حق اللجوء الإبداعي إلى دول السوفت وير

توفيق أبو شومر

2009 / 2 / 9

قليلون هم الحكام الذين استعانوا بالمفكرين والمبدعين ، ولعلّ السبب يعود إلى أن السياسة هي نقيضُ الإبداع والفكر، فهي لُعبةٌ من الألعاب، ومكيدةٌ من المكائد ، فإذا مازجت الأدب والفكر والفن ، فإنها تشوه هذه الفنون الإبداعية ، وإذا خالطتْ السياسةُ الإبداعَ، فإنها تقضي عليه بالضربة القاضية.
لذلك ظلَّ كثيرٌ من المبدعين والفلاسفة يرفضون أي منصب سياسي ، لأنهم حين يقبلون المناصب لن يفقدوا إبداعهم فقط ، بل ستشوِّهُهم السياسةُ أيضا .
ولو مارس المفكرون والمبدعون السياسة لقلَّ نصيبهم من الشهرة ، ولعدموا الإبداع ، لأن نقدهم للسياسة والسياسيين كان من أبرز إبداعاتهم
وقد أدرك المفكرون والفلاسفة هذه الحقائق منذ القدم ، وظلوا بعيدين عنها ما أمكنهم ذلك ، غير أن بعضهم أراد أن يجربها فاحترقت أصابعهم بنارها، ومن هؤلاء أفلاطون الذي استعان به حاكم سرقسطة ليعلم الشعب الفلسفة والفكر ، غير أنه حين أشار بإصبع الاتهام إلى الحاكم كعقبة رئيسة في وجه الفكر ، طارده الحاكم وحاول بيعه في سوق الرقيق.
كما أن سقراط من قبله قد جرَّعه الساسةُ السُّمَ ، عندما أتُّهم بأنه يحرض الناس على الثورة.
وشذّ بعض الساسة ممن قرّبوا المفكرين والمبدعين ، وقد يكون ذلك راجعا إلى أنهم كانوا يودون أن يوظِّفوا المفكرين لإطالة مدة حكمهم بواسطة حكمة الفلاسفة ، وآراء المفكرين ، وإبداعات المبدعين ، ومنهم الإسكندر المقدوني ، الذي استعان بأرسطو ليكون معلمه، وفي القرن الثامن عشر حاولت كاترينا الثانية والإسكندر الأكبر في روسيا أن يستفيدا من العلماء والمفكرين ، وبعدهما جاء محمد علي،في مصر وحاول نابليون بونابرت أيضا في القرن الماضي أن يُرسي أول القواعد توظيف العلماء في خدمة الأمراء حينما استقدم معه في حملته على مصر أكثر من خمسمائة عالم في كل التخصصات ليدرسوا مصر ، حتى وإن كانت الغايةُ هي توسيعُ نفوذ نابليون الاستعماري إلا أن ما أنجزوه من اكتشافات كان له أثرٌ في النهضة العالمية الراهنة . ورفع نابليون شعارا ميكافيليا يقول: " باستطاعة الحكام البقاء في الحكم مدة أطول ، إذا تمكنوا من السيطرة على الأقلام" ،
وإدرك كثيرٌ من السياسيين بعد نابليون بأن الفكر والفلسفة والإبداع هي السلالم الحقيقية للتطور والنهوض وأن أي تقدم لا يرتكز عليهما هو تقدمٌ موقوتٌ سريعُ الزوال
فقال الزعيمُ البريطاني ونستون تشرشل:
"بريطانيا مستعدة للتنازل عن كل مستعمراتها ، غير أنها لا يمكن أن تتنازل عن شكسبير"
وأصبحتْ العلوم والأفكار والإبداعات هي الجيوش التي تُهاجم العالم بلا أسلحة وتحتلُّ أوطانا كثيرةً بلا جنود ، وأصبحت الأفكار التي تنتجها مصانعُ الدول المتقدمة ، أهمُ بكثير من مصانع الحديد والصلب والصناعات الحربية الثقيلة ، وتحولت الثروات الحقيقية للدول التي ترغب في الرقي والتقدم من ثروات طبيعية، إلى ثروات جديدة تُسمى ( السوفت وير) أو الإبداعات التكنلوجية ، وهي إحدى أهم منتجات الفكر والفلسفة والإبداع .
والغريب أن هذه الرسالة لم تصل بعد إلى كثيرٍ من الدول التابعة والصغيرة ، والتي حكمت على نفسها أن تعيش مدى الحياة تابعة وظلاً للدول الكبرى ، فأكثر هذه الدول ما تزال تُقصي مفكريها وأدبائها ومبدعيها وتدفعهم إلى الرحيل، إلى حيث الدول المتقدمة التي تمنحهم بسرعة حق اللجوء الإبداعي إليها ، لأنهم سيدخلون بسرعة ضمن دخلها القومي الفكري ، ويصبحون جنودا في جيش السوفت وير .
وما يزال حكام الدول الصغيرة ينظرون إلى المبدعين والكتاب باعتبارهم مرضا خطيرا معديا ينبغي أن يتخلصوا منه بسرعة البرق وإلا تعرَّض حكمهم للدمار والخراب، وفق نظرية نابليون أيضا الذي قال : الفنانون والأدباء مُدلَّلون ، لايجب على الحاكم أن يقربهم ، أو يتزوج منهم "
وما هو أبشع في هذه الدول ،أن كثيرا من حكام هذه الدول يواظبون على تحويل المبدعين والمفكرين إلى موظفين حكوميين ، بعد أن يحاصروهم في أرزاقهم ويجبرونهم أن يتخلوا عن إبداعاتهم ، ويضمونهم إلى جوقة الحاكم الموسيقية ، فيمَّحي إبداعهم ، وتُجبرهم ضائقة العيش أن يعملوا في مهنة جديدة ، وهي تجميل ما يصدرُ عن الحاكم من أقوال، بعد أن يُعقموها من جراثيم ألسنة الحكام المصابة بالجهالة، وتصبحُ مهنتهم الرئيسة هي تبريرُ ما يرتكبه الحكامُ من جرائم وأخطاء في حق شعوبهم رياء وطمعا .
وكثيرٌ من المنشدين في بلاط حكام الدول الحقيرة ، ممن كانوا قبل ذلك مبدعين ، أصبحوا يُنشدون ما يرغب الحاكم في سماعه من أغانٍ وأناشيدَ، لا كما يجب أن يكون الإبداعُ والتفوق والنبوغ.
فالمحللون السياسيون في الدول المتقدمة ، لا يقدمون للسياسيين ما يرغبون فيه ، بل يقودونهم إلى الرؤيا السياسية البعيدة ، وإلى تحقيق أهداف أوطانهم المتقدمة ، ويعارضون الرؤساء والسياسيين إذا شذوا عن أهداف الأوطان السامية .
فما يزال رؤساء كثير من الدول المتقدمة ينتظرون بفارغ الصبر أن يقرؤوا مقالا لكاتب مبدعٍ ومفكر غزير العلم والتجربة، لينير لهم طريق الوصول إلى الغايات البعيدة،
وقد تعلمت إسرائيل من هذه التجربة ، وأصبح سياسيوها ينتظرون مقالات ألكس فايشمان وعكيفا إلدار ودافيد غروسمان وإيلان بابه ، وعاموس عوز وغيرهم كثيرين ، ويستقدمونهم إلى مراكز الأبحاث ليسمعوا وجهات نظرهم .
أما في الدول الأخرى الصغيرة ، فإن سياسييها وحكامها ينتظرون بفارغ الصبر قراءة ما تكتبه جوقة المحللين والمفكرين، لسببٍ مختلفٍ آخر لا للاستفادة من آرائهم ،ولكن لهدفين آخرين؛
الأول هو لغرض التفتيش في مقالاتهم عن نواياهم ومراميهم البعيدة والقريبة، وإعداد ملف اتهام تمهيدا لإلقاء القبض عليهم وتعذيبهم ، والثاني أن يتأملوا صورهم في مقالات مفكريهم من طائفة المكارثيين المأجورين،وكيف جعلهم هؤلاء المأجورون فصيحي اللسان، على الرغم من عيِّهم وجهالتهم، وكيف رسموا صورتهم كحكماء الزمان، وفلاسفة العصر والأوان، على الرغم من تفاهتهم وضحالتهم !
كان مفروضا أن يُؤسِّس الكتابُ والمفكرون والمبدعون في كل الدول الصغيرة جمعياتٍ ومؤسساتٍ إبداعية تأخذ على عاتقها مهمة ؛ منع تحويل المبدعين والكتاب والمفكرين والفلاسفة ، على يد الساسة والحكام إلى خدمٍ في بلاط السلطان ، ومرايا في صالونات قادة الجيوش ورؤساء المخابرات .
سأظلُّ أُردِّدُ قول المفكر الفرنسي كوندرسييه الذي عاش في القرن الثامن عشر :
"إذا آمن الفلاسفةُ بمصلحة بني البشر فإنهم سيشكلون كتيبة قوية في وجه الظلم والطغيان".
وآمل ألا نعودَ إلى العصر الذي سبق التاريخ بخمسة قرون ، حين استغربُ الناس من الفيلسوف الزاهد الرواقي ديوجانس ، وهو يسير في عزّ النهار حاملا مصباحا مضيئا ، فقال حين سأله المستغربون :
" أبحثُ عن إنسان " أرجو ألا نقلده في الدول الصغيرة ، أو أشباه الدول فنقول :
إننا صرنا نحمل المصابيح في الليل والنهار في هذه الدول نبحث عن مفكر أو مبدع أو فنّان " !!



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن