بلا نقاب: فن جديد قادم من الشرق الأوسط وشمال القارة السمراء

عدنان حسين أحمد
adnanahmed9@hotmail.com

2009 / 3 / 6

تشكيليون يكشفون المستور ويُعرّون الأنظمة الثيوقراطية المستبدة
نظّم " غاليري ساعاتجي " في لندن معرضاً جماعياً لواحدٍ وعشرين فناناً تشكيلياً جُلّهم من الشرق الأوسط وبعضهم من شمال القارة السمراء. وقد حظيت المشاركة الايرانية بحصة الأسد، إذ مثّلها أحد عشر فناناً وهم على التوالي علي بني صدر، شيرين فخيم، شادي غادريان، بارباد غولشيري، رامين حائري زادة، روكني حائري زادة، لالة خورّميان، فرزاد لابوف، تالا مدني، أحمد مرشدلو، سارة رهبر. فيما جاءت المساهمة العراقية بالدرجة الثانية حيث اشترك ثلاثة تشكيليين عراقيين وهم أحمد السوداني، حليم الكريم وهيف قهرمان. أما بقية المساهمات فقد تمثلت بفنانَين لبنانيين وهما جعفر خالدي ومروان رشماوي، والفنانة السورية ديانا الحديد، والجزائري قادر عطية، والتونسية ناديا عياري، والفلسطيني وفاء حوراني، والمصري خالد حافظ. وقد إنضوى المعرض تحت عنوان " بلا نقاب: فن جديد من الشرق الأوسط " وعلى الرغم من أن هذا العنوان لا يتطابق مع التوصيف الجغرافي الذي خرج عن إطار الشرق الأوسط ليمتد الى ثلاثة بلدان عربية في شمال أفريقيا وهي مصر والجزائر وتونس، غير أن هدف المنظمين لهذا المعرض يكاد ينحصر في أجزاء كبيرة من العالم الاسلامي حيث يتحدى بعض الفنانين القيم والتقاليد السائدة هناك ولا يجدون حرجاً في خرقها وانتهاكها أو تعريتها في الأقل كما فعل قادر عطية وشيرين فخيم وشادي غادريان. وبسبب كثرة الفنانين المشاركين في المعرض الذي ضم نحو " 90 " عملاً فنياً فسوف نركز في هذه الدراسة على بعض الأعمال الفنية التي أثارت جدلاً واسعاً بين النقاد والمشاهدين الذين حضروا المعرض وتفاعلوا مع ثيماته الجريئة.
النساء الجُوف
يشكّل العمل التكويني الكبير " شبح " للفنان الفرنسي من أصول جزائرية قادر عطية أنموذجاً للخواء الروحي والفيزيقي في أعتى أشكاله. فعلى الرغم من أن الأشباح قد جاوزنَ المئتين بأربعين إلا أنه ارتأى أن يختصرهنَّ بشبح واحد طالما أن الجماعة مهما كبُرت يمكن اختزالها بشخصية واحدة، وأن الشخصية الواحدة هي معيار ثابت للجمع مهما اتسع وتلاطمت أمواجه. ينطوي هذا العمل الجميل على أكثر من مفارقة لعل أبرزها هي أن الداخلين الى هذه الغرفة وهي استعارة واضحة للجامع أو المُصلّى لا يرى سوى نسوة راكعات مصنوعات من رقائق الألمنيوم، " وهو إحالة صريحة الى ورق السِلوفَين الذي يُستعمل في الأفران الكهربائية لمرة واحدة ثم يجد طريقه الى كيس النفايات ". أما الذين يدخلون من الباب الأخرى المواجهة لهنَّ تماماً فسيرون مجسمات لأجساد جوف خاوية تذكّر الرائين بهول الفراغ ورعبه وقساوته في آن معاً. لا شك في أن " قطْعنة " الكائن البشري، ومسخ إنسانيته قد بلغت ذروتها في تسعينات القرن الماضي حينما بسطَ الإسلامويون نفوذهم على الجزائر، فلا غرابة أن يرصد قادر عطية هذه الكائنات النمطية التي تحولت الى مجرد أرقام صماء. فالخصوصية هي مفردة محرَّمة ضمن البِدع التي أتى بها الظلاميون. فهم يريدون لهذا الفرد أن يتماهى مع المجموع الذي يقتات على وجبات محددة، ولا يجد ضيراً في أن يعطل تفكيره أو يطفئ وهج مخيلته طالما أن هناك عقلاً يفكر بالنيابة عن الملايين المملينة. هذا العمل التكويني يحيل بقوة الى عمل تكويني مماثل أنجزته الفنانة البولندية المعروفة ماجدالينا أباكانوفيتش. وهذا العمل عبارة عن " 80 " تمثالاً تعطي ظهورها للمشاهدين مثل النسوة الراكعات المصليات، غير أن الفرق الوحيد بين تماثيل قادر عطية وماجدالينا هو أن تماثيل قادر مصنوعة من رئائق الألمنيوم، أما تماثيل ماجدالينا فهي مصنوعة من الخيش والصمغ. كما أنها تحيل الى الانسان الفرد الذي يتماهى مع المجموع بالقسر والاكراه فلا غرابة إن ضاعت خصوصيته، وتلاشت شخصيته ضمن الكل الذي يتكون من وحدات معيارية متشابهة كما هو الحال فيما تبقى من منظومة الدول الاشتراكية.
الملذات العابرة
تتعمد الفنانة الايرانية شيرين فخيم " 1973 " إحالة متلقيها الى منازل اللذات العابرة. وتقدم نماذجها بطريقة كوميدية سوداء وكأنها تسخر من الكذب الفاضح والنفاق الاجتماعي الذي قد نعهده في مكان ما من هذا العالم. ففي عام 2002 قُدِّر عدد المومسات اللواتي يمارسهن هذه المهنة في طهران فقط نحو " 100.000 " امرأة أُضطررن للمتاجرة بأجسادهن لأسباب شتى أبرزها العنف المنزلي، والفقر المُدقع، وفقدان الأزواج والمعيلين في الحروب الداخلية والخارجية. اللافت للنظر أن شيرين فخيم تقيم وتعمل في طهران، ويبدو أنها لا تأبه بالاجراءات التي قد يتخذها النظام الاسلامي إذا ما تسربت اليه مضامين وثيمات هذا المعرض الذي ينشر غسيل الأنظمة المتشددة، ويعري تداعيات هذا التشدد الذي أفضى الى هذه النتائج المروعة من الانحلال الخلقي الذي بات يهدد شرائح واسعة من المجتمع الايراني الذي يعيش في ظل التناقضات التي أفرزها النظام الثيوقراطي طوال العقود الثلاثة الماضية.
لا تختلف الفنانة الفوتوغرافية الايرانية شادي غادريان " 1974 " عن زميلتها شيرين فخيم. فهي تقيم وتعمل في طهران كما أن أعمالها الفنية المُصورة تنطوي على انتقادات حادة لوضع المرأة الايرانية في ظل النظام الحالي. فتارة نراها مُلفعة وتغطي وجهها بالكامل بقفاز أصفر، وتارة أخرى بمصفاة، وثالثة بمكواة، ورابعة بمبرشة، وخامسة بمكنسة، وهكذا دواليك حيث نراها تستعمل مختلف الأجهزة والمعدات المنزلية التي تحجب وجه المرأة الايرانية التي أصبحت ضحية لتقاليد وقيم بالية لم تعد تتناسب مع روح العصر.
حروب ومشاهد دموية
لم تخرج أعمال الفنان العراقي أحمد السوداني عن إطار الحروب والمشاهد الدموية وصور الاعتقال في سجني أبي غريب وغوانتنامو. وثمة تركيز وإصرار على التعامل مع هذه الموضوعات فقد قال في أحد حواراته الصحفية: " أغلب أعمالي تتناول موضوع الحرب. الحرب بالنسبة لي قضية حياة أو موت. وكنت أتعامل معها قبل أن آتي الى هنا، ومن الصعب تفاديها" ثم يمضي الى القول " أنا أعمل بجد حقاً من أجل الامساك باللحظة الفاصلة التي تنقض فيها طائرة مُهاجمة وبين اللحظة التي تعقب الهجوم. أريد أن أُمسك بذلك الخط الفاصل بين الحياة والموت. ". لا ينكر السوداني تأثره بأعمال فنية لفنانين كبار مثل " كوارث حرب " لغويا، و " الجورنيكا " لبيكاسو. كما ألهمته تحفاً فنية أخرى لوليام دي كونيننغ، فرانسيس بيكون، آر. بي. كيتاج وجاكسون بولوك وغيرهم. في لوحة " نحن نموت بشكل عشوائي " يجسّد السوداني الموت العبثي لعدد غير قليل من العراقيين الذين راحو ضحية الفوضى العارمة التي عصفت بالعراق خلال السنوات الأولى من الاحتلال الأنكلو- أمريكي. لا تخرج اللوحة الثانية " لم تعد لك يدان " عن إطار العنف ومظاهر القسوة التي اعتدناها في أغلب أعمال السوداني. فثمة رأس محزوزة بطريقة فظة تشي بحجم العنف وطبيعته الوحشية التي استفحلت في ظل الظروف الغامضة التي أحاطت بالبلاد والعباد بعد سقوط النظام السابق. يبدو أن قدرة السوداني على التلوين ضعيفة، لذلك جاءت أعماله المنفذة بالأكرليلك على الورق أو الكانفاس بدرجة أدنى من أعماله المتقنة التي نفذها بالفحم أو الحبر أو الباستيل. الملاحظة الأخيرة التي نسوقها في هذا المضمار هي محاولته الدائمة لأن يتحرر من البعد المحلي لينطلق الى البعد الكوني ويجسده في أعماله الفنية. آخذين بنظر الاعتبار أن السوداني قد هرب من العراق الى سوريا، ثم طلب حق اللجوء الى أمريكا. أي أنه لا يختلف عن زميله الفنان حليم الكريم الذي استقر به المطاف في أمريكا أيضاً. عاش المصور الفوتوغرافي تجربة مريرة وغامضة. فبسبب هروبه من تأدية الخدمة العسكرية إضطر الى الاختفاء في الصحراء الغربية العراقية لمدة ثلاث سنوات حيث كانت امرأة بدوية تقدم له الطعام والشراب. وقد أحاطته علماً ببعض العادات والتقاليد البدوية، وعلمتّه فن التبصّر الذي يعد ضرباً من ضروب السحر أو قراءة الغيب أو كشف المستور. ويبدو أن فكرة الاختفاء أو الاختباء هي الفكرة المهيمنة في حياة حليم الكريم لذلك أخذت طريقها الى أغلب أعماله الفنية كما هو الحال في " حرب مخبأة، وجه مخبأ، سجين مخبأ، فكرة مخبأة، ضحايا مخبأون، إلهة سجينة، شهود عيان مخبأون، لعبة مخبأة، وحرب ثانية مخبأة ". لا بد من الاشارة الى التقنية الرئيسة التي استعملها حليم الكريم في تنفيذ أعماله الفنية. فهي صور فوتوغرافية مستقاة من أزمنة مختلفة بعضها موغل في القدم مثل صور التماثيل التي قد تعود الى العصر السومري أو البابلي أو الآشوري، وهناك صور لحكام مستبدين مثل صدام حسين، وصور لوجوه صينية أو يابانية، غير أن هذه الوجوه في مجملها مموهة ومغشّاة حيث نجح الفنان في تغشيتها بلون ضبابي يكاد يحجب الرؤية مما يحيل الى القِدم وتقادم السنوات والقرون. استعمل الفنان أسلوب " التربتِك " وقوامه ثلاث لوحات معلقة الى جوار بعضها البعض أو ملتصقة ببعضها البعض. غير أن هناك مشكلة وحيدة تعتري العمل وهي أن وجوه اللوحات الجانبية لا تحدق الى وجوه اللوحات الوسطية الأمر الذي يبطل أهمية هذه العلاقة ثلاثية الأبعاد. أما الفنان الفلسطيني وفاء حوراني الذي يقيم ويعمل في رام الله فقد نفذَّ عدداً من المجسمات لمدن فلسطينية واسرائيلية تعكس بشكل أو بآخر الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لمواطني الضفة الغربية وما تسببه الحواجز الكونكريتية من مشكلات للشعب الفلسطيني المحاصر في أرضه ومدنه وقراه. العمل حمل عنوان " قلندية 2067 " وهذا التاريخ يحيلنا الى حرب أكتوبر أو الايام الستة لعام 1967. يا ترى، مالذي سوف يحصل للمدن والقرى الفلسطينية بعد مئة عام؟ في مقابل البناء العشوائي والبسيط نرى المستوطنات الاسرائيلية والمعابر والحدودية والمطار كما نرى الحواجز الكونكريتية التي تفصل بين الطرفين. وقد إرتأى الفنان وفاء حوراني أن يغلف الحاجز بالمرايا التي تعكس صورة البؤس الفلسطيني من جهة، كما أنها تشير الى فكرته المستقبلية في تأسيس " حزب المرآة " ومفاد هذه الفكرة أنه يعطي كل فلسطيني مرآة صغيرة حتى يرى المشهد السياسي برمته، ويتفحص من كثب الثورة الفلسطينية، والانتفاضات المتلاحقة، وما أفضت اليه من عمليات استشهادية حتى وصلت في خاتمة المطاف الى طريق مسدودة من وجة نظر الفنان حوراني.
مدن وآثار شاخصة
تميزت الفنانة السورية ديانا الحديد بتركيزها على ثيمة الأبراج، وزاوجت بين الأبراج القديمة والحديثة بدءاً من برج بابل حيث كان البابليون يتوقون الى ملامسة أبعد نقطة السماء، وبين برجي التجارة اللذين تقوضا في أحداث 11 سبتمبر الشهيرة. وقد استعملت الفنانة العديد من المواد من بينها البوليمير، والجبس، والحديد، والخشب، والجص، والفايبركلاس، والبوليسترين، والورق المقوى، والشمع، والأصباغ الحائلة التي تذكرنا بكل ما هو قديم. بعض الأبراج يقف المقلوب، و بعضها الأبراج كان ساقطاً على الأرض وكأنه يتوسد الرحم الذي انطلق منه. العمل الأخير الذي سنتوقف عنده هو الخارطة المطاطية لبيروت، إذ إرتأى الفنان اللبناني مروان رشماوي أن يجسد الطرق الرئيسة والبنايات الشاخصة وأبرز المعالم العمرانية لمدينة بيروت. وقد استعمل رشموني تقنية الحفر على المطاط وهي من التقنيات السهلة التي لا تحتاج الى جهود كبيرة، لكنها بالمقابل تكشف عن نية الفنان في تصوير بعض الفوارق الدينية والثقافية والاجتماعية التي تنطوي عليها هذه المدنية الجميلة التي أصبحت نهباً لنزاعات عرقية وطائفية وإقليمية. أما عمله التركيبي الثاني فهو " عمارة يعقوبيان " التي أخليت في أثناء الحرب الاسرائيلية مع حزب الله في صيف 2006 في إشارة ثانية الى حجم المعاناة التي تحملها اللبنانيون إبان الأزمات المتلاحقة وكأن هذه المدينة الرائعة تقف على كف عفريت يتلاعب بمقدراتها ومصائر أبنائها على الدوام. في خاتمة المطاف يمكننا القول بأن هذا المعرض جدير بالمشاهدة ويضم أعمالاً فنية جريئة لا تجد حرجاً في أن تتناول موضوعات حساسة من قبيل الجنس، والسياسة، ومكانة المرأة في المجتمعات العربية والاسلامية، والخواء الروحي والجسدي للانسان في ظل الأنظمة الشمولية. إضافة الى السجون والمعتقلات والحروب التي تتربص بالعالم العربي في منطقة الشرق الأوسط على وجه التحديد.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن