توهج الكلمة

حميد طولست
hamidost@hotmail.com

2009 / 5 / 22

توهج الكلمـــــة
الكتابة إنتاج الذات انطلاقا من الذات، والكلام المطلق المرسل من القريحة بلا كلفة ولا تصنع ، والذي يراد به التعبير عن الخواطر والمحسوسات. مهمتها السامية تأريخ الحياة اليومية للذات والناس، وتنويرها بكل شفافية ومصداقية وبصيرة، فإذا كانت كذلك وصلت قيمتها إلى عنان السماء، أما إذا لم تتجاوز مزج الحقيقة بالخيال فأهميتها آنذاك لن تفوق خيال شاعر يخلط الحق بالباطل. وهي ليست شيئا مُودَعًا فينا، لكنها لا تأتي من فراغ، بل نتيجة لتراكمات فكرية وتجربة حياتية تظل تقارع بعضها البعض في محاولة الترتقي إلى أعلى درجات الفن والإندماج مع التعبيرات الفنية الأخرى، الرسم، الموسيقى، المسرح، الصورة، والصوت.
بعد إحالتي على التقاعد تشكلت عندي رغبة عارمة في الكتابة، وراودتني فكرة خوض غمارها بإلحاحية مرضية، فكلما جلست إلى نفسي، أو اختليت بأوراقي وذكرياتي إنتابني شعور عميق وأحسست برغبة دفينة تنهش أعماقي ذواخلي، وتحكمت بي شهوة تجميع شتات إنتاجاتي وإيداعها بطون الأوراق وصفحات "النت" أمانة لتقيها التلف والاندثار. وعندما نضج اقتناعي بعمق الفكرة، وضرورة تخليد عناصر الحياة وتفاعلات المواقف، وإجتراح الإجابات الرافضة لهامش الحريات وفتاتها، قررت تجريب الكتابة التي ملأت علي مسار أفعالي وملكت حركاتي وأحاسيسي.
قلت تجريب الكتابة بجميع تمظهراتها الجامعة بين التاريخ والجغرافيا والتربية والثقافة والوطنية ولم أقل التأليف، لأن التأليف صناعة وموهبة من أنبل وأنفع المهن، بوضع صحيح وأسلوب صريح، ترتكز على ثلاثة أركان : الخاطر المراد إيضاحه ، وهو الإنشاء ، والوضع الذي يبدو به ذلك الإيضاح ، وهو البيان ، والكيفية التي يحصل بها ذلك ، وهو الأسلوب. لا يشعر بسطوتها وقدرها العظيم ومسئوليتها الكبيرة إلا من أبدعت يده أجمل الحروف، وصاغ عقل أروع العبارات والأفكار، وانغمس في بحور وبساتين المعرفة والجمال، وتعلق بالكلمة علاقة الجزء بالأصل، شأنها في ذلك شأن سائر الأشكال الفنية التي تتطلب قدرا كبيرا من الحرفية والموهبة؛ وأنا أفتقد لأبسط المقومات التي تجعل من تلك الموهبة هماً إنسانياً يرفع الإنسان ويسمو به إلى مراتب الرفعة والشرف، ويضيف تجارب أخرى إلى تجاربه، وكم أنا محتاج إلى تنمية الحد أدنى من القدرات الحرفية الكتابية التي لم تعنيني في يوم من الأيام السوالف كهدف بالدرجة الأولى. فما راودني لا يعدو تجميع لما إنهمر من الذاكرة وجادت به القريحة والواقع، من ركام الأحداث ووقائع الروايات والقراءات، وملخص الأفكار والتخيلات والتجارب التي لا تجيب في حد ذاتها عن الأسئلة الحياتية بقدر ما تزيدها تعقيدا وتجعل الإجابات مستحيلة.
ورغم المشقة والكبد، وما يصاحب الكتابة من إنهاك شديد ترتعد له الفرائص، ومعاناة كبيرة يتعرق منها الجبين، فقد بدأت تجريب فعلها كإحساس يتولد نتيجة التلاقي الطبيعي بين الحزن والفرح، بين الحب والكراهية، بين المعاناة والألم، وتساهم في تشكيل خريطتها العواطف المفعمة بالمشاعر والأحلام، الآلام والجروح، الأفراح والملذات. أجلس بين فترة وأخرى، في أي مكان وأبدأ الكتابة بكل بساطة ودون تعقيد، وأزيد فترات ولحظات الكتابة كل مرة، إلى أن أنطلق عنان قريحتي محلقا في أجواء الكلمة الساحرة، وعوالمها المزهرة. أكتب للتعبير عن أفكاري وآرائي ومواقفي، ولمشاركة الآخرين أحاسيسي ومشاعري وتجاربي. أكتب كلما أحسست بالضيق، ومتى شعرت بالغبطة والفرح، وحين أتعرض لبعض المواقف الصدامة للإنسان التائه في البحث عن حقيقة نفسه وأعماقه، وحقيقة العالم من حوله. أكتب حينما لا أجد من يشاطرني أفكاري وآهاتي، وحتى لا تبقى تلك الأفكار والآهات قابعة بين الرفوف والحزم وفي أعماق الذات أيضا. أكتب لكي تخرج تلك الأحاسيس وتشكل لنفسها مسارات ملائمة، أو غير ملائمة، المهم أني أكتب كلما شعرت بامتلائي بما أرغب في كتابته، أو كما قال الشاعر محمود درويش : (ربما لأنني متورط في الكتابة بايقاع لم يسمح لي بالتساؤل.. أحياناً اكتب لألعب.. لكن لماذا اكتب.. ربما لأنه لم تعد لي هوية أخرى.. لم تعد لي محبة أخرى وحرية أخرى ولا وطن آخر)
أكتب في كل وقت، لكن دون تجنيس للكتابة أو تصنيفها بحسب ما يشترطه الأكاديميون الإنضباطيون لقواعد من صنعهم، ودون الإعتماد في لحظتها على تسلسل معين في الإستذكار، ولا على تقسيم محدد أو تبويب معلوم. بل أساير أحداث الزمن واسترسل من خلالها في حالة اشتباك مع الكتابة، فالكتابة تكتبني وأكتبها لبعث الذات الراهنة للحديث عن الماضي في كل صوره السابقة المتحكمة والفاعلة في مستقبل الناس من حولي. ملتزم في كتاباتي على الأساليب والتعبيرات الناسفة لكل الحدود الاصطناعية، متجاوز كل الخطوط الحمراء المفروضة اعتباطا من طرف الرقباء. لكن دون أن ابتعد عن آفاق الكتابة الملتزمة اللبقة المشذبة ذاتيا، لتُبدع في كل ما ينبغي أن أكتب عنه، يقودني إحساسي بالرسالة ومسؤولية تأدية واجبي نحو الله والحقيقية والناس، واضعا نصب عيني أهمية الانفتاح والتواصل والاعتراف بعقول الآخرين، مؤمنا بأن الحق له زوايا مختلفة، كما قال الإمام الشافعي في مقولته المشهورة (قولي حق يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب) أو كما يقول جان جاك روسو"إنني أخالفك الرأي لكني أبذل كل ما في وسعي كي تقول رأيك بحرية. فلا أكتب بشكل انفعالي أو تحت أي تأثير امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت".
حاولت دائما ألا تكون كتاباتي سردا لحكايات وروايات، ولا أن تتحول لسيرة ذاتية تمس ذات كاتبها وحسب، أو كتابة فوق الذاكرة لا عنها ولا فيها. لأني أردت لمكتوباتي تكون وقفة مع الذات، وانتباها من خلالها لاشتغالات النفس بهموم غيرها من الذوات، وقبضاً على لحظات المعانات وتعليقا عليها، أكثر منها تراخياً وتلذذا بنشوة الكتابة و استدعاء لصورها. أردتها تعبيرا صريحا عن جروح الأزمنة المتراكمة، ومخاطبة للأرواح الباحثة في كل مكان عن رصيد من الأمنيات، وحثا للنفوس ذوات الحقوق المهضومة على هدم جدران الخوف، وكسر كؤوس البؤس والقهر والفقر، وشحذا للهمم نحو حلم التحرر والإنعثلاق والتنوير، أردتها مشعل نور يضئ عقل الإنسان ويثبت أحقية مطالبه في هذا الوجود.
فمنذ بدأت الكتابة، تمنيت مخلصا أن أصنف ضمن الكتّاب المسالمين، أي من الذين يسيرون (حداء الحيط) ويستظلون بظله، بلا تطرف أو انبطاح، وقد كيّفت نفسي على ذلك، أتحرى الحياد والدقة والصدق، لكن دون إسفاف أو انبطاح أو تسطيح حتى لا تنزلق إلى ما لا يفهم مني، أو يستوعب، أو يفسر وفق ما تحويه العقول العكرة المصابة بداء السطحية وعفونة التفكير المنبثق من الأدمغة الصدئة،وحتى لا يقال عني:
وما كل من هز الحسام بضارب**ولا كل من أجرى اليراع بكاتب...
إلا أن التجربة الميدانية، أثبتت لي أن أمنيتي تلك ما هي إلا ضرب من الخيال، فأغلب ما يجري حولي من مظاهر القبح والرداءة التي لا تتوقف عن الزحف. يدفع إلى كتابة مسكونة بالدهشة و السؤال، تشهر اختلافها وتمرّدها و تخرج على النمذجة و التصنيف.. ولا تنتظر مباركة من أحد، خاصة أني لست ممن يخفون رأيهم .. ولا أطيق الحصوة تحت لساني. دون إدعاء مني بتغيير الواقع، لكني أساهم فيه قدر المستطاع بفضل المفعول السحري للكتابة الذي حررني من اغترابي الداخلي وأطلق العنان لمكبوتاتي بكل أشكالها النفسية والسياسية والاجتماعية.
حميد طولست hamidost@hotmail.com



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن