أحاديث في الحالة السورية!

مرزوق الحلبي
marzuqh@gmail.com

2009 / 1 / 8

لعلّ سورية بنظامها وحضورها وما تنتجه اليوم من تداعيات كلما ذُكرت تشكّل النموذج الأخير للمشروع القومي العربي بصيغته البعثية، بالضبط كما تشكّل كوبا آخر نموذج للشيوعية السوفييتية. ومن هنا فإن الحالة السورية تشدّ إليها الأنظار ليس لأنها قِبلة لشيء بل لأنها تشكّل آخِرا لشيء، مثالا لتداعي شيء ما، لانتهاء مرحلة. وهو ما يدلنا عليه أداؤها في لبنان القائم على الهيمنة بامتياز، وأكثر أداء النظام السياسي فيها على الصعيدين الداخلي والخارجي. فهي تشكّل مثالا مدهشا في أمانته لنظام عربي يتستّر بإنشاءات "المقاومة" و"الممانعة" و"الصمود" و"التصدي" فيما هو يتكتك ويحفظ أمن شمال إسرائيل كما لم تحفظه أي دولة عربية أخرى! ومثال على ذلك تقاسم الأدوار مع إسرائيل على الأرض اللبنانية منذ العام 1982 إلى حين خروج القوات السورية من لبنان، أو أنها تشارك في قوات التحالف الدولية في غزوة العراق الأولى طمعا في وعد أمريكي بتسوية في الجولان ودمج في النظام الشرق أوسطي الجديد! هذا ناهيك عن صمت سوري تام حيال انتهاكات إسرائيلية متعددة للسيادة السورية كان آخرها قصف إحدى المنشآت شمال سورية في أيلول الماضي. ونستدرك للإشارة أن في كل مرة كانت إسرائيل تنتهك السيادة السورية أطلق النظام جملته المكرورة: "نحتفظ لأنفسنا حق الردّ في الوقت والمكان المناسبين"، حتى الانتهاك المقبل. وهو تجسيد متكامل لنظام عربي يتلفّع بادعاءات "الاشتراكية" و"التقدمية" و"الحرية" و"الكرامة الوطنية" فيما هو يُخضع الإنسان والمواطن إلى ما أصاب بطل رواية "الأرجوحة" لمحمد الماغوط أو بطل رائعة عبد الرحمن منيف في "شرق المتوسط"! أي، في حين كان النظام في سورية يرفع سقف خطاب الحريات والكرامات عاليا في كل مناسبة، ديست كرامات المواطن والحريات في سورية بغير مناسبة! وفي وقت كنا نشاهد فيه صور المسؤولين السوريين يدشنون مشروعا في الريف وآخر في الصحراء، كان الفقر يتسع رقعة أخرى ويزداد المرابون وأثرياء الاقتصاد الريعي ثراء.

صحيح أن هذه ليست الصورة بكاملها أو بتفاصيلها خاصة أننا لسنا بصدد التأريخ أو رصد متغيرات ومراحل ما قبل الثورة التصحيحية أو ما بعدها، ما قبل "ربيع" دمشق أو ما بعده، لكننا نتابع الحالة السورية كجزء من متابعتنا حال العالم العربي القريب والبعيد على أمل أن يشرق هنا حاكم أو ترقى هناك دولة. ولا يضرنا أن نعترف أننا شاميو الهوى تحدّرنا من ربوع حلب ولا يزال الرابط الوشائجي فينا حاضرا كلما هب الهواء! ولا يضرنا أن نعترف أن نصيبنا من هذا الرابط غصة تلو غصّة يجرّعنا إياها النظام السوري بإحكام المجرّب الخبير لصنوف الغصّات واليأس والقنوط. الأمر الذي يدفعنا باتجاه الانضمام إلى الوطنيين والمواطنين السوريين في نقد النظام ومثالبه مخترقين الستار الدخاني الكثيف للإنشاءات الكلامية عن صمود" مرة، وعن "حرية واشتراكية" مرة أخرى! فما معنى أن يدعي نظام صمودا أو حرية بينما هو أسرع من سهم في إغلاق مواقع إنترنيت أو التقاط مواطن من على قارعة الطريق وقيادته إلى مكان مجهول لمجرّد أنه فكّر برومانسية عن ثورة موعودة أو تحدث بعتب عن أمن غذائي مهزوز؟ وماذا يعني الصمود والتصدي لنظام يحاكم كتابا وصحفيين وناشطين بدعوى "إضعاف الشعور الوطني"ّ أو "القذف والتشهير بحق النظام والدولة". فمثل هذه التهم تناسب أنظمة فاشية أو شيوعية من أسوأ طراز. ويذكرني هذا بحوار مع عضو برلمان عربي سابق في إسرائيل همّ بزيارة سورية مع نشطاء آخرين، فسألته وماذا ستقولون لبشار الأسد عندما ستلتقونه؟ هل ستسألونه عن المعتقلين السياسيين أو عن نظام المخابرات ومصادرة الحريات السياسية والفكرية؟ هل ستطرحون أمامه مسألة رياض سيف وميشال كيلو مثلا؟ وأضفت إذا كانت الزيارة ستسمح بمثل هذه الأسئلة فاذهبوا في درك الله، وإلا فلماذا تذهبون! قابلوا بشار الأسد يومها وشاهدت صورهم معه على الشاشة مثل غيري لكني حتى الآن لم أتلق جوابا! وفهمت أن قلة الجواب جواب!

إن الحالة السورية لم تبق في حدود الوطن السوري. فقد كشفت ظاهرة مرافقة لا تقلّ خطورة على الثقافة السياسية العربية. فرغم ما تكشّف من قمع للحريات ودوس للحقوق وانتهاك للكرامات في المعتقلات السورية، ورغم ما تبدى من شطط للنظام وتقهقره إلى نظام متقادم يُهدر طاقات البلد ويضيّع الفرص ويستأثر بالموارد لصالح فئة قليلة، ورغم ما اتضح من دور قمعي للنظام في لبنان وإمساكه بعنق وطن عربي جار ووضع لوائح سوداء بقياداته ووطنييه وأحراره، وجدنا أن جماعة من مدّعي الحرية والتحرير في العالم العربي وإسرائيل يصدرون كل نهاية أسبوع، أو في كل إطلالة فضائية صكّ براءة للنظام السوري ويتمرمغون على إنشاءاته ويستطيبون المكوث في ازدواجية رسالته! وكل هذا باسم "الممانعة" و"مقاومة" المشروع الإسرائيلي ـ الأمريكي في المنطقة! ومن هؤلاء قلة من عندنا تناضل ضد القهر الإسرائيلي بأدوات إسرائيلية ومن خلال الإعلام الإسرائيلي العبري والعربي وبموجب، حريات يوفّرها ويضمنها القانون والقضاء الإسرائيلين، فيما هي تستهين بضحايا القمع في سورية وبكراماتهم. بدلالة أنها لم تشر ولو مرة، من طرف خفي أو معلن إلى قمع الحريات السياسية وانتهاك الحقوق المواطنية في سورية. وفي هذا يبدون كالنظام السوري، يدّعي مقارعة الهيمنة الأمريكية لكنه يفرض هيمنته على مواطنيه بالقوة والقمع والسجون والمنافي! ومن المفارقات المبكية المضحكة أن الحريات السياسية للمناضلين العرب في إسرائيل ضد سياسات النُخب الإسرائيلية محمية في القانون والعُرف القضائي لا سيما حرية التعبير والانتظام، أكثر بما لا يقاس من الحريات في سورية التي يدافعون عن نظامها. ولا يُمكن لهذا الدفاع في مثل هذه الحالة إلا أن يُعتبر دفاعا عن القمع والاستبداد، وتبريرا غير ذكي لتحويل ناشطين سياسيين وحقوقيين إلى الإقامات الجبرية والسجون والمعتقلات في وقت كفّت السلطات في إسرائيل عن اعتماد مثل هذه الإجراءت بحقنا في بداية الثمانينات عدا حالات متفرّقة هنا وهناك! لا أقول هذا لتبييض صفحة سياسات القهر التي تعتمدها النُخب اليهودية في إسرائيل ضد المواطنين العرب فيها بل لتبيان ازدواجية المعايير لدى نُخب عروبية عندنا، تناضل ضد القمع هنا وهناك وتبرره في سورية! تدعي حماية الحقوق الجماعية هنا أو هناك وتعطي الضوء الأخضر للنظام في سورية لدوس حقوق الأكراد في القامشلي!

ثقافة سياسية معطوبة تصرّ، لضرورات التكتيك والمصالح والتحالفات والصفقات، على الفصل بين السياسة والأخلاق، بين القول والفعل، بين الادعاء والممارسة! فيبدو العالم متاهة أو زنزانة أو رواقا للمخابرات في مكان غير موجود! وهي متاهة لا بدّ أن تضيّع خالقها كما حدث للاتحاد السوفييتي العظيم والدول في فلكه. وهذا ليس من قبيل النقاش حول أيديولوجيات وعقائد بقدر ما هو تأشير إلى بؤس النظام العربي كما تُجسّده سورية اليوم، وإلى ضرورة أن تُحاسب وتتم مساءلة نظامها المنحسر وفكره الجامد المستبدّ. وسنسجّله إشارة تضامن مع كل النشطاء الديمقراطيين والحقوقيين السوريين ضحايا النظام. أما الحقوق السورية لدى إسرائيل، ووجودنا في الجهة التي يقع عليها القهر الإسرائيلي من حين لحين، فلا يُمكنه أن يحجب عنا رؤية أخوة لنا في الوطنية والإنسانية مشت فوق حقوقهم وكراماتهم وحرياتهم دواليب المخابرات السورية وكرابيجها. نؤكّد هذا في وقت لا يزال بعض عقلاء فينا يعتقدون أنه لا يزال بالإمكان تأجيل ضمان كرامة الإنسان العربي وحرياته، بل وتعليق وجوده، كرمة لادعاء هذا النظام أو تلك الجهة أن الأولوية لـ"مقاومة" إسرائيل! وكانوا ادعوا بالعقلية ذاتها أنه بالإمكان تعليق حقوق المرأة ريثما تتحرر الأوطان!
(دالية الكرمل)
marzuqh@gmail.com





https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن