الحقيقة المرّة

هشام نفاع
hishamnaffa@yahoo.com

2009 / 1 / 11

أثبت العدوان الهمجي الاسرائيلي على قطاع غزة، مجددًا، أن المشكلة تتجاوز سياسات إسرائيل الرسمية. بل هي تمتدّ عميقًا في المجتمع الاسرائيلي بغالبيته الساحقة. قبل سنتين ونصف السنة، نجحت المؤسسة الاسرائيلية بسهولة كبيرة في وضع المجتمع الاسرائيلي كله تقريبًا، في طابور واحد داعم وزاعقٍ للحرب العدوانية على لبنان – تموز 2006.



كان المشهد مخيفًا، فبعد عقود من سياسات الحرب والتوّسع والقتل والتدمير والعدوان الفاشلة، لم يتبيّن فقط أن حكّام اسرائيل لم يتعلّموا أيّ درس، بل ان المجتمع برمّته تقريبًا فاقدٌ لأي ذاكرة أو رشد أو يقظة. بدا المشهد مأخوذًا من وحي دولة سبارطة اليونانية القديمة، حيث كل شيء وكل فرد مجنّد لآلهة الحرب.
مضت الأيام والشهور ورأى المجتمع الاسرائيلي بوضوح أن الحرب كانت خطأ كبيرًا. وانهال سيل الانتقادات على الحكومة حتى كادت تتقوّض. وبرز بالأساس حشد الصحفيين الاسرائيليين بنقدهم اللاذع للحكومة والجيش، مع أنهم في أول أيام تلك الحرب على لبنان لم يكونوا أكثر من بوقٍ زاعق تافه يمجّد الحكومة والجيش والحرب. بالطبع، فلم يأتِ النقد لأن هناك من استوعب بشاعة العدوان، بل لأن الجيش لم ينتصر!
مرّت سنتان ونصف السنة، وعاد المشهد البشع نفسه ليتكرّر في غزة. حكومة ترسل جيشًا لاقتراف عدوان دموي بل مجزريّ، وتنجح في صَفّ مجتمع بأكمله في طابور واحد مهلّل للقتل بعيون معميّة وبصيرة منغلقة. ولا حاجة للتوقّف مطوّلا عند سلوك الصحفيين (فيما عدا من يمكن عدّهم على أصابع يد واحدة) وقد تجنّدوا بخسّة وجبن خلف سادة الحرب والقتل وقد انعقدت ألسنتهم إلا عن النفاق لسياسة الموت.
ليس هذا تعميمًا غاضبًا. فكلّ بيت تقريبًا في هذه الدولة مجنّد للعدوان الدموي على غزة فعليًا. مجتمع بأكمله يسلك كأداة طيّعة عديمة الحول والقوّة والوعي بأيدي حكّامه. صوت النقد والشك وحتى التساؤل مفقود تمامًا. العجز عن رؤية العلاقة بين القسّام يدويّ الصنع وبين الحصار القاتل والمهين على غزة لا يكشف غباء جماعيًا اسرائيليًا، بل يكشف عن مجتمع أنانيّ منغلق جبان يهرب من الحقيقة. أما الأصوات الضئيلة التي تتجرّأ على الخروج من القطيع فتضيع وسط ضجيج طقس التمجيد الوثني للقتل والعدوان.



الجيش يقتل بالصواريخ 40 انسانًا، جميعهم مدنيون، داخل مدرسة في غزة، لكن الخبر يمرّ برتابة فظيعة في تقارير القنوات الاسرائيلية. بعدها بدقيقتين لا يتورّع الصحفيون وضيوفهم في الاستوديوهات عن تبادل بعض الابتسامات والنكات الخفيفة مع انتقالهم الى النبأ التالي. بين النشرة والنشرة تتوالى البرامج عن الطبخ والرحلات وشتى المستحضرات والتفاهات، بينما المجتمع الاسرائيلي يواصل دوره المرسوم كمشاهد، برتابة بليدة ومشاعر متبلّدة باردة. حكامه وجيشه يقتلون أطفال ونساء ورجال جيرانهم في غزة، لكن هذا لا يهزّ في قطيع المشاهدين البليدين أي ضمير ولا يثير أيّ قلق.
ليس الحديث عن اليهود كشعب. الأمر غير متعلّق بالأعراق، بل بالتشوّه الأخلاقي الذي يضرب مجتمعَ أغلبية في دولة احتلال، يتصرّف بأنانية وانغلاق، ويغوص في ثقافة النهم والاستهلاك والمنفعة الذاتية الرخيصة.
تفطن للحظة قصيرة بالديمقراطية، فتكاد معدتك تنقلب وأنت ترى دولة بأكملها مصبوغة بلون القتل والتدمير. تبحث عن معنى المواطنة وعن وجوه المواطنين، فلا ترى سوى أشباح أحاديّة المظهر تتداخل معًا في كتلة عديمة الوجوه.



الحقيقة مرّة. ربما هذا هو طعم الحقيقة حين تطلّ من قلب الحضيض. فمنظومة الحرب في اسرائيل، التي باتت هوسًا مرَضيًا، لا يمكن إلقاء المسؤولية عنها على عاتق "الحكام" و"المؤسسة" وما شابه، فحسب. بشاعة اللحظة لا تحتمل أيّ تجميل أو تخفيف. إن هذا المجتمع الاسرائيلي يتصرّف كمريض مصاب بالعمى الأخلاقي والسياسي، وهو مُنقاد الى حتفه فيما هو يهلّل للموت ويرقص رقصة الموت ويسجد لآلهة الموت.
من المرعب التيقّن مجددًا أن هؤلاء لم يتعلموا شيئًا رغم كل دماء الماضي البعيد والقريب، ومن المرعب التفكير أنهم سيسلكون بالعمى نفسه في العدوان القادم..
بقي أن العلاج الوحيد لهذا المرض الجماعي هو نفس العلاج الذي لا يزال المريض يرفضه: إنهاء الاحتلال الكولونيالي واحترام جميع الحقوق الفلسطينية كاملةً. ولا مفرّ من فرض هذا العلاج عليه، سواء شاء أم أبى. هناك أمراض تحتاج لعلاجات قسريّة بالصدمة!




https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن