سحر الزقورة

حسام السراي

2008 / 12 / 9


استنادا لفكرة نيتشه التي تدعو-فنياً- الى القطيعة بين الماضي والحاضر، والتعامل مع الوظيفة الاجتماعية للمنتج (الإبداعي) في زمان ومكان ما، علينا فهم وظيفة الزقورة في معقل السومريين، العاصمة اور، واستيعاب مغزى قيام الجنائن المعلقة بشكلها الذي انتصبت فيه، الى آثار بابل، ملوية سامراء، وصولا الى العمارة التي أتى بها تاريخ العراق الحديث والمعاصر، والتي كانت جزءاً من يومياتنا... مدينة الطب، دار الأزياء العراقية، دائرة الضمان الإجتماعي-شارع الجمهوري، العمارات السكنية في شارع حيفا ومنطقة الصالحية، سينمات بغداد، البنك المركزي العراقي وغيرها من شواخص عمارة بغداد الحداثية التي رحل بعضها وبقي الآخر.
ربما لا نقدر أن نستبدل بالزقورة منارة الحدباء الموصلية، أو بالجنائن المعلقة مبنى رئاسة جامعة بغداد -الجادرية، وفقا لرؤية أهدانا اليها فيلسوف الشك والعدميّة، إذ إنها تصبح في السياق الحضاري للعراق، وذلك صحيح جدا، لكن لا يمكنها السماح لنفسها أن تلعب بنرد الاستعاضة المكانية والزمانية، فتاريخ الفن يعطي لتمظهرات وشواهد عمرانية تشكّـلت في مرحلة من مراحله أدوارا حضارية معينة.
(عمران تخشاه الديكورات)
وليس يسيرا فهم المنتج الفنيّ دون الانتباه لتاريخ تشييده واحتكاماته، بالنسبة للزمان والمكان معاً، وإلا مالذي يدفع بالفنان الرائد جواد سليم أن يصنع بأنامله نصباً كأنّه درس عراقي في التاريخ، واجابة فنية واضحة على تحوّلات وانبجاس أحلام شهدها مع أبناء جلدته، نقلها الى روح نصب ارتبط بأعماق الشخصية العراقية، بمعنى تحقق الوظيفة الإجتماعية للعمل الفني، وانغماس النصب في دواخل النفوس، والأمثلة كثيرة عن توظيف علاقة الإنسان بمحيطه بشكل فني يعبر عن القدرة على الإنتاج والخلق.
وما أن يصار الى الحديث عن العمران البغدادي، حتى تتجدد العبارات الرافضة للتحديث التي تريد الإبقاء على الموجود، بحجة الحفاظ على الأصيل منها، والحد من زحف العمران نحوها، والتي تقع ضمن مسمى "التراث"، بما يشكله -وفقا لمخيال سائد- من دلالة حضارية عراقية لا يمكن المساس بها. ومن هذا فان أية نظرة متأنية لمعنى الفن، سواء كان لوحة، عمارة، مسرحية، رواية....الخ، تجعلنا نقول هل يمكن لنا أن نجرؤ على ايجاد نهايات تحسم هذه الإبداعات، أم إنها محطة انتظار للمقبل الذي يحمل الجدة الأكيدة والمعنى الأكبر لقيم الإنسان؟ وتلك الاعتراضات تتضح في دعوات نستطيع تلمس سلفيتها في نقدها الجاهز لفكرة التحديث العمراني، وهذا كله لا يشير إلى إننا سنرمي في دجلة المتبقي من شناشيل بغداد وخاناتها وبيوتاتها الرحبة التي اشتهرت بفنائها الفسيح، لكنها ستظل ديكورات لا يمكن لنا العبث بها وبقيمتها الاعتبارية، فقط لإن تعلقنا بها يتفق مع رأي الشاعر صلاح نيازي، حينما يعتقد اننا نسمع، نلمس، نتذوق، نشمّ كل شيء مرة واحدة، في المرة الاولى.
(انشوطة للذات بمواجهة
الخراب المعماري)
إن تشوهات في البناء نراها في هذا الحي او ذاك، اضافة الى عمران مبعثر لبيوت أكثر تبعثراً وتشتتاً، لا دخل لمؤسسة أو دائرة حكومية معنية في توجيه أصحابها ومنعهم من تشييد فوضاهم، فضلا عن آلاف الجدران الكونكريتية التي زاحمت العمران القديم، وأجبرت ما كنا نأمل له بالبقاء من عمران، على الاختفاء، وتحول العمران الذي كان مبعثا للشؤم ورائحة الطغيان، الى مزابل وثكنات عسكرية وحزبية وتجمعات سكنية غير رسمية، وندرج منها: قصور صدام الفارهة، مبنى المخابرات القديم، مبنى مديرية الامن العامة، معسكر الرشيد، الشاكرية، سجن الانضباط العسكري، المنطقة الخضراء وقصر مؤتمراتها.
ان الإصرار على الإحتفاظ- ربما معماريا- لبغداد بتسمية (حاضرة الدنيا)، تنتظره مراجعة واعية وهادئة، بعيدة عن التعصب الاعمى لهوية مدينة متعبة هرمة، كي تمسح عن وجهها هذا الحجم الهائل من الخراب، وان ننظر قليلا لتشوهات الجدران، وما فيها من شعارات ووعيد وهرطقة سياسية فارغة، والتي من المحتمل أن تنسينا أصلا التفكير بتطوير بناية هذا الجدار المشوه أو ذاك، فالحاجة ماسة جدا للإلتفات الى حجم المخرب من عمارتنا، وبخطاب واضح نوجهه للنخب وللمجتمع ككل عن كيفية البدء بإزاحة الانقاض، اكوام النفايات، الاتربة المتجددة. وأن نحاكم حتى ذاتنا ان كانت مساهمة في التأسيس لهذه الفوضى شكلا ومضمونا، ونقتص منها بإنشوطة من ضمير يريد أن يبني.. يعمر... يأتي بالجمال ولو بقدر خطوة واحدة، ويقتل في ذات الوقت نزعات الاتكال والتغاضي.
(عمارة خالقة للظل)
وفي مجال الإشارة الى التطور الإنسانيّ وترابطه مع مضامين تاريخية واجتماعية تفرض اشتراطاتها، تشير المعمارية العراقية زهاء حديد في حوار معها إلى "ان الحياة العصرية تتغير، وان الجديد لدى جيلنا هو نسبة التعقيد الإجتماعي، الامر الذي بات ينعكس على المعمار، فلم تعد هناك وصفة بسيطة أو صيغة غير معقدة"، وهي تستخدم الضمير المتصل (نا)، تقصد جيلها من المعماريين في كل العالم، ولسنا في العراق ببعيدين عن حركة البشرية في ظل نظام معولم، بمعنى إنه ليس أمامنا إلا الإنخراط في خلق هذه الديناميكيات بأشكالها الفنية، وهذا الطرح لا يمكنه تعدي حتى حدود التمني بالإرتهان للواقع ومدى اخلاصنا لفكرة المدينة المتحضّرة، فليست المشكلة في ضآلة التخطيطات والتصاميم المعمارية للمعماريين العراقيين الذين شغلوا مواقع مهمة بين أقرانهم في العالم، وقائمة هؤلاء ليست لها بداية او نهاية. مكمن الإشكال في مستوى القناعة بصدقية المنفذ الحكومي، وهو يجسد حالياً دوره الإنتقالي في مرحلة خطرة، بضعف واضح في الخدمات واطلاق لمشاريع عائمة نقرأ عنها ولا نرى عمادها على الأرض، ومنها، على سبيل المثال، ان مئات الدولارات تذهب لإستيراد النخيل الإصطناعيّ، بما يثيره فينا من يأس كبير ونحن نراه يقتل نخيلنا الحي المنحسر شيئا فشيئاً. ان الفكرة -عن العمارة- التي يرجوها كل محب لبغداد، تتمثل بإيجاد مساحة تتفق وحاجات المدينة نفسها وتغيـّراتها ومدى قبول فضائها بالمختلـّف، لتصبح عمارة ترفض الإحادية بإنعزالها، وكأنها منكفئة على نفسها، لا حياة فيها لأي ظل،لإننا وكما فهمنا العمارة كـ(فن)، يتأرجح بين ذات الفنان (المعمار) ونظرته للعالم الخارجي، وبالاتساق مع رؤية عالم الاجتماع جيمس فريزر في كتابه الغصن الذهبي ،بشأن" السحر التماثلي، فإن محاولات الإنسان مستمرة في السيطرة على ظواهر الطبيعة والحياة معاً لأجل وجوده وديمومته،عبر طقوس وشعائر، لا شك أنها تحال عند المعمار الى أفكار واشتغالات خاصة.
العمارة التي نريد تضع في الحسبان مناخ العراق، عدد الأحزاب التي تكتب على جدران الابنية وتعلق اللافتات، أشكال هندسية تعي الانفتاح العراقي وتعطيه قدرا من الإيحاء في تصاميمها لمجتمع متعدد يقبل بعضه بالبعض، تنوعه ببنائه الذي يزيد النفس انشراحا وهي تمر من امامه.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن