زيوف أقحمت لتشويه الماركسية

سعيد مضيه
madhiehs@ymail.com

2008 / 12 / 13

زيوف أقحمت لتشويه الماركسية
الحلقة الثانية من عرض كتاب الباحث مازن الحسيني " ماركس والديمقراطية". وكانت الحلقة الأولى قد نشرت على الموقع يوم الأربعاء الماضي.

نظرا لرسالة الماركسية الاجتماعية فقد ناصبتها البرجوازية ومؤسساتها العداء. لم تتصالح البرجوازية مع الفكر الماركسي في أي حقبة زمنية، وما زالت تناصبها العداء جهارا. ودعوة البرجوازية للتسامح وتقبل الآخر إنما تقف عند تخوم الفكر الماركسي والسياسات الماركسية . وفي حينه قال لينين إذا مدحتك البرجوازية فعليك مراجعة تصرفاتك.
رغم معارضة البرجوازية دخل الفكر الماركسي المؤسسات الأكاديمية، لكن التشويهات والتحريفات لم تتوقف، حتى والأبحاث تدعي النزاهة العلمية والبحث عن الحقيقة. لم تتوقف العروض المشوهة للماركسية.لم يكن بإمكان باحث في علوم الاقتصاد والمجتمع والقضايا الإنسانية والعلوم السياسية والتربية أن يتجاهل الماركسية، ولم يعرض المواقف الماركسية ، مواقف المادية الجدلية بأمانة ونزاهة علميتين. والأكثرية الساحقة من البشر تعرفت على الماركسية من خلال خصومها لأنهم الأقدر في مجال الدعاية والنشر. البعض رأى في الهجمات المتواترة على الماركسية والشيوعيين حافزا للتعرف عليها مباشرة، بينما الأغلبية اكتفت بما وصل إلى مداركها، فبقيت معرفتها مشوهة بالماركسية. رغم ذلك كله، يقول كتاب " ماركس والديمقراطية" أن ماركس هو المفكر الأهم والأكثر تأثيرا في الفكر الاقتصادي والاجتماعي بلا منازع، وذلك في " استطلاع أجرته هيئة الإذاعة البريطانية عام 1999بمناسبة بدء الألفية الجديدة حول أهم شخصية في الألفية الثانية، ثم مرة أخرى في العام 2005، حول أعظم فلاسفة التاريخ، فكانت النتيجة ان الغالبية العظمى اختارت ماركس وبفارق كبير بينه وبين الآخرين" (10). وأورد جون لويس، الباحث البريطاني في المالاكسية، في كتاب له بعنوان "ماركسية ماركس" عبارة من مقالة نشرتها صحيفة التايمس اللندنية تقول " لا يوجد بلد لا تجري فيه في هذه اللحظة مناقشة أفكار ماركس. لقد تم الاعتراف بمكانته – إما بحماس أو على مضض، ولكن نادرا بلا مبالاة-حيث يوجد أناس يطالعون الكتب. إنه أحد مفكري القرن التاسع عشر النادرين الذين أصبحوا جزءا من حاضرنا، وليس جزءا من تاريخنا" (11). ربما يجد الكثيرون في كتابات ماركس تعقيدا في الفكرة وتوسعا في مناقشة مجايليه ، فتبدو كتاباته غير جذابة لقراء معاصرين.
كتب الفيلسوف الفرنسي الوجودي، جان بول سارتر المتوفى عام 1980، " إن الحجج المناهضة للماركسية هي مجرد إحياء واضح لأفكار كانت تسود قبل الماركسية. وأية نظرية تدعي تجاوز الماركسية هي في أسوأ حالاتها عودة إلى ما قبل الماركسية، وفي أحسن حالاتها إعادة اكتشاف فكر متواجد في فلسفة يعتقد المرء أنه قد تخطاها" (16). في العالم العربي تبذّل المناهضون للماركسية لأنهم لم يقاربوا الماركسية من منطلق حواري، بل جزءا من الحملات المبتذلة على الماركسيين ؛ لم يجدوا من يتصدى لهم في ظروف المطاردة الهمجية للشيوعيين. وعلى الصحافة العلنية التي كانت تنشر لهم ترددت مقولات " الماركسية الحاقدة " و"المادية الملحدة"، و " الفكر الشيوعي الهدام". كانت وغيرها كليشيهات تحشى في الكتابات الشتامة، الخالية من الفكر. وبعد انهيار التجربة الاشتراكية الأولى برزت كفقاقيع من مستنقع آسن كتابات معظمها مرتد يكفّر عن ماض يُخجِل صاحبه أو رايات بيض ترفع ترمز إلى الاستسلام.
اما في بلدان الحريات الليبرالية فقد أقحمت الزيوف بأشكال ومضامين تنطوي على الخبث والمكر.

نظام فكري متكامل!

معظم الدراسات المناهضة لماركس عرضت الفكر الماركسي بصورة خاطئة على أنه نبوءات وهندسة مكتملة لنظم المستقبل. فلما تردت التجربة الاشتراكية في المشاكل واتضح قصورها انظلقت الدعاية المناهضة تزعم الإثبات العملي لأخطاء الماركسية. والحقيقة أن ماركس، العالم المتواضع أحجم كليا عن أي تخطيط مستقبلي، وتوقف عند ربط النظرية بالممارسة؛ مركزا على هذا الفهم الجدلي دوما وبدون تحفظ . الفكر الماركسي " لا يمكن اعتباره فكرة خطة تفرض على المجتمع، بل طريقة التعامل مع وضع محدد، و منهاجا يشمل تلاحما بين الفهم والفعل بشكل وثيق. .إنه فلسفة انتقادية غير دوغماتية، تجعل من الممارسة مصدر كل حقيقة"(18). والمادية كمفهوم ماركسي تعني التعامل مع الواقع كما هو عليه واستنباط الفكر المغير للواقع من الواقع نفسه. ولذا فكل نسخ للأفكار أو تنميط أو تقليد لأفكار حتى لو كانت صحيحة وبرهنت على نجاحها في واقعها تبدو فرضا على واقع مغاير من خارجه وتتورط في النقيض للمادية، أي المثالية و الميتافيزيقية.
اعتنى ماركس فقط بديالكتيك علاقة الإنسان بالطبيعة، والتناقض الذي اجتذب اهتمامه هو ذلك القائم بين القوى المنتجة والنظام الاقتصادي، أي القيود التي يفرضها النظام الاقتصادي على تطور القوى المنتجة " عندما تدخل القوى المنتجة في تناقض مع علاقات الإنتاج القائمة". وبذا يتضح الفرق بين عمل قوانين الطبيعة وقوانين المجتمع؛ إذ تعمل قوانين المجتمع كاحتمالات؛ فيقول ماركس: "إن القانون العام في ظل الإنتاج الرأسمالي يتصرف كنزعة عامة فقط بأسلوب معقد للغاية وتقريبي، وكمعدل غير ممكن التحقيق لتقلبات لا تتوقف".
إن هذا يكشف الكذب المتعمد للتفسيرات الزاعمة أن ماركس وضع نظرية كاملة لمسيرة التاريخ الإنساني وفق منهج مرسوم ومقرر سلفا. ولما فشلت تجربة بناء الاشتراكية استخلص بعض المزيفين للماركسية خللا جوهريا في نظرية ماركس. واستنتج آخرون نفي ضرورة النضال وما ينطوي عليه من تنظيم وصراع فكري وإنضاج للظروف الموضوعية للثورة.
رأى البعض الآخر أن الماركسية نظرية مكتملة خلال مسيرة التاريخ. يرد الفيلسوف البريطاني المعاصر، جون لويس، أن ذلك انحراف وخروج كبير عما أراده ماركس، الذي لم يؤمن إطلاقا بإمكانية خلق نظام مفاهيم قابل للتطبيق في كل زمان، وفي كل حال، أو كما قال ماركس نفسه ’مفتاحا لكل الأقفال‘"(18). ويضيف جون لويس القول بأنه إذا لخصنا الماركسية في أبواب، نخرج بأبواب ثلاثة رئيسة: طبيعة الإنسان واغترابه، صناعة التاريخ، وفي نفس الوقت صناعة الإنسان نفسه (19). يفسر جون لويس تبويبه بالقول: "تكتمل إنسانية الإنسان مع تحرره من الاستغلال؛ ويخلق البشر البنية الاجتماعية التي تشكلهم فيما بعد؛ ويواصلون إعادة تشكيل تلك البنية كي تتحسن كفاءتها وتلبي بصورة أفضل الاحتياجات المتزايدة. وبذلك يعيد الإنسان صناعة نفسه مع كل تقدم يحققه"(20).

الحتمية الاقتصادية

هذا الفهم من أكثر الزيوف شيوعا في مجال الفكر؛ يبين كم هي بعيدة عن الماركسية ومشوهة للفكر الماركسي تلك التي تختزل التاريخ إلى معادلات تجريدية جامدة يستعاض بها عن البحث التاريخي الملموس، وتصر على فصل قوى الاقتصاد عن البشر لتقرر مصائر البشر بصورة محتمة. ألماركسية ترى عوامل أخرى غير الاقتصاد تترك تأثيرها في مسيرة التاريخ وتشكيله. .. و"لا بد للتقدم من العمل والنضال في كل مرحلة من مراحل حياة البشر(22). الإنسان هو الذي يغير الرأسمالية إلى اشتراكية، ذلك أن الرأسمالية لا تفارق الحياة طوعا أو بفعل عوامل نخر ذاتية. و للفكر دوره في عملية التغيير؛ ولا يقف الفكر جامدا أو سلبيا طالما أنه تعبير عن الواقع وإفراز له. والمقياس الوحيد لصحة فكرة أو نظرية هو مطابقتها للواقع." مجيء الاشتراكية ليس شيئا يحدث مثل الزوابع والقحط والزلازل؛ إنها تتحقق عندما يتوفر للإنسان الذكاء وإرادة الاستفادة من الظروف الناضجة. كما أن الظروف الناضجة وحدها لن تحدث التغيير وتؤتي ثمارها؛ بل إن ما سيحدث يعتمد كلية على فهم الإنسان وإدراكه لما يتعين عليه عمله. بيد أن فهم الإنسان وقراره ليسا من جملة الظواهر الطبيعية كسقوط الحجر او غليان الماء"(25)، حسب ما يقول الفيلسوف جون لويس. وقد أثر على مجرى التطور في المجتمعات العربية المعاصرة كون النفط يستخرج في بلدان معينة تعيش علاقات اجتماعية تعود إلى القرن الوسيط؛ وأدخلتها هذه العلاقات في تبعية للمراكز الرأسمالية. بذا وظفت عائدات النفط في مشاريع الرأسمال للهيمنة الكونية وليس من أجل التنمية الاجتماعية وتوفير الخدمات الأساس لشعوب الأقطار العربية. ونتيجة للأزمة المالية التي انفجرت مؤخرا في الولايات المتحدة وعالم الرأسمال فقدت الأرصدة العربية هناك أكثر من أربعمائة مليار دولار، يمكنها ، لو استثمرت في مشاريع تنموية أن تجتث الفقر والتخلف من المجتمعات العربية كافة. فقدت الأرصدة العربية المهربة للخارج اربعمائة مليار دولار في يوم واحد؛ بينما بخل أصحاب الأرصدة ببضعة ملايين لتوفير الطعام والعناية الطبية للفلسطينيين في قطاع غزة.
لا تتمتع العلوم الاجتماعية باستقلالية البحث النظري داخل مختبرات منزوية عن النشاط الجماهيري، ولا تخضع فرضياتها للتحقق التجريبي والتماسك المنطقي. في هذا الصدد يوضح ماركس " قد يكون من السهل جدا، بالطبع، صنع تاريخ العالم لو كان النضال لا يقوم إلا ضمن ظروف تؤدي حتما إلى النجاح". فكثيرا ما انتقد ماركس وإنجلز الميكانيكية الحتمية في فهم التطورات الاجتماعية. أشار ماركس في أكثر من مناسبة إلى أن القوانين الاجتماعية والتاريخية لا تعمل بصورة تلقائية، بل من خلال النشاط الاجتماعي للناس. فتوازن القوى الطبقية عامل جوهري في نجاح الحملة من اجل التغيير التقدمي للمجتمع. والتوازن الطبقي يتعدل لصالح التغيير عندما ينجح الحزب أو الأحزاب الطليعية في توثيق الصلات مع الجماهير ونقل الفكر الثوري إليها . عند ذلك الحين تتحول الفكرة إلى قوة ثورية محولة للواقع. تتخلى الجماهير عن حالة الخنوع وتنهض لإنجاز تحررها وفرض حاجاتها ومصالحها على رأس أولويات المجتمع.

المادية التاريخية تفسر أفكار الناس بموقعهم الاجتماعي وطريقة حياتهم وظروفها بدلا من تفسير طريقة حياتهم من خلال تفكيرهم. بواسطة الفهم المادي للحياة الاجتماعية والتاريخ أمكن تخطيط عمليات التقدم الاجتماعي كل أثناء النشاط الثوري، ومعالجة المشاكل والاختلالات الاجتماعية. القوانين الاجتماعية، بخلاف قوانين الطبيعة، لا تعمل بصورة تلقائية وتتكرر بنفس النسق مع ثبات الظروف الطبيعية الملازمة. أزمات الرأسمالية تحدث نتيجة اللهاث خلف الأرباح؛ والأزمة المالية الأخيرة جاءت عاصفة وعميقة لأن الرأسمال تصرف بلا كابح في الركض وراء الربح الاحتكاري، فغامر في المضاربات وقلص الإنتاج فأسفر نشاطه المتوحش عن بطالة واسعة وتقلص في القدرات الشرائية. هذا ما خلص إليه ماركس من دراسة الرأسمالية الناضجة في بريطانيا القرن التاسع عشر ، ولم تزل استخلاصات ماركس تحتفظ بصحتها لأنها جاءت تعبيرا عن جوهر ممارسات الرأسمال. ومن جهة ثانية أكد ماركس أن النشاط البشري المتعارض مع القوانين الاجتماعية يسفر عن الفشل. طبق ماركس قوانين الديالكتيك المكتشفة من قبل على المجتمع والتاريخ. لقد أقر ماركس وانجلز بخطأ بعض استخلاصاتهما وتراجعا عنها. ومن متابعاته لمسيرة ماركس الفكرية كتب جون لويس، " كان يتم تعديل نظريات ماركس على ضوء تطبيقاتها والتغيرات التاريخية التي تحدث. فهي ليست خطة تفسيرية مجردة يجب فرضها على كل الحقائق ويمكن تطبيقها في أي فترة زمنية؛ على العكس إنها تخضع باستمرار للتجربة والاختبار.." .
أولى ماركس اهتماما خاصا لموضوعة الأفكار الثورية. "فالمفاهيم النظرية أو الأفكار الثورية تنشأ وفق ما يقوله عندما يجري تقييم الوضع بوضوح وواقعية، وليس قبل ذلك. وهذا لا ينجم عن قرار طوعي مستقل عن الظروف؛ كما أنه ليس تحولا تاريخيا أوتوماتيكيا ومستقلا عن عقل الإنسان ومشيئته. فالخطوة الأولى يجب أن تكون خطوة نظرية، قناعة فكرية، وفهما أعمق لوضع متناقض وخطر. الأفكار التي تغير التاريخ هي الأفكار المستقاة من فهم التفكك البنيوي للمجتمع، التي تؤدي إلى مقترحات خاصة بإعادة بناء المجتمع استنادا إلى إدراك جميع العوامل ذات الصلة.."(37). هنا يُبرز ماركس ضرورة نشاط المثقفين لإدخال الوعي الطبقي إلى الطبقة العاملة وضرورة الحزب الثوري لقيادة النضال اليومي للطبقات المضطهدة والمستَغلة. وكذلك فإن المادية الجدلية تطرح الوعي حصيلة ممارسة عملية ونشاط ملموس عياني في ظروف عيانية، وليس تأملا مجردا للواقع من موقع مترفع عن الواقع. الإنسان يصنع تاريخه من خلال العمل لتلبية احتياجاته المادية والروحية. في المجتمع يتحد الإنسان مع الطبيعة. والإنسان لا يقف معارضا العالم المادي ليتعرف عليه من خلال أحاسيسه؛ بل إنه يعرف العالم المادي من خلال تغييره وتحويله وإعادة "صناعته" سعيا وراء أهدافه. "ويفترض ذلك تطور التقاني بشكل متواتر ومعها يتطور المجتمع بأشكاله المتعاقبة، وإحداث ثورة في أدواته، ومعها شكل الدولة والسند الحقوقي أيضا، وليس فقط نمط المجتمع. ومن ثم يقوم علم التاريخ بدراسة أساس المجتمع وأصوله والتغيرات التي تطرأ عليه وتحوله. فليس هناك أي حدث تاريخي لا تعود أصوله في التحليل النهائي إلى الاقتصاد الاجتماعي"(32). فالجدل الماركسي يندمج بالنظرة المادية. لكن ماركس لم يكن ماديا "يختزل كل ما هو إنساني إلى مادية متحركة.. مجرى حياته كله يؤكد إيمانه العميق بأهمية الأفكار، وأهمية الإدراك بالفكر نواقص البنية الاقتصادية، وعدم عقلانية الوضع القائم وإمكاناته"(40).
ويقتطف الكتاب قول ماركس " النظرية نفسها تصبح قوة مادية حينما تستحوذ على الجماهير. والنظرية قادرة أن تستحوذ على الجماهير عندما تتوجه إلى مشاعر الناس ، وهي تتوجه إلى مشاعر الناس حالما تصبح راديكالية . وأن يكون المرء راديكاليا يعني أن يمسك الأمور من جذورها ، والجذور بالنسبة للإنسان هي الإنسان نفسه". فالنظرية بالنسبة لماركس هي دليل الممارسة والممارسة هي حياة النظرية(42).

حول الدين

وأكثر التشوهات للفكر الماركسي وأوسعها نطاقا جرت في موضوع الدين. فقد جرى ويجري استغلال المشاعر الدينية المتأصلة في الوعي الشعبي للكيد للماركسية. وما أكثر ما استثمرت مقولة ماركس " الدين أفيون الشعوب" في التحريض على الفكر الماركسي. حقا لم يكن ماركس داعية دين، وناهض بالفعل استخدام الدين في السياسة ؛ وعندما يقحم الدين على السياسة يجري تحريفه وتشويهه ، ويحوله بالفعل إلى مخدر. انتقد ماركس إقحام الكنيسة الكاثوليكية في السياسة، وهي الغارقة في مفاهيمها الإقطاعية بمعارضة مشروع بناء السكك الحديدية. ومن اللافت للنظر تشابه المواقف مع تغير الأزمنة. فقد عارض ممثلو المذاهب الإسلامية في مصر مشروع محمد علي لإدخال المياه بالأنابيب إلى البيوت، واعتبروه بدعة والبدعة ضلالة. وخرج عن الإجماع أئمة المذهب الحنفي؛ فحمل صنبور الماء اسم " الحنفية".
اعتبر ماركس الدين ظاهرة موضوعية لا يجوز التعرض لها. فالدين في نظر ماركس،"هو بالتحديد إدراك الإنسان لنفسه. والوعي بالذات من قبل الإنسان الذي لم يحقق ذاته". ويجب احترام وعي الناس حتى وهو يتناض مع طروحات التقدم. وكما يفسر جون لويس، فالدين هو" التحقيق الخيالي لكمال الإنسان . إنه ضروري لأن من غير الممكن في عالمنا تحقيق الشخصية الإنسانية؛ والدين هو احتجاج الإنسان على الظروف السائدة في المجتمع، وبالتالي فإن الصراع ضد الدين هو صراع ضد العالم" (43). وبهذه الروحية انتقد ماركس هجوم الهيغليين الشباب على الدين. وكان قد انضم إلى منظمتهم في وقت مبكر، ونصح ماركس أصحابه، بانتقاد الأوضاع السياسية بدلاً من انتقاد الدين، وطالبهم بوقف التلهي بكلمة "الإلحاد"، وعدم التصرف كالأطفال الذين يقولون دوما أنهم لا يخافون البعبع"(44). إن وجهة نظر ماركس إزاء الدين تتلاقى في بعض الجوانب مع "لاهوت التحرير"، الذي انتشر بين أساقفة الكنيسة الكاثوليكية في أمريكا اللاتينية تعبيرا عن تضامنهم مع الفقراء، ولكن البابا السابق حرم لاهوت التحرير .

حول التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية :
وبصدد هذه المقولة التي أدخلها ماركس إلى العلوم الاجتماعية جرى تشويهها بأن اعتبر تشكلها على غرار تشييد البنيان متعدد الطوابق ـ أولا الأساسات ثم الطابق الأول فالثاني. أما الواقع فيثبت أن الإنسان ليس نتاج ظروف اقتصادية فقط؛ إنما يتزاحم في وعيه معلومات خاطئة وأخرى صحيحة ، وأخرى مشوشة. هو يقدم على الحياة العملية مزودا بأفكار ورؤى وأوهام ويبدأ النشاط ضمن ظروف وأوضاع مادية مفروضة عليه؛ والخصائص التاريخية، كما يراها علماء الأنثروبولوجيا ، نسق من الفكر والحياة تعود إلى مختلف أشكال الحضارة." كما أن الثقافة ترتبط ارتباطا وثيقا بنمط العلاقات الإنسانية، وترتبط في كل مرحلة بنمط الحياة الاجتماعية" (46). والفكر في البنية الفوقية لا يتبع الإنتاج المادي مباشرة؛ بل يجريان متزامنين وبتفاعل متبادل . إن ما يظهر كبنية فوقية هو مجموع الوصفات والمنوعات والقوانين والمؤسسات والأحكام والأهواء، وهي تنسجم وتتطابق مع البنية الاقتصادية للمجتمع، ومع درجة تقسيم العمل ومصالح الطبقة المهيمنة "(47). ويجدر التنويه بأن ماركس أكد مرارا أن كل مجتمع لابد وأن يحمل عناصر نافية له، النقيض الذي يجد ابلغ تعبير له في الصراع الطبقي. كما أن البنية الفوقية تمارس تأثيرها على البنية التحتية ، تخدمها وتمدها بالمبررات الداعمة والمساندة . غير أن ماركس وإنجلز أدركا الطابع المستقل نسبيا للايديولوجيا، حيث تحيا متقنعة باسم المصلحة العامة كي تؤدي وظيفتها الطبقية بالشكل الأكمل. ولذا تحرص البرجوازية على منع أبنائها من النشاط الإيديولوجي والسياسي.
لم يكن ماركس هو مكتشف الطبقة والصراع الطبقي . فقد جرى تداول المفهومين من قبل؛ غير ان ماركس قدم إضافة جوهرية إلى المفهومين:أولا حاول تحديد سمات الطبقة، وثانيا حلل أصول نشوء الطبقات، وثالثا أدرك أن مصالح طبقة ما تتطابق مع تطور القوة المنتجة بينما الطبقات المحافظة تعيق وتعرقل مدافعة عن الأمر القائم، ورابعا كان على قناعة بأن البروليتاريا هي آخر الطبقات وأنها تحرر المجتمع بتحررها(50). الطبقة نتاج تطور تاريخي قد يختلف موقعها في عملية التقدم البشري، وهي تتشكل عبر النضال المناهض لمصالح طبقية محافظة، ومع التطور خلقت طبقة الرأسمال حفار قبرها وتحولت إلى طبقة محافظة، وغدت الحكومة " هيئة إدارية تدير الشئون العامة للطبقة البرجوازية بأسرها"(51). في الولايات المتحدة حدث إفقار للعمال العاطلين عن العمل نتيجة تصدير الرأسمال إلى الأقطار الأخرى سعيا وراء مزيد من الأرباح . وبادرت إدارة بوش لإنقاذ طبقة كبار الرأسماليين، ويتحدث اوباما عن إنقاذ الطبقة الوسطى ، ولم يطرح خلال الحملة الانتخابية وبعد الفوز مشاكل من يعيشون تحت خط الفقر في الولايات المتحدة.
أثار ماركس إشكالية الأزمات الاقتصادية للرأسمالية في الجزء الثاني من مؤلفة "رأس المال". الأزمة تعبير عن تناقض داخلي في النظام. "فالرأسمالية في نظره لم تكن نظاما مستقرا، بل في حالة عدم توازن ’لأن قوى الإنتاج لا يمكن على الإطلاق استخدامها ، ليس فقط بعد تجاوز النقطة التي لا يمكن فيها إنتاج فائض القيمة ؛ بل أيضا بعد أن يصبح تحقيق فائض القيمة غير ممكن في مجتمع غالبيته العظمى من الفقراء‘"(53). ومثل الحريق تتحول النتيجة( النار الملتهبة) سببا في انتشار الحريق، فإن سبب الأزمة ونتيجتها يتبادلان المواقع، ما يزيدها استفحالا، حيث الركود يتطور إلى الكساد فالانكماش والانهيار. لكنه انهيار لا يفضي تلقائيا إلى انهيار النظام برمته. لدى الرأسمالية قابلية إصلاح الذات والتجدد. "لم يتنبأ ماركس بشكل انهيار الرأسمالية وبموعده... انحصر هم ماركس بالدرجة الأولى في تحليل الواقع والتوجهات الفعلية للظواهر والأحداث، وليس بتخمين النتائج الافتراضية للأزمات"(56). حتى لينين، وهو يناقش برنامجا يمتد حتى جيل واحد لبناء الاشتراكية في الأرياف السوفييتية، امتنع عن تحديد شكل التحول إلى الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي وقال أن ذلك يتوقف على طبيعة التوازن الطبقي في ذلك الحين.
حول البيئة

لم تنتبه البرجوازية لمخاطر تلوث البيئة وتدميرها إلا في العصر الراهن؛ لكن ماركس نبه في حينه إلى خطر الاستغلال الافتراسي لعناصر الطبيعة، و تدمير البيئة من خلال جشع الرأسمال إلى الربح. طالب ماركس ب" تشجيع علاقة مستديمة بين الإنسان والطبيعة عبر تنظيم الإنتاج بأساليب تأخذ بالحسبان العلاقة التبادلية بين البشر والطبيعة"(66). ركز ماركس ، كما ورد آنفا ، على جدل علاقة الإنسان بالطبيعة ، ومن خلالها علاقة الإنسان بالإنسان. والشرخ في العلاقة التبادلية سيؤدي إلى تقويض شروط الإنتاج التي تفرضها الطبيعة على الوجود الإنساني...وطالب ماركس توريثها(الطبيعة) بحالة سليمة إلى الأجيال القادمة"(66).

كيف تتجلى الطبيعة العلمية للماركسية ومنهجيتها؟

من جملة التشويهات للماركسية مطابقة المفهوم العلمي في قضايا المجتمع مع المفهوم في قضايا الطبيعة: استقلالية البحث النظري وخضوع فرضياته للتحقق التجريبي والتماسك المنطقي. فالعلم باللغة الإنجليزية يرادف المعرفة باللغة الألمانية(Wissenschaft). فأية دراسة تضيف إلى مجمل المعرفة سواء في الأدب أو الطبيعة أو المجتمع. وفي مقدمة كتابه " حرب الفلاحين في ألمانيا" كتب أنجلز يقول " منذ أن أصبحت الاشتراكية علما فإنها تتطلب ان يجري تتبعها كعلم، أي تجري دراستها". أي أنها تقوم على البحث والدراسة، شأن علوم الفن والتاريخ والإنسانيات. وقبل ماركس ظهر العديد من الاشتراكيين الطوباويين ممن اعتبروا اشتراكيتهم " علمية"." كان ماركس واحدا من مجموعة من المفكرين الاشتراكيين الذين تطلعوا إلى صياغة الاشتراكية وفق نظرة علمية للمجتمع؛ ونظرته المادية إلى العالم كانت تجعل للأسلوب العلمي أهمية خاصة بالنسبة له" (62).
بعد فشل التجربة الأولى لبناء الاشتراكية استُلت السكاكين ضد الماركسية تحاول نحرها محملة إياها أوزار الإدارة البيروقراطية الأوامرية. سبق وأن رفض ماركس وضع برنامج تفصيلي للمستقبل الاشتراكي لأن في ذلك تجاوزا على العلم ، ويناقض المنهجية العلمية القائمة على جدل الفكر والممارسة، فتبحث في الواقع المتعين لتخرج بحلول ملموسة وعيانية.
وشأن ماركس طور لينين مفهوم الديمقراطية الماركسي في خضم ممارسة البناء الاشتراكي، وذلك في كتاباته الأخيرة قبل ان يقعده المرض في العام الأخير من حياته( حول التعاون، من الأفضل أقل شرط أن يكون أحسن، الثورة الثقافية) . قرن لينين الديمقراطية بالثقافة والوعي العلمي. وقال أن مهمة السلطة البروليتارية ، وقد أطاحت بالإقطاع والرأسماليين، وصادرت ممتلكاتهم، باتت تواجه المهمة الأصعب والأكثر أهمية، مهمة إحداث ثورة ثقافية لدى المجتمع من شانها أن تحول البرجوازية الصغيرة في الريف والمدن إلى أنصار للاشتراكية. وعرّف الاشتراكية بأنها التنظيم الأرقى للإنتاج الاجتماعي القائم على تكافؤ المنتجين وحريتهم الواعية.أدرك ماركس استحالة تحقق ديمقراطية حقيقية في ظل الاستغلال الطبقي. ولم يكن فريدا في اقتناعه هذا؛ لكنه ، وكما قال الفيلسوف الأمريكي ، هال درابر، "أول شخصية اشتراكية تصل الفكر الاشتراكي من خلال معركة توسيع الديمقراطية السياسية مع النضال من اجل التحول الاشتراكي"(157). الاشتراكية لا تتحقق من خلال شطب الديمقراطية البرجوازية وفرض " الشرعية الثورية"، مثلما فعلت الحقبة الستالينية؛ إنما تتحقق من خلال توسيع الديمقراطية البرجوازية وتخليصها من نواقصها عن طريق تنويرها بالوعي العلمي. كرر ماركس وإنجلز مرارا القول أن الديمقراطية السياسية هي أفضل السبل للوصول إلى التحول الاشتراكي وبالتالي لا بد من النضال من أجلها والدفاع عنها"(158).
مضى لينين على نهج ماركس، الذي أدرك استحالة تحقق ديمقراطية حقيقية في ظل الاستغلال الطبقي. ولم يكن فريدا في اقتناعه هذا؛ ترد على الاتهامات الحاقدة للماركسية أقوال ماركس حول الديمقراطية " أن حرية الناس إن كانت تعرض الحكومة للخطر فذلك من سوء حظ الحكومة. ... ليس من واجب الناس التضحية بحقوقهم من أجل أن يخففوا من عبء الحكومة ومشاكلها"(167). وفي كتاباته بعد فشل ثورات1848 أكد أن " السمة الرئيسة لأي دستور ديمقراطي حقيقي هي درجة تقييده لاستقلالية السلطة التنفيذية والحد من مدى تصرفاتها بشكل منفرد دون حسيب أو رقيب. ويعود رأي ماركس هذا إلى قناعته بأن الديمقراطية تحمل جوهرها بقدر كونها رقابة وإشرافا شعبيا من أسفل"(168) .
وفي هذا الصدد تصدق كلمات ألتوسير، الفيلسوف الفرنسي، إذ رأى أن" الاعتراض الأكثر جوهرية على إنسانية ماركس يتعلق بأشكال ضالة وإجرامية من الماركسية التي طبقت إبان حقبة عبادة الشخصية وأيضا مع الواقع التاريخي لتطبيق ديكتاتورية البروليتاريا والأشكال التعسفية التي اتخذتها في أوروبا الشرقية"(153).

في العالم العربي لم تتم معرفة حقيقية بالماركسية "(71). وينقل الكاتب عن محمود أمين العالم قوله "إن معرفتنا بالماركسية مسطحة ومشوهة... ولعل أغلبنا قد اكتفى أو لم يجد أمامه غير بعض ما ترجم من كتب ماركسية أغلبها ترجمة ركيكة، أو تبسيطات و ملخصات مرت على المصفاة السوفييتية الإيديولوجية". لم يترجم ماركس ترجمة كاملة إلى لغتنا العربية، ولم يدخل في ثقافتنا العامة، ولم يجد طريقه إلى إعلامنا، وإلى تعليمنا ومدارسنا وجامعاتنا إلا بصورة عكسية أو ضدية في أغلب الأحيان"(72). بل ونضيف إلى ذلك أن محتويات المناهج في المدرسة والجامعة وأساليب التدريس القائمة على التلقين والحفظ والنسخ، إنما تسسهم في تكييف أذهان الناشئة والعقل العربي بصورة عامة مع النظرات السلفية الماضوية وتقعده عن معاناة البحث التجريبي والاكتشاف واستشراف الآفاق الجديدة .
إن الحكم على الماركسية والاشتراكية لا يكون بما أصاب التجربة السوفييتية من انهيار؛ وإنما بالنظر إلى العجز الذي تعانيه الرأسمالية مع كل ما أدخلته من "تجديدات" .. وبالنظر إلى ازدياد شراستها العدوانية والاستغلالية والطفيلية تجاه العالم الثالث بشكل عام وعالمنا العربي بشكل خاص، وبالنظر إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والقيمية في البلدان الرأسمالية المتقدمة"(72).
الثورة الدائمة

لا تعني الثورة الدائمة أبدية أو سرمدية ، بل تعني "دون انقطاع"، بمعنى أن الثورة تمضي دون انقطاع لفترة طويلة ، قد توجد فترة استراحة لكن ليس استقرارا. مثال على ذلك المرحلة الاشتراكية تتبع مرحلة الثورة البرجوازية الليبرالية، وفي زمننا مرحلة التحرر الوطني ومرحلة الثورة الاجتماعية(180).
توصل ماركس وإنجاز إلى هذه النظرية بعد عام 848 1، عندما لاحظا أن البرجوازية استولت على السلطة وتخلت عن الأهداف الديمقراطية الحقيقية التي كانت الجماهير تناضل من اجلها؛ أو كما وصف ماركس نفسه قيام البرجوازية الليبرالية بلعب" ذلك الدور الخائن الذي لعبته البرجوازية الليبرالية الألمانية علم 1848ضد الشعب"(181). وعبر إنجلز بتهكم لاذع عن تلك الخيانة بالقول " إن السلطات مستمرة في انتهاك حقوق المواطنين بصفاقة؛ بينما الجمعية الوطنية تبدي اهتماما أكبر بمواعيد الغداء من اهتمامها بمهامها الديمقراطية(181) وقد شجع هذا التخاذل السلطات على طرح مشروع قانون يقضي على الحريات الديمقراطية، عنه نقلت الأنظمة العربية دساتيرها. فالقوانين تشدد قبضة البوليس والبيروقراطية على الأنشطة الاجتماعية كافة (182).

لن يتوقف التشويه الفظ للماركسية وتحميلها ما ليس فيها؛ كما لن تتوقف النبوءات بموت الماركسية. ولكن الحياة ستقدم باستمرار ما يؤكد صحة الماركسية كنظرية عن المجتمعات البشرية . سيظل العالمان الاجتماعيان ماركس وإنجلز جزءا من حاضر البشرية إلى زمن تجتث فيه مآسي البشر.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن