رحلة مع - الجماهر - الى عالم الجواهر - 1 -

عدنان عاكف

2009 / 2 / 4

من التراث العلمي
يشكل كتاب " الجماهر في معرفة الجواهر " لأبي الريحان البيروني إحدى المفارقات الغريبة في تاريخ العلم، والتي تضع القارئ أمام تساؤلات هامة حول مصداقية وموضوعية هذا التاريخ. لقد عرف العالم قبل هذا الكتاب عشرات المؤلفات المكرسة للأحجار والمعادن، وصدرت بعده عشرات الكتب الأخرى. ولكن الكتاب ظل يحتفظ بمركز الصدارة في العالم، من حيث أهميته العلمية، حتى منتصف القرن السادس عشر.1 ومع ذلك نجد ان معظم الباحثين في الغرب (باستثناء بعض الباحثين الروس ومن جمهوريات آسيا الوسطى ) قد التزموا الصمت تجاه هذا الكتاب الهام، في حين لا يبخلوا في الحديث عن كتب أخرى، ليس لها من الناحية العلمية أية أهمية مقارنة بكتاب البيروني. بين يدي أحدث مؤلف بتاريخ علم الجيولوجيا، يحمل عنوان " موسوعة علوم الأرض "، صدر عام 1998. الموسوعة بجزأين ، تضم 902 صفحة، ساهم بإعدادها ما يقرب من 140 باحث أمريكي. انها حقا موسوعة شاملة وفي غاية الأهمية، ليس فقط للمهتمين بتاريخ العلم، بل غنية جدا بمادتها العلمية التي تتناول مختلف الجوانب المتعلقة بكوكب الأرض وموقعه في الكون. مع ذلك أجد نفسي أمام تساؤل كبير عن جدوى متابعة مراحل تطور علم من العلوم اذا استثنينا من هذه المتابعة، ليس فقط كتاب البيروني، بل منجزات مرحلة امتدت قرون عديدة ظهرت خلالها العشرات من المؤلفات التي اهتمت بالمعادن والصخور؟ مع العلم ان الكثير من المعلومات " العلمية " التي وردت في مؤلفات المرحلة التي سبقت مرحلة العلم العربي القروسطيي والمعلومات التي وردت في الكثير من مؤلفات القرون الوسطى وحتى مطلع القرن السادس عشر، التي ضمنتها الموسوعة العلمية المعاصرة ، صنفها البيروني في كتابه في خانة الخرافات والمعتقدات القديمة الخاطئة. هل يمكن للباحث الجاد في تاريخ علم المعادن والأحجار الكريمة ان لا يتساءل عن السبب الحقيقي الذي منع العالم الإنجليزي جورج سميث الذي يعتبر من أشهر علماء المعادن المتخصصين بالأحجار الكريمة في أوربا، ان لا يتوقف ولو بصورة عرضية ولو بسطر يتيم واحد عند تلك المحطة التاريخية الطويلة، التي امتدت زهاء ثمانية قرون، مع العلم يفترض بعالم بوزن سميث انه يعلرف ان قصور القاهرة وبغداد ودمشق وقرطبة واشبيلية والقيروان وغيرها كانت متاحف ومعارض لمختلف الجواهر في العصر الاسلامي الوسيط...
شيء عن الكتاب :
كان المستشرق الألماني فريتز كرنكو أول من قام بتحقيق ونشر الكتاب، بعد ان قام بجمع مخطوطاته. وقد تم نشره عام 1936 في حيدر آباد في الهند. وقد اعتمد على مخطوطتين، استطاع العثور عليهما في حينه. وقد حصل على النسخة الثالثة بعد الانتهاء من تحقيق الكتاب، حيث عثر عليها في مكتبة طوبقابو سراي في استنبول. وقد أعجب كرنكو بهذه النسخة واعتبرها لوحدها كافية لتحقيق الكتاب، وذلك لأن كاتبها، الذيلقب نفسه " ابن الخطيب داريا " كان رجلا عالما باللغة والموضوع، وتمنى لو انه عثر عليها قبل المخطوطتين الأخرتين.
في عام 1995 قام الأستاذ يوسف الهادي بتحقيق الكتاب مرة أخرى بعد أن أخرجه بحلة جديدة مختلفة، مع إضافات كثيرة من الملحقات المهمة والتعليقات التي ساهمت في إغناء المعلومات وتوسيعها وتصحيح الأخطاء التي ظهرت في التحقيق الأول. وقد تم طبعه تحت أشراف مكتب نشر التراث المخطوط التابع لمعاونية الشؤون الثقافية بوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي في جمهورية ايران الإسلامية.
لقد عرف الكتاب بعنوانه الذي ظهر على الغلاف في طبعة حيدرآباد ( الجماهر في معرفة الجواهر ). أما الطبعة الجديدة التي قام بتحقيقها الأستاذ يوسف الهادي فكان بعنوان ( الجماهر في الجواهر ). وقد أشار الى ان العنوان الذي اختاره هو نفس العنوان الموجود على ورقة الغلاف من النسخة التي اتخذها كأساس، وهي المحفوظة في مكتبة طوبقابو سراي في استنبول، وكما هو لدى عبد الرحمن الخازني . وهو كذلك بهذا العنوان عند حاجي خليفة.
من تاريخ علم المعادن:

يعتبر العالم اليوناني تيوفراستوس ( 372 – 288 ق.م. ) صاحب أول رسالة ( لم تصل إلينا ) في المعادن والأحجار2. والمؤلف من أبرز تلامذة أرسطو، وقد سار على منهجه وأخذ برأيه حول تكوين المعادن والأحجار. وقد تضمن كتابهمعلومات متنوعة عن خواص المعادن وفوائدها واستخداماتها، استقى معلوماته من مصادر قديمة مختلفة. ويشير مؤرخ العلوم المشهور جورج سارتون بصدد معلومات الكتاب : " ومن هذه المعلومات ما هو قديم جدا، لعله من مصر، أو من بابل، معلومات من قديم الأزل، أساطير شعبية ترجع الى ما قبل التاريخ، فلا تاخذنا الدهشة حين نجد في ما يقول كلاما بعيد المسافة عن العقل ".
لقد فقدت رسالة تيوفراستوس، كما فقدت الكثير من الرسائل والكتب العلمية عبر التاريخ. ولكن من حسن حظ المؤلف ومن حسن حظنا ان العالم الروماني المعروف بلني الأكبر ( بلينوس ) كان قد اطلع عليها قبل أن تفقد، واعتمدها كمصدر أساسي استقى منها معلوماته عن أكثر من نوع من المعادن والجواهر والأحجار، والتي ضمنها موسوعته الشهيرة " التاريخ الطبيعي ". وعن طريقها انتقلت هذه المعلومات الى الأوربيين .
ولكن قبل عصر النهضة كان البيروني قد وضع مؤلفه " الجماهر " ليضمنه أهم المعلومات التي تجمعت في عصره، إضافة الى ما توصل اليه نفسه من خلال دراساته الخاصة. لقد استطاع البيروني قبل عصر النهضة ان ينقل علم المعادن من مرحلة العلم الوصفي الذي كان يعتمد في الأساس على وصف اللون والصلابة والمكسر، الى مرحلة العلم الدقيق، الذي يعتمد الأرقام والمعادلات الحسابية. فالبيروني كان أول من اعتمد الوزن النوعي في دراسة المعادن وتصنيفها. واذا كانت مرحلة الانتقال هذه قد أخذت من عمر الإنسانية زهاء سبعة قرون فان الذنب لم يكن ذنبه. فالعلماء في الشرق، الذين جاءوا من بعده، لم يطوروا الطرائق التي استخدمها في البحث، أما في أوربا فان العلماء أنفقوا قرون عديدة لتكرار واجترار معلومات بلني وتيوفراستوس، ولم يتوصلوا الى نتائج قياسات الوزن النوعي، وبالدقة التي توصل اليها البيروني إلا في القرن الثامن عشر3. ومع كل ذلك فان المهتمين في تاريخ علم المعادن غالبا ما يتجاهلون كتاب " الجماهر " أو يكتفون بالإشارة اليه بشكل عرضي، في حين لا يخلو كتاب حديث من اقتباسات مطولة من كتاب بلني الأكبر، الذي لا يزال الكثير من الباحثين يعتبره المصدر الذي يعكس لنا المعارف التي توصل اليها الإنسان عن المعادن حتى عصر النهضة4. سنحاول ان نتعرف على كتاب " الجماهر " ومن خلاله سنتعرف على جواهر ذلك العصر البعيد.
البيروني والمعادن :

عاش البيروني في مرحلة بلغت فيها الحضارة الإسلامية أوجها، رغم الاضطراب الذي شهدته الحياة السياسية والاجتماعية. ولئن كانت الثمار السياسية قد تساقطت في القرن الرابع،فإن الثمار العلمية قد نضجت فيه...
وفي هذا العصر أيضا واصل الحكام والأمراء والوزراء مسيرة أسلافهم في السباق لجمع الذهب والمال والجواهر النادرة. فالملوك كما يقول البيروني كانوا : " أحوج الناس الى جمع المال، لأنهم بها يملكون الأزمة، ويسيرون الأعنة "5. فتحولت القصور الى متاحف تزخر بالأحجار الكريمة النادرة، والجواهر النفيسة. وتحول أصحاب تلك القصور من الرجال والنساء الى معارض متنقلة لأنفس الجواهر التي عرفها العالم. ولم تكن القصور بعيدة عن البيروني، ذلك العالم الهادئ البسيط المتواضع، المنكفئ على نفسه. فقد اضطرته الظروف السياسية ان يعيش في قصور الخلفاء والسلاطين ردهة طويلة من الزمن، واجبر على التنقل من قصر الى آخر، واضطر تحت وطأة الأحداث السياسية المتقلبة ان ينتقل من أكثر من مدينة وأكثر من ولاية، إما هربا من ظلم الأمير ، أو أسيرا بين يدي السلطان..
وفي هذه القصور ( المتاحف ) تعرف البيروني على المعادن والأحجار الكريمة، التي جمعت من مختلف بقاع العالم. كان الشيخ في ليالي السمر يستمع الى ضيوف الأمير وهم يروون أخبار الجواهر ونوادرها، ويتابع بعينين ذكيتين ما كان يعرض منها. وبعد ان تعقد الصفقات، ويتفرق التجار والوزراء، ويهجع الأمير الى فراشه بجنب جاريته الشابة بعد ان يقلدها " الكردان " النفيس الذي ابتاعه لتوه، ينزوي البيروني في مكتبه، الذي كان كما يبدو عامرا بالكتب والمخطوطات، ليواصل سهرته الخاصة. وهناك، وعلى ضوء السراج الخافت كان يستعيد ما سمعه من أخبار وأساطير ونوادر، ويسجل ملاحظاته عن ما شاهده، ثم يبدأ بفرز ما هو معقول ويقبله العقل عن الأساطير وأكاذيب التجار.
لقد ألف البيروني كتاب " الجماهر " في شيخوخته، وكان حينئذ يقارب الثمانين من عمره. ولكن المعلومات الواردة في الكتاب تشير الى انه قد أعد له طويلا، وجمع معلوماته من شتى بقاع العالم، ومن مصادر يونانية وهندية وفارسية، إضافة الى المصادر العربية التي كانت هي المصدر الأساسي. ويضاف الى ذلك نتائج دراساته وتجاربه وقياساته المتنوعة.
بالإضافة الى المصادر العلمية، فقد كانت بين يديه مجموعة كبيرة من دواوين الشعر وكتب الأدب والتاريخ. وليس من المستبعد انه بحث عن دواوين الشعر خصيصا من أجل استكمال معلوماته للكتاب، الذي تضمن أكثر من 300 بيت من الشعر العربي، و الفارسي، التي تعود الى عصور مختلفة – من شعراء الجاهلية ( امرئ القيس وعنترة وغيرهما ) وحتى الشعراء الذين عاصرهم. وليس هذا الأمر مستبعد عن العالم الكبير، الذي قضى أكثر من أربعين سنة في البحث عن نسخة من كتاب قديم كان بحاجة اليه.6ولا يقتصر هذا الشعر على وصف الجواهر وألوانها الزاهية والجميلة، بل يشتمل أيضا على معلومات في غاية الأهمية بشأن جوانب نظرية تتعلق بأصل المعادن والصخور وظروف تكوينها.
يقول أبو الريحان بشأن مصادر كتابه :
" ولم يقع إليً من هذا الفن غير كتاب أبي يوسف ابن اسحاق الكندي في الجواهر والأشباه فقد أفرغ فيها قدرته، وأظهر ذروته، كاختراع البدائع في كل ما وصلت اليه يده من سائر الفنون، فهو إمام المحدثين وأسوة الباقين – ثم مقالة لنصر بن يعقوب الدينوري الكاتب لها بالفارسية لمن لم يهتد لغيرها، وهو تابع الكندي في أكثرها – وسأجتهد في ألا ً يند عني شيء في مقالتيهما مع مسموع لي من غيرهما "..
وينتقل بعد ذلك في نفس المقدمة، الى أسماء بعض الجوهريين الذين اشتهروا في المروانية والعباسية، وهم عون العبادي، وأيوب السود البصري، وبشر بن شاذان، وصباح، ويعقوب الكندي، وابن الجصاص، وابن خباب، وابن بهلول، ورأس الدنيا.
ومن خلال قراءة الكتاب نستنتج انه استعان بمؤلفات كثيرة أخرى، من أهمها كتاب " منافع الأحجار " لعطارد بن محمد الحسيب، وكتاب " الأحجار " المنسوب لأرسطو، وأبو بكر بن زكريا الرازي ، وجالينوس، وحمزة والخطيب وغيرهم.
لهذه المعلومات أهميتها التاريخية. ان التقويم الرفيع الذي يخص به فيلسوف العرب الأول الكندي له أكثر من مدلول. لقد أجمع الباحثون المعاصرون على ان الكندي كان من أبرز علماء الطبيعة، في المرحلة الأولى لنشوء الحضارة الإسلامية، ومن رواد هذه الحضارة. لذلك فان آراءه تعكس المستوى الذي بلغته الحضارة الإسلامية في مراحلها الأولى. لذا فان احتلال رسالته " في المعادن والأشباه " مركز الصدارة عند البيروني يؤكد بما لا يدعو الى الشك، على قدم وأصالة معارف العرب في الأحجار الكريمة والمعادن...
ونحن هنا لا نريد ان ندخل في جدل عقيم مع بعض المستشرقين الذين يروجون لفكرة خاطئة تستهدف النيل من العرب، وهي الفكرة التي تقول ان جميع مؤسسي العلم والحضارة الإسلامية لم يكونوا من أصل عربي. أمامنا شهادة قديمة يقدمها عالم إسلامي كبير، ومن مبدعي تلك الحضارة، وكتب معظم مؤلفاته باللغة العربية،7 بالرغم من كونه لم يكن من اصل عربي، ويجيد اللغة الفارسية ولغات أخرى، تؤكد على ان مقالة نصر الدينوري ( من اصل فارسي ) التي كتبت بالفارسية كانت في معظم معلوماتها تابعة لكتاب الكندي ولغيره من الجوهريين العرب الذين عاشوا في زمن الدولة الأموية والعباسية.
أما المصادر اليونانية والرومانية، التي كانت بين يدي البيروني، والتي أشار اليها في المقدمة فهي، باستثناء كتاب أرسطو، تعتبر من المصادر الثانوية، والتي كانت أقرب الى كتب طبية وكتب في الصيدلة، أي كانت من الكتب التي تبحث في الأساس عن استخدام المعادن في المجالات الطبية والكيميائية. وحتى كتاب أرسطو، فان الدراسات الحديثة أثبتت انه من الكتب المنحولة اليه، وهو في الأرجح ذو أصل سوري أو فارسي.8 وجدير بالذكر ان البيروني في كتاب " الجماهر " قد شكك في عائديته الى أرسطو..9
من جهة أخرى تشير مقدمة " الجماهر " الى غياب أهم مصدرين يونانيين عن المعادن والجواهر، وهما رسالة تيوفراستوس، وموسوعة بلني، الذي بقي معتمدا في أوربا كمصدر أساسي حتى عصر النهضة. مما يدل على ان العلماء العرب لم يطلعوا على هذين الكتابين. ولم يرد ذكر بلني إلا في كتاب التيفاشي الذي توفي في سنة 651 هـ ، أي بعد وفاة البيروني بأكثر من قرنين..10
لذلك كان تأثير المصادر اليونانية والرومانية في المراحل الأولى لنشوء وازدهار الحضارة العربية الإسلامية كان محدودا، وقد انتقلت المعلومات عن مصادر ثانوية بأهميتها، وربما أيضا عن طرق غير مباشرة.
تبقى هناك ملاحظة تتعلق بالمصادر الهندية. فالهند كما هو معروف قد اشتهرت بالأحجار الكريمة منذ أقدم العصور. ومن الهند كانت تخرج الكثير من هذه الأحجار لتجد طريقها الى بقاع مختلفة من العالم. ومن الهند خرجت الماسات النادرة لترصع تيجان الكثير من الملوك، بعد فتحها من قبل القائد اليوناني الكسندر الأكبر. وقد عاش البيروني في الهند سنوات طويلة، حيث كان السلطان محمود الغزنوي يجبره على مرافقته في غزواته المتكررة لهذه البلاد. وكان أبو الريحان من أوسع علماء الإسلام إطلاعا على تاريخ الهند وحضارتها وعلومها. ويعتبر كتابه القيم " الهند " من أهم المصادر القديمة التي يعتمدها الباحثون في العصر الحديث عن حضارة الهند، ويشكل المصدر الأساسي في الدراسات الحديثة المتخصصة في مقارنة الأديان. وقد استعان البيروني عند تأليفه الكتاب ( وقد ألفه عندما كان في الهند ) بمعلومات متنوعة، استقاها من مصادر هندية مختلفة. غير ان هذه المعلومات تشكل أهمية ثانوية أيضا، وتنحصر أساسا في الجانب الوصفي، والتوزيع الجغرافي لبعض الأحجار، إضافة الى أخبار ونوادر وأساطير عن المعادن والجواهر. والفلكلور الهندي زاخر بمثل هذه المعلومات.
ما الذي تقوله لنا هذه المعلومات ؟ علينا الحذر قبل كل شيء من مغبة الوقوع في دائرة الفعل ورد الفعل، وحصر الموضوع في إطار الدفاع عن العرب وحضارتهم، وإنكار تأثير الأقوام الأخرى على نشوء وتطور المعارف عند العرب. في هذه الحالة نكون قد انطلقنا من المنطلق اللاموضوعي الذي ينطلق منه المستشرقون الذين يسعون لنفي طابع الأصالة في معارف العرب، وحصر دورهم في النقل والترجمة. كل ما نسعى اليه هو وضع هذا التأثير في إطاره الحقيقي ومنحه حجمه الفعلي، والذي نعتقد انه شوه وبولغ فيه كثيرا.
لقد ورث العرب معلومات كثيرة عن المعادن، استقوها من مختلف البلدان. واذا كانت العلوم اليونانية التي انتقلت الى العرب عن طريق الكتب يمكن متابعتها بسهولة ( نسبية )، فان الأمر يختلف مع المنابع الأخرى التي نهل منها العرب، عن طريق الاحتكاك المباشر. تشير المصادر التاريخية الى وجود علاقة تجارية بين شبه جزيرة العرب والهند وبلاد ما بين النهرين من الألف الثالث ق.م. بالإضافة الى العلاقة التي كانت تربط بلاد العرب بجزر الهند الشرقية والفلبين والصين، حيث كانت تجارة الجواهر واللؤلؤ تحتل موقعا متميزا.11
وانتقلت الى العرب بعض المعارف النظرية في مجال الكيمياء وعلم المعادن من الهند والصين.12 ومن بين أهم النظريات والفرضيات التي تركت بصماتها على علماء الطبيعة المسلمين هي نظرية العناصر الربعة، ونظرية الإكسير، الى جانب فكرة أرسطو حول تأثير الكواكب على تكوين الأحجار والمعادن.
ولكن تبقى الخبرة المتوارثة والتجربة المكتسبة تشكل المنبع الأساسي والأهم لمعارف العرب والمسلمين في مجال المعادن والجواهر. لقد اشتهرت شبه جزيرة العرب بالكثير من المعادن والجواهر النفيسة، وبقي اللؤلؤ المستخرج من شواطئ الخليج العربي يعتبر من أجود أنواع اللؤلؤ في العالم، حتى قضت عليه الثروة النفطية. ومنذ اقدم العصور استخدم المصريون القدامى وسكان بلاد الرافدين الجواهر والحلى، والتي كانوا اما يستخرجوها من مناجمهم أو يستوردوها من بلدان أخرى. ومن العرب تعلم الإغريق قطع الأحجار ونحتها وصقلها، حتى برعوا في معالجتها. وتقدموا تقدما كبيرا من حيث الأسلوب الفني واختيار الموضوع. ثم جاء الإسلام، وأقام دولة مترامية الأطراف غنية بمختلف أنواع المعادن والجواهر. ومع مرور الزمن أخذت الخبرات والمعارف المتوارثة في بلاد العرب وبلاد فارس وبلدان آسيا الوسطى، وبلدان شمال أفريقيا تتفاعل وتغتني وتتعمق. ويؤكد كتاب البيروني على ان الخبرة المحلية كانت الأساس الذي اعتمده العلماء المسلمون في تطوير مداركهم ومعارفهم عن المعادن. واذا كان البيروني قد أشار الى بعض الأسماء اللامعة فهناك عشرات الأسماء التي تكاد تكون مجهولة جرت الإشارة اليهم أيضا. ولم يهمل الفلكلور والآراء الشعبية المتداولة بين الناس، واعتبرها من المصادر المعرفية أيضا. ويقدم لنا الشعر العربي القديم، الذي اعتمده دليلا إضافيا على سعة انتشار المعلومات عن المعادن بين الناس. ولا يقتصر دور هذا الشعر على وصف اللون والشكل والمظهر الخارجي، بل يتناول مواضيع أخرى تتعلق بانتشار المعادن ونشأتها وطبيعة تواجدها في القشرة الأرضية ووسائل استخراجها ومعالجتها...
وعندما نتحدث عن المعادن والجواهر في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري ومطلع القرن الخامس يجب علينا أن لا ننسى طبيعة المجتمع الجديد. لقد احتلت الجواهر، وخاصة بعد نشوء الأرستقراطية المترفة في العصر الأموي موقعا خاصا في حياة الأمراء وأصحاب الثروة والنفوذ. وفي العصر العباسي أصبحت بغداد معرضا لأنفس وأندر أنواع الجواهر، وغدت سوقا عالمية للأحجار الكريمة. ويحدثنا المسعودي وابن الأثير وابن خلدون عن حياة الترف والبذخ والمكانة التي احتلتها الجواهر عند الأمويين والعباسيين وأهل الأندلس والفاطميين. ولم يكتف العباسيون في اتخاذ الجواهر حليا لنسائهم ولأنفسهم، بل استخدموها في ترصيع الأسرة الذهبية ونسج الفرش بالذهب وتكليلها بالدر والياقوت..13
ولم يقتصر التطور على الجواهر فقط بل شمل الطلب على المعادن والصخور المستخدمة في الصناعات الجديدة، مثل الحديد والزئبق والنحاس والرصاص، وما يدخل في صناعة مواد البناء والزجاج، وغيرها. ومع ازدياد الطلب على المعادن والجواهر تطورت وسائل البحث والتنقيب عنها، وتطورت وسائل معالجتها وصقلها، وأضحت هناك حاجة ماسة الى ظهور مواصفات جديدة لتحديد خواص المعادن ومواصفاتها وتصنيفها. وخاصة للتمييز بين الجواهر الأصلية والمغشوشة. فعكف العلماء والمختصون على إجراء التجارب ومعالجة المعادن والجواهر بالنار والحوامض والأملاح المختلفة. وتطورت عملية نحت الوجوه وصقلها وعمليات النقش والترصيع ومعالجة العيوب والشقوق والشوائب. ويبقى أهم ما تم التوصل اليه في المجال العملي هو استخدام الوزن النوعي لدراسة المعادن لأول مرة في التاريخ. وقد شكلت هذه الخطوة طفرة نوعية في تطور علم المعادن، إذ نقلته من الدراسة الوصفية الى الدراسة النوعية التي تعتمد على الأرقام الدقيقة. كل هذا قد أسهم بشكل كبير في تطوير المعارف النظرية والعملية على حد سواء...



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن