الاختطاف ..بين «جيهان الله» والهجوم القاهر!

نجيب غلاب

2009 / 2 / 11

لا يمكن للدولة أن تتعامل مع المهدد لسيادتها أو مع المتحدي لهيمنتها على أرضها بليونة المستسلم، لأن ذلك يمثل خطراً كبيراً على أمن المجتمع ومستقبل الدولة ومن يمثلها، أما إن كان المهدد أو المتحدي المنتهك لهيبتها تابعاً لها وخاضعاً لسلطانها فإن التنازلات التي تقدمها الدولة هي أشبه بتناول السم، فالتنازلات - أياً كانت قوة التابع للدولة - تسهم في تآكل شرعية الدولة لصالح القوى النابذة لها.
لنفرض أن جماعة معينة مارست القوة في السيطرة على أرض غيرها بمبرر ملكيتها أو أن جماعة تابعة للدولة حاولت السيطرة على منطقة بالقوة بمبرر الدفاع عن حقوقها، هنا فإن استخدام القوة أياً كانت مبرراته، غير شرعي وهو أقرب إلى العمل الإجرامي، فالدولة هي صاحبة الحق الشرعي والوحيد في استخدام القوة، وأي محاولة لاستخدام العنف لفرض إرادة شخص أو جماعة يعتبر عملاً غير دستوري وعلى الدولة مواجهة من يتحدى سيادتها وإجباره على الرضوخ لقانونها ومعاقبته لإخلاله بالأمن والسكينة العامة.
وأي دولة لا تتعامل مع منتهكي القوانين بحسم وصرامة وتفرض إرادتها كما يحدده العقد الاجتماعي فلتقرأ على نفسها الفاتحة، لأن رضوخها يؤدي إلى خلق سلطات موازية لها تؤدي في نهاية الأمر إلى ضعفها وفشلها ويدخل المجتمع بكليته في صراعات مدمرة وخطيرة لن يخرج منها إلا بوجود سلطة عليا مهيمنة يخضع لها الجميع ويحترمها ويطيع قوانينها وأنظمتها.
هذه المقدمة البسيطة والمباشرة أطرحها لأني سأتناول ظاهرة الاختطاف والتي ستؤدي في حالة استمرارها إلى سقوط هيبة الدولة وستحول القوى الاجتماعية المنتجة لها إلى قوى موازية للدولة وربما تتمكن من ابتلاعها في نهاية الأمر، وفي أقل التقدير أن تتحول تلك القوى إلى قوة مدمرة تديرها قوى متنازعة في المركز، وهناك احتمال أن تبرز من داخل تلك القوى جماعات إجرامية غير مسيطر عليها حتى من القوى المنتجة لها تقوم بتوظيف نفسها في حسم نزاعات المختلفين وهذا سوف يساعد على نمو مافيا أطرافها مجهولة وأغراضها متشعبة وتسعى للتأثير على بعض شئون الدولة والمجتمع على الأقل في المراكز الحضرية.
<<<
ولا خلاف أن ظاهرة الاختطاف فعل اجرامي مدان وسلوك انتهازي قذر ومناهض للدولة وقانونها، لأن الخاطف يستخدم القوة ويحتجز الأبرياء للضغط على الدولة وابتزازها أو على قوى اجتماعية وتجارية، أما نتائجها الفعلية على الدولة وسمعتها في الداخل والخارج فمدمرة مما يجعل من الاختطاف أقرب إلى جريمة الخيانة الوطنية أياً كان التبرير الذي يطرحه المختطف، فتشويه صورة المجتمع اليمني وانتهاك هيبة الدولة يؤديان إلى إحجام الاستثمار الخارجي ويؤديان إلى هروب المستثمرين ويخيفا الخبراء ويهددا السياحة، ويضربا الاقتصاد الوطني في العمق ويزعزعا أمن البلاد واستقرارها.
<<<
وأبرز أنوع الاختطافات هو الذي تمارسه بعض القبائل رغم القول بأن الفعل يهدف إلى التأثير على الدولة أو على شخص معين أو جماعة معينة، إلا أن الفعل في ذاته وإن لم يؤثر على سمعة اليمن، لا أخلاقي ولا علاقة له بالقيم الأصيلة للمجتمع اليمني ويعبر عن الفساد الذي أصاب البنية القبلية والقيم الانتهازية التي يزرعها بعض الطامحين في وعي القبيلة، فالبعض نتيجة عجزه وجهله وتخلفه يقوم بتصوير القبيلة لأبنائها ككيان متفرد بذاته لا علاقة له بالدولة، وأن الدولة يهيمن عليها الآخرين ويستغلون إمكاناتها بمعزل عن قبيلتهم العظيمة والجديرة بنصيب الأسد من الغنيمة، والطريقة الأجدى للحصول على الغنيمة ونيل الحقوق هي مواجهة الدولة وإضعافها وإجبار من يحكمها "بالعنف" على الرضوخ لمن يمثل القبيلة.
الملاحظة الجديرة بالاهتمام أن تعبئة القبيلة من قبل بعض الرموز تتم من خلال تفعيل وعيها العصبوي وثقافة الثأر لا من خلال الآليات المتفق عليها في العقد الاجتماعي المؤسس للدولة حتى يتمكنوا من عزلها وتحويل أعضائها إلى مجرد تابعين عميان معادين للقيم النبيلة التي حافظت على لحمة القبيلة وجعلتها قوة صانعة للحضارة، وعلى أبناء القبائل أن يدركوا أن محاصرة القبيلة وخنقها في ثقافة تقليدية تجاوزها الزمن، الهدف النهائي من ذلك هو تعظيم مصالح الرموز القبلية لا مصالح القبيلة، وعادة ما تبذل الرموز القبلية قصارى جهدها من خلال إخضاع القبيلة لإداراتهم وإقناع مسئولي الدولة أن الرمز القبلي هو أصل القبيلة وقلبها وعقلها، وتحقيق رغباته وطموحاته كفيل بتهدئة أبناء القبيلة.
فالشيخ الانتهازي من يستغل أعراف القبيلة وتقاليدها وسذاجة وبساطة ومصداقية أبناء القبيلة ليس مهموماً بمستقبل القبيلة على المدى البعيد بل بمستقبله ومستقبل أبنائه، بل إنه يعمل على استمرار تخلفها وبث القيم السلبية في وعيها حتى يتمكن من استخدامها وقت الحاجة لتعظيم مصالحه، لذا فالشيخ الانتهازي عندما يتعامل مع الدولة فإنه يبحث عن غنائمها المالية ويسعى لتعظيم نفوذه لا عن الخدمات النافعة لأبناء القبيلة.
<<<
والمتابع للصراع في بنية القبيلة سيلاحظ أن بعض الفئات المتنورة والأصيلة من أبناء القبيلة عندما تحاول تحريك الدولة لتنفيذ المشاريع الخدمية كالتعليم فإن الشيخ يُفعّل القبيلة لقتل النور القادم من خارجها، ويثبط الهمم المتجهة نحو المستقبل من خلال التعليم، ويفتعل المشاكل في بنية القبيلة أو يدفعها في صراعات مع الآخرين ليلهيها عن مصالحها الحقيقية ويحاصر أبناءها في وعي قبلي متخلّف يجعل من أفرادها يقدسون أعراف القبيلة وتقاليدها التي تتجسد في نهاية الأمر في حامي حمى القبيلة، وهذا يسهل له تحويلهم إلى تابعين راضخين لهيمنته بعد أن زيف وعيهم وأقنعهم ان قوته وبروزه وتعاظم مصالحه وتشعب نفوذه يعني انتصار القبيلة ونيلها لحقوقها، والإشكالية أن أبناء القبيلة أصبحوا على قناعة أن قوة القبيلة تتجسد عبر زعيمها.
مع ملاحظة أن الاختطاف آلية يستخدمها بعض رموز القبيلة بهدف لفت الانتباه وأيضا بهدف إدخال القبيلة في صراع مع الدولة حتى يلتف أبناء القبيلة حولهم وبهدف إعادة تعبئتها عصبياً لتتحفز ثقافتها العسكرية المقاتلة حتى يتمكن الشيخ من عزلها عن محيطها واستخدام قوتها في الضغط على الدولة لتحقيق مآربه.
إلا أن الشيخ الانتهازي يلعب لعبته بذكاء ويدير الأزمة بحيث يبدو خارجها، فيرفض الفعل ويجرّم فاعليه، والهدف من ذلك الحدّ من اندفاع الدولة لحسم الفعل الإجرامي بالقوة، ويبدأ عبر شبكات ارتباطاته في المركز بإقناع الدولة بأنه قادر على حسم المشكلة ويهدد بالنصيحة بأن تدخلها بالقوة غير مجدٍ وأن القبيلة قد تدخل في صراع مع الدولة ومن يمثلها في حالة اللجوء إلى القانون الحاكم للدولة، وهنا تبدأ عملية التفاوض والتي تنتهي بإشباع رغبات الخاطف وتعظيم قوة الشيخ، ولا مانع من ضربات موجعة لمن يستعصي على الشيخ بقوة الدولة خصوصاً من يسعى لمنافسة الشيخ ولا يرضخ لإرادته.
<<<
ومن يتابع هذه الظاهرة منذ نشوئها سيجد أن الآليات التي تستخدمها الدولة في مواجهة الاختطاف عادة ما تسهم في تدعيم قوة نقائضها، بل وهذا الأخطر أنها أسهمت في التأسيس لتحالفات نخبوية بين القبيلة وبعض مراكز القوى في المركز والتي أصبحت هي الحامية وربما المشجعة بوعي أو بدون وعي لهذا السلوك الإجرامي، فالملاحظ أن الآلية التفاوضية التي تنتهي دون معاقبة المجرم وسعت من نطاق الظاهرة وعملت على نمو الولاء الشخصي لدى القبيلة وتم ربط ولاءات القبيلة ببعض رموز الدولة لا للدولة، وكل ذلك أدى إلى نمو شعور سلبي تجاه الدولة لدى أبناء القبائل وبأنها جهاز ضعيف وهش لا يحكمه القانون، وهذا ساعد على تكوين فئة انتهازية في الوسط القبلي تحاصر القبيلة من الداخل في وعيها المتخلف وتوظف القبيلة بكليتها في مواجهة الدولة وتحدي شرعيتها وربما الحلم بالهيمنة عليها بعد القضاء على رموز بعينها.
إن التساهل مع الخاطف والتعامل معه بليونة من أعظم المخاطر، لأن الظاهرة تترسخ في الوسط الممارس وتتحول إلى أداة مقبولة في الوعي العام القبلي وهذا ربما يمكن بعض الحاقدين ممن يمتلك المال من اختراق القبيلة وتحويلها إلى أداة لتشويه سمعة اليمن وضرب أمنها القومي في العمق، بل إن التساهل ربما يجعل البعض كالقوى الفاسدة التي قد تواجهها الدولة أن تقوم بتفعيل الاختطاف وتوسيع نطاقه ومستهدفيه واستخدامه كأداة فاعله للحماية والتهديد. وقد يتحول الاختطاف إلى أداة في صراعات المصالح بين التجار أو في المجال السياسي أو بين القوى الاجتماعية، أو أداة للضغط على القوى الثقافية المجددة في المجتمع.
الاختطاف في الراهن لدى ابن القبيلة عمل رجولي مقبول لذا فقد يحترفه الكثير في المستقبل ويمارسون من خلاله الابتزاز بكل أنواعه، وعندما تتوسع الظاهرة سوف تصبح المسألة الأمنية هي المشكلة الكبرى، وهذا سيجعل الدولة شكلاً بلا مضمون وهذا قد يدفع المجتمع تلقائياً ليخلق آلياته الخاصة لحماية نفسه وهنا تصبح الدولة في خبر كان.
<<<
الاختطاف ظاهرة مدمرة للدولة ولهيبتها وسيادتها، لذا فإن مواجهتها بحسم وقوة وتفعيل القانون وإجبار مخالفيه على الرضوخ له بالقوة القاهرة هي الطريقة الكفيلة لإنهاء ظاهرة الاختطاف والقضاء عليها، ولن يختلف مع هذا النهج إلا المجرمون، فالمنطق العقلي والعلمي ومنطوق الشرع الإسلامي ومنطق الدولة وإجماع المجتمع كلها تجرم الظاهرة وتؤكد أن مواجهة المختطفين بالقوة القاهرة ومحاسبتهم ومن يقف وراءهم مسألة لا خلاف عليها.
والخلاصة إن الهجوم وبالقوة الشرعية القاهرة للدولة هو الوسيلة الكفيلة بردع المخالف للقانون والمتحدي لشرعية الدولة، وباعتبار المختطف يمارس سلوكاً اجرامياً مخالفاً للقانون ومهدداً لأمن اليمن واستقراره فإن الهجوم هو الإستراتيجية الناجعة، أما المفاوضات والوساطة ومداراة المخرب فجريمة في حق المجتمع والدولة لأنها لن تقضي على الظاهرة بل تشجع عليها وتؤدي إلى اتساع نطاقها، والواقع خير برهان، فقد تطورت الظاهرة من اختطاف الأجانب إلى اختطاف أبناء التجار إلى اختطاف الأطفال وحتى اختطاف مسئولي الدولة ورجال أمنها والقادم أخطر وأقسى وأشنع.
وأخيرا أتساءل: متى يدرك حاملو إستراتيجية «جيهان الله» ودهن ذقون المجرم بالمال العام أن إستراتيجيتهم العرجاء هي الزيت المحرك للظاهرة والغذاء الذي يمدها بالحياة؟



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن