الشيخ جلال الدين وحملة تحريم الخمور

صادق البلادي
saal1@t-online.de

2009 / 6 / 3


في زيارتي الأخيرة للعراق في مطلع هذا العام جلب إنتباهي بشدة رؤية محلات مفتوحة لبيع المشروبات الروحية في بغداد ، في السعدون والكرادة داخل ، مفتوحة علانية وبائعوها جالسين بأمان ينتظرون زبائنهم، وماذاك لأني من شاربيها المدمنين، بل لأني وجدت في فتح المحلات هذه علامة للعودة الى حياة إعتيادية، تحترم التعددية في بلاد الرافدين، فالشعب العراقي ليس كله مسلما، وليس كل مسلميه بمؤمنين، فمنهم من يصلي ويحج لكنه يعاقر الخمرة، ويتغنى بالخمر وبالخمريات. أذكريوما، وأنا طالب في الأعدادية في العشار، كنت أصب الماء على يد عالم دين، أبوه فقيه كبير أرخ اليعقوبي، كما أظن، عام وفاته بقوله : "عدنان قوِض بعدك الإسلام "،و كتب عنه العلامة الكبير ، الفقيد حسين علي محفوظ مقالة رائعة بعنوان " النابغة العدناني".

كان السيد الإبن يومها متوجها في طريقه الى كربلاء على رأس موكب لزيارة الأربعين في ذاك العام، وكالعادة كل عام يكون غداء الموكب في دارنا. فإذا به يسألني، وأنا أصب الماء على يديه ليغسلهما بعد الانتهاء من الأكل، أيهما أحسن :

إسقني كأسا وخذ كأسا إليك فلذيذ العيش أن نشتركا أو

أسقني كأسا وخذ منها إليك فلذيذ العيش أن نشتركا




كنت أعلم أن هذا البيت للسيد الشاعر العلامة السيد محمد سعيد الحبوبي يناجي فيها غزال الكرخ. لا أذكر الآن بعد حوالي ستين عاما تفاصيل الحديث الذي دار في دارنا بيتنا في العشار، لكن المهم هوالإشارة الى أن الخمرة ومعاقرتها والتغني بها كان يومذاك من ألأمور العادية ، كان يجتمع في البيت الواحد الحاج ،المؤمن، التقي، الورع مع أخيه أو إبنه الذي يصوم ويصلي ولكن يشرب الخمرة في نفس الوقت، أو مع من لا يصوم ويصلي ولا يشرب الخمر. فالحرية الشخصية كانت محترمة ، ولو أنها لم تكن شائعة كمصطلح ، فالكل يعلم أن الحساب والعقاب على الإثم سيكون يوم القيامة أمام الله ، حيث " لا تزر وازرة وزر أخرى"، وأن ليس لأحد الحق في أن يكون حفيظا على الناس ولا وكيلا عليهم في الأرض، فحتى الرسول ليس عليهم بمسيطر.

نعم لقد أثار إنتباهي وإرتياحي فتح محلات بيع المشروبات الروحية لأن ذلك كان يعني إنتهاء تلك الفترة السوداء، الهمجية التي أحرقت وفجرت فيها تلك المحلات واغتيل أصحابها في البصرة وبغداد ، مما أضطرهم على ترك مدنهم الى مدن أخرى أوحتى الى بلدان أخرى طلبا للأمان على حياتهم وحياة عوائلهم، هاجروا وهم يلعنون لا أهل البلد، بل الظالم منهم ، وهم من المتسربلين بلبوس الإسلام.

كما وكان فتح المحلات يعني البدء في تطبيق الدستور الذي يضمن الحرية الشخصية، وتطبيق القانون الذي لا يتعارض مع الدستور، وليس تطبيق إجتهاد هذا أو ذاك سواء كان من القاعدة أو من يشبهها في التوجه رغم معاداته لها.

ولكن ، مع الأسف الشديد، أطلق الشيخ الصغير، جلال الدين تصريحاته التي زعم فيها أن جهات أجنبية زودت بعض منظمات المجتمع المدني لترويج شرب الخمور.

هل يحتاج أهل العراق لمن " يضلهم " على شرب الخمرة ، أيها الشيخ؟ يبدو أن الشيخ جلال الدين لا يعلم أن أول صنع للبيرة كان في بلاد الرافدين ، وكذلك الخمرة أيضا.هل يتوهم الشيخ في أن الشراب القوي الذي شربه أنكيدو في الحانة كعادة أهل سومر يومذاك، كان آب ليمو أو آب جو إسلامي [ البيرة الإسلامية] مستورد من دولة مجاورة لبلاد الرافدين ؟ أم ترى أن الشيخ الصغير جلال الدين يريد تفعيل قرار المجرم الفاجر صدام حسين، قرارمجلس قيادة الإنقلاب( "الثورة ") رقم 82 لعام 1994 أيام ما أسماه بـ " ألحملة الإيمانية " ، والقاضي بمنع بيع وتناول المشروبات الكحولية في النوادي والفنادق والمطاعم والمرافق السياحية.؟

ولا تقتصر الحملة هذه على الشيخ الصغير وجماعة المجلس الأعلى فحسب بل وعلى جماعة الأخ المالكي ، على قائمة " دولة القانون " أيضا، القائمة التي تخلت في إسمها عن الطلاء الديني ، فها هم وبعد أن فازوا يفرضون في البصرة تزمتا و تشددا لا يقر به حتى الذين حكموا البصرة قبلهم من الإسلاميين من حزب الفضيلة.

هل مسألة منع شرب الخمور حقا في عرف الشريعة أهم الآن من توفير الماء الصالح للغسل على الأقل، ولا أقول الصالح للشرب، إذ أن ماء الشرب متوفر في قناني مستوردة و معبأة في بلاد الربع الخالي.

أليس توفير الماء، الذي جعل الله منه كل شيئ حيا، الصالح للشرب والضروري للزراعة أهم هو الآن من الرجوع لتفعيل قرارات صدام الفاسق ، والفاجر أثناء حملته الإيمانية المزعومة.

وإن كان الشيخ جلال الدين يريد تفعيل قرارت حكم صدام فلم لا يختار تلك القرارات المتعلقة بمعاقبة جرائم الفساد، الذي هو صنو الإرهاب، جرائم الرشوة أو الإختلاس أو السرقة،؟

و يعرف الشيخ جلال الدين أن النبي محمد قد لعن الراشي والمرتشي على السواء ، وأن الله قد بشر علماء الدين من الرهبان والأحبار، وذوو العمائم مثلهم ، بعذاب أليم لأ نهم كانوا يأكلون أموال الناس بالباطل ولا ينفقونها في سبيل

الله، بل وكانوا يكنزون الذهب والفضة. كما يفعل أفراد الطغمة السياسية في عراق اليوم بما خصصوا لهم من المخصصات على خطى صدام.

أم أن هذه الحملة هي للتغطية على عجز وفشل الطغمة السياسية الحاكمة وفي مقدمتها جماعة الأئتلاف في توفير الماء والكهرباء والأمان بعد أكثر من ست سنوات على الإحتلال؟

أو أن تعبئة المصوتين للإنتخابات القادمة تحتاج الى هكذا حملات وليس الى تقديم حساب عما حققته قائمة الائتلاف العراقي ، ويكاد ما حققته ليس سوى بقاء الشمعة، رمز القائمة ، بديلا عن الكهرباء؟



كان أحد المحللين السياسيين قد كتب قبل إنهيارنظام صدام أن الحكم الذي سيخلفه لن يحتاج الى جهد طويل لوضع برنامج لما ينبغي القيام به ،فإن التخلي عن كل ما فعله صدام هو البرنامج المطلوب للعراق. حتى هذه العبرة لم يستوعبها الشيخ الصغير وأضرابه؟



في مجال الدفاع عن وزير التجارة السابق السوداني ألمح النائب عن حزب الدعوة-تنظيم العراق عبدالهادي الحساني ، وهو كالشيخ الصغير من حزب إسلامي، لا بد أنه يعرف أمور الدين ويعرف الدستور أيضا، اعتبرالحساني أن ما يشاهد في فيديو عن بعض عاملين في التجارة من رقص وخلاعة هي من الحقوق الشخصية التي ضمنها الدستور ، فهل الحقوق الشخصية هي لكم فقط عندما تتنعمون بها أنتم ,اتباعكم، وتحرمونها على الناس . أليس قسمة كهذه هي قسمة ضيزى : كما أسماها رب العباد ،





وأنا أتابع هذه " الصحوة الإيمانية " على الخمور تذكرت حادثة مع واحد من المتمسكين بمظاهر الدين لا بجوهره، وجوهر الدين الإسلامي يتجسد في الشهادة ، التي يكررها الشيخ الصغير مرات خمس على الأقل في اليوم، إن لم يكررها أيضا في صلاة الليل. حرية الإنسان الفرد هي جوهر شهادة أن لا إله إلا الله. أي أن الإنسان هو عبد لله وحده فقط ،

فهو حرلا يذعن ولا يعبد أحدا غيره من الناس ، وإلا ارتد الى الشرك إذ يشرك معه أحدأ.

قبل أكثر من خمسين عاما، وكنت طالبا، توجب علي أن أرافق أحد أصدقاء العائلة من جيران محلتنا للترجمة لشراء معدات معمل من ألمانيا. وفي آخر يوم كنا في المطعم فطلبت له ولزوجته لحم بقر، وطلبت لي أكلة رخيصة ، لا أطلبها عندما أكون لوحدي وأنا أدفع حسابي. وعندما جاءت أكلتي سألني سؤال عتاب ، بل تقريع: إبن الحجي تاكل لحم خنزير؟

فأجبته: نعم ، أنا آكل لحم الخنزير أحيانا، فأنا أعيش هنا منذ بضعة سنوات، وآكل في مطعم الجامعة ، حيث من المعتاد تقديم لحم الخنزير. أما أنت فتشتغل بالفايز والفايز حرام، أنت تلعب قمار ، والقمار حرام، أنت تشرب العرق وهذا حرام، أنت تذهب الى المبغى والزنا حرام ، أنت أكلت لحم بقر غير مذبوح على الطريقة الإسلامية وهذا حرام. ( يومها لم يكن في أوربا لحم مذبوح على الطريقة الأسلامية بعد، فالأتراك لم يقدموا الى ألمانيا بعد )، أنت تفعل كل هذه المحرمات وتعتب علي لأني أكلت لحم الخنزير لعيشتي هنا، ولأن سعره في هذا المطعم رخيص ولا أريدك أن تدفع عني كثيرأ.

هل تعرف الأية التي حرم الله فيها لحم الخنزير، وبين جواز أكله في حالات إستثنائية.؟ الآية تقول: " إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ." فلما أسقط في يديه قال لي : إبن الحجي إني أمزح ، قلت له وأنا أيضا.



فيا أيها الشيخ جلال الدين ليبق الوعظ في الجامع ، وأما في مجلس النواب وفي عملك السياسي، الذي لا أحسبه لوجه الله وحده، فليكن سعيك من أجل مكافحة الفساد وتوفير الخدمات للناس فالثروة ثروتهم، وهي ملكنا نحن جميعا. ولا تظنن ان كل الناس من الغافلين ، فليسوا كلهم " لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها ، أولئك كالأنعام ، بل هم أضل ، أولئك هم الغافلون ".لا تنسى أنه في انتخابات المحافظات لم يستمع الناس حتى الى طلبات السيد السيتاني بالاشتراك في الانتخابات، فالمشاركة ما تعدت النصف إلا قليلا ، والسباق من أجل كسب أصوات الناس وقلوبهم ما زال مفتوحا . فاتقوا الله حق تقاته يا من آثرتم المشاركة في سياسة أمور الدنيا بلبوس الدين.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن