوع نحل العسل المسمى فيرال يكاد يختفى بالكامل. مؤشرات مخيفة لمستقبل مجهول للأنسان.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن