الوعي المحاصر

سعود سالم
Saoudsalem@sfr.fr

2009 / 5 / 21

الإنسان هو الحيوان الوحيد القادر على رؤية بقية البشر كتجريدات رقمية أو حسابية. ومع ذلك يظل الإنسان هو المصدر، هو الموجود الذي لا خالق له. هو الخالق المبدع، خالق الأديان والآلهة والشياطين والملائكة، خالق الجنة والنار، خالق الأساطير والأشعار والأدب والفن، لأن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يستطيع أن يحلم. الإنسان هو المصدر وهو الوسيلة، وهو أيضا في نهاية المطاف، الغاية والهدف. غير أنه يكتشف للمرة الثالثة صعوبة المعادلة بين الفكر والفعل والخيال الفردي، وبين الحركة الجماعية لملايين الذوات الأخرى التي تتحرك حوله، تخنقه، وتمنعه من التنفس. كيف تستطيع هذه الذات الفردية المفكرة، الحالمة، الفاعلة، أن تخرج من قوقعتها نحو الآخرين، إذا كان الآخر مجرد بطيخة متوسطة الحجم؟ وكالعادة، فالحل لم يسقط من السماء، إنما كان موجودا منذ البداية .. الكلمة. هذا الحل السحري الملتصق بنا كجلودنا، هو ملاذنا الأخير والوحيد، وهو الحبل الإلكتروني المشدود بيننا وبين الآخرين. اللغة هي جسد الإنسان، وجسد الإنسان هو لغته. واللغة هي الشيء الوحيد الذي يمكـّن الإنسان من تجاوز جزئيته المزرية إلى الكلية المطلقة للإنسانية. اللغة جسد كلي عام، هي معطف جوجول الذي يغطي الإنسانية بكاملها. غير أن هذا الحل السحري ليس سحريا إلا لأنه قابل للانقلاب في أية لحظة إلى كارثة. يمكن أن نلبس اللغة .. كما يمكن للغة أن تلبسنا، غير أنه من حق الإنسان أن يحلم بلغة جديدة تخلو من كل أدوات الاستلاب، لغة تحرر الإنسان. من حق الإنسان أن يحلم، غير أنه لكي يحقق حلمه، لا بد له من أن يستيقظ، ينهض من فراشه، يغسل وجهه بالماء البارد، ويبدأ في تعلم الأبجدية. من حق الإنسان أن يحلم، أن يحلم بعالم يخلو من الاستغلال والعنف والسلطة، ويخلو من الفقر والتعاسة النفسية والمادية، من حق الإنسان أن يحلم بعالم يخلو من المؤسسات العسكرية، ومن أجهزة القمع بكل أنواعها. من حق الإنسان أن يحلم بعالم يغمره الرخاء والازدهار والسعادة والتضامن الإنساني، من حق الإنسان أن يحلم بعالم مملوء بالخلق والإبداع، ومبني على التعاون والحب بين البشر. غير أن “الحق” ليس كافيا لتحقيق هذا الحلم البسيط. لتحقيق هذا الحلم لا بد لنا أولا… أن نستيقظ من غفوتنا، لابد للإنسان لكي يحقق ما يعتقده حقا أن يستيقظ، ينهض من فراشه، يغسل وجهه بالماء البارد، ويخرج إلى الشارع. لابد له أن يتحرك من مكانه. ذلك ان حركة الإنسان المستمرة في المكان والزمان هي التي تحدد صورته في لحظة معينة، ومكان معين. وتحدد علاقته بكل ما يحيط به.. علاقته بالكون بأسره. الإنسان ككل يحتوي وعيه ووعي الأشياء. والإنسان ليس جزءا من العالم، ليس إضافة خارجية، لأن الإنسان والعالم شيء واحد. العالم هو الإنسان، والإنسان هو العالم ذاته بلحمه وشحمه وعظامه وصخوره ونيرانه وثلوجه ودخانه. فالوعي الفردي… والفعل الفردي هو الذي يعبر عن كلية الإنسان وجزئيته في آن واحد. وعي الإنسان ليس معجزة تسقط عليه كالصاعقة من السماء، إن هذا الوعي هو ضرورة وجودية تنبثق مع ظهور العالم والأشياء في نفس الحركة الواعية، في نفس اللحظة الزمانية والمكانية. والحلم وعي، كما أن الحب وعي، والكلام وعي، والمعنى وعي، مثلما أن التفكير وعي. وكل وعي هو وعي بشيء ما.. وكل وعي هو وعي فردي ـ والحلم الجماعي هو خرافة فردية لبعض علماء النفس ـ فالإنسان الفرد يحلم ويعرف أن أمثاله يحلمون مثله، وقد يكون حلمهم واحدا. غير أن كل واحد يعيش حلمه في جزيرته المهجورة، وحيدا مثل شجرة. الإنسان الفرد يعيش ممزقا بين عالمه الداخلي المظلم، وبين العالم الخارجي الذي يسبح فيه منذ البدايات الأولى لوجوده. يريد حريته، وفي نفس الوقت يريد حرية الآخرين. يعرف بأن حريته لا معنى لها بدون حرية الآخرين الذين يمنعونه من أن يكون حرا. يعرف بأن الجحيم هو الآخر، وأنه محكوم عليه بالحرية مثله مثل بقية البشر. هذا الحبل المشدود ـ هذا التوتر، هذا الموقف التراجيدي هو مصدر الحرية، وهو مصدر القلق والالتزام والخلق والإبداع. إنه الإنسان ذاته معزول داخل وعيه في عصر البدايات، عصر ما قبل الاختيار. الإنسان في حيرته المزمنة، وهو يصارع كل شياطين الدنيا وجن الآخرة لوحده، معزولا في جزيرته الجسدية، معزولا داخل جمجمة عظمية لا يتعدى حجمها حجم بطيخة متوسطة. يصارع طوفان السلطة بأمواجه المتعددة، يواجه الأشباح والعفاريت، أشباح أبطال التاريخ الذين يمتصون كينونته، وينهشون وجوده من الداخل. يناضل ضد ذاكرة صدئة مليئة بالكوارث والحرائق والحروب والهزائم، ويواجه آلهة دموية. يناضل ضد رؤاه الصفراوية للأشياء. الإنسان الفرد يفقد الأمل، تنتابه الرغبة في الغوص في باطن الأرض، يمزق خلايا جسده وينثرها في وجه الريح هدية لصقور الجبال، ويكتب على التراب الساخن بأصابعه المقطوعة التي تقطر دما أسود، الكلمة الوحيدة الملتصقة بحلقه على مدى العصور والأجيال .. لا…لا لن أكون ما يريدون لي أن أكون. الإنسان الفرد يقول لا.. للمجتمع وللتاريخ والسلطة والآلهة والشياطين. يقول لا.. لحريته ولحرية الآخرين، الإنسان الفرد لكي يكون، لا بد له أن لا يكون. ولكي لا يكون، لا بد له من أن يكون. يرفض أن يختار حريته ضد حرية الآخرين، ولكنه يرفض في نفس الوقت أن يموت من أجل قضية لا تخصه. ويكتشف فجأة بأن فرديته مصدرها زحمة وتعدد المحيطين به. يكتشف بأنه ليس فردا إلا في جماعة، ولولا المجتمع لما كانت هناك إنسانية على الإطلاق. ويكتشف للمرة الثانية بأنه “المخلوق” الوحيد الذي يستطيع أن يعتبر إنسانا آخر “كشيء”، وليس كوعي وجودي بلحمه ودمه، إنما كأداة من الأدوات التي تملأ الدنيا، ويمكن استعمالها كمادة أولية، مثل الحديد والنحاس والبترول، أو مثل الدراجة أو السيارة أو الطائرة، يركبها لكي يصل بها إلى نقطة يواصل منها رحلته في الوجود.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن