الرسم بالكلمات

ثائر العذاري
alethary@yahoo.com

2008 / 12 / 7

قد تكون الصورة واحد من أهم عوامل سحر شعر، أو ربما تكون الشعر كله، فالصورة ليست عملا تزيينيا يكشف براعة الشاعر في بناء علاقات مبتكرة حسب، فهي أيضا طريق لبناء المزاج النفسي للمتلقي والتسلل إلى وعيه لإغرائه بالدخول في علبة النص.
في مجموعتها (من مذكرات طفل الحرب) تقدم الشاعرة وفاء عبد الرزاق أسلوبا متميزا في الاعتماد على الصورة لبناء الفعل النفسي الانعكاسي لمتلقيها، وهي تفعل ذلك ببصمة شخصية واضحة تنطلق من إرث عراقي متراكم في مخيلتها الشعرية لا ينظر إلى العالم الا عبر تراب العراق.
في قصيدة النثر جرت العادة على أن يعمد الشاعر إلى اعتماد الانزياحات اللغوية وسيلة لتوليد شعرية نصه، إذ يبدو أن الشاعر المعاصر ضاق ذرعا بالبناء التقليدي للصورة الشعري القائم على المادي من مرئي أو مسموع.
غير أن وفاء عبد الرزاق تلعب لعبة يمتزج فيها خيال الطفل بمرارة الكبير وهما يرتبطان بالفعل الشعري.

أُعطي نفسي طينها
أنفخ ُفيها صورتكَ
كي تـُحاذرني الدبابات
ألقتلُ يصرخ
والدباباتُ كلام
ماذا أقول حين تمحوني أنت؟

إن نظرة عجلى إلى هذه الأسطر تكفي لنتبين اعتماد الشاعرة على المادي في بناء صورها، فالصورة هنا تتألف من طين وصورة ودبابات، غير أن هذه العناصر المادية تحركها ستة أفعال هي:
أعطي، أنفخ، تحاذرني، يصرخ، أقول، تمحوني على التوالي.
وكان لهذه الأفعال الدور الأساس في بناء الأثر النفسي بطريقة خفية، إذ يمكننا أن نلاحظ أن ثلاثة منها مسندة إلى ضمير المتكلم (أعطي أنفخ أقول) وثلاثة مسندة إلى الآخر (تحاذرني يصرخ تمحوني)، وهكذا تقتسم الفعل الشعري مناصفة بينها وبين الآخر، لكن فعلها يتسم بالخلق وفعل الآخر يتسم بالإلغاء:
أعطي × تحاذرني
أقول × يصرخ
أنفخ × تمحوني
لم أختر هذا المقطع اختيارا عشوائيا، بل قصدت أن أبدأ به رحلتي في ذاكرة طفل الحرب لأنه يوجز أركان فضاء وفاء عبد الرزاق الشعري، فهي (أنا) دائما محور العالم المادي لكنها المحور المحاصر السجين بالأشياء، المهزوم والمأزوم. (أنا) دائما في مقابلة مع العالم المادي، لكنها مقابلة تصور مواجهة محسومة النتيجة، فـ(أنا) مهزومة دائما:
لا ياسمينَ في شرايين النهر
لا نهرَ في جيوبِ أولاد الحارة
نظـّفتُ الأسبوعَ من أيـّامه
وكأنني أستجيبُ للضوءِ المغسول
خرجتُ أغيظ براعـُم َ تلعبُ ( الغـُمّيضة)
إنهُ اللعبُ ،،،، إنهُ اللعب
أللعبُ يا أطفال
شقاوة ٌملطّخة ٌبدشاديشكم

الإحساس بعدوانية المادي هو الذي دفع إلى بناء هذا النص انطلاقا من مثل هذه البداية التي تُستهل بمحاولة بائسة لإلغاء المادي كله عبر إلغاء المكان (لا ياسمين....لا نهر...) والزمان (نظفت الأسبوع من أيامه)، غير أن بؤس المحاولة وفشلها هو الذي يؤدي إلى تصوير فعل الطفولة بأدوات تصوير القتل (شقاوة ٌملطّخة ٌبدشاديشكم) فكلمة (ملطخة) لا تستخدم الا في وصف دم القتيل خاصة في العراق المعاصر.
ينطوي عنوان المجموعة على مفتاح مهم لفهم بناء نصوصها، فكلمة (طفل) تشير إلى الحياة، وكلمة (حرب) تشير إلى الموت الإجباري (القتل)، والمجموعة كلها تسجل صراعا مريرا بين الحياة والقتل، عبر النظر إلى صور المادي المعادي، ووضعه في مقابلة مع (أنا) المصرة على الحياة:
لستُ بحاجةٍ لأب
كما لستُ بحاجةٍ لجمال الفصول
أو لأمّ بردائها تفتحُ الدروب .
الدائرةُ كما تصورِها الجغرافي
تكرهُ التحايا صباحا ً
وتكرهُ أن أُُدعى حُلماً مثلا ً
ممتنٌ لها جداً
تلك الرصاصة ُالتي
ستـُصبح أسرتي القادمة
حقـّاً لستُ بحاجة ٍ
إلاّ لمزاج ِالدويّ .

في هذا النص خدعة شعرية ماهرة، فـ(أنا) تحاول إغاظة المادي من خلال التظهر بعدم الحاجة إليه، بل هي تحاول أن تبين له أنها ستهجره إلى اللامادي عبر الرصاصة القادمة.

دون قلم ٍ يـُشاكس أوراقي
أو استئذان ِ حائط ٍمُغـفـّلٍ
تحت شجرةٍ لا فصولَ لها
جلستُ على فؤاد التراب
أكتبُ بأصابعي
عن مدرسةٍ تعرّت للهواء
وانتقي من النجوم امرأة ًواحدة ً
تتـّسعُ لـِمناخِ استهزائي ببطاقةٍ رعناء
مخدعُها جيبُ أ بي الذي كساني بالجراح
كما كسته الحروق
هلْ سبقَ انْ شبعتم بـِدُخـانٍ
أو رقصتم على قفزاتِ الشظايا ؟
هكذا رقصت زينبُ إ بنةُ جارنا
وأهدتني عينـَها الممتلئة بالدخان لأشبعْ .

في هذا النص تبني وفاء عبد الرزاق مفارقة بارعة بين الفعل والاسم، أو بين المتحرك والساكن، أو بين (أنا) والمادي المعادي)، فالمفروض أن النص يرمي إلى تصوير الموت المجاني الذي يحدث في العراق بالتفجيرات أو المفخخات، لكن لننظر إلى الأفعال التي استخدمت في هذه الجمل:
يشاكس جلست أكتب تعرت انتقي تتسع كساني كسته شبعتم رقصتم رقصت أهدتني لأشبع
هذه الأفعال كلها أفعال حياة مفعمة بالبهجة والاسترخاء، غير أن الأفعال ذاتها بإسنادها إلى المادي المعادي أنتجت صورة في غاية البشاعة والإيغال في معنى الموت:

وأهدتني عينـَها الممتلئة بالدخان لأشبعْ

هذه المفارقة التي يشير لها عنوان المجموعة بطريقة خفية تكاد تتغلغل في كل نصوصها. غير أن التكنيك يتغير:
قبلَ أن تـَـنحني
أو تـعـدّ خطوتكَ
قبلَ أن يَـفـُـرّ جسدُكَ كالمجنون
أو زنداكَ ينفيانِ نـفسيـْهُما عـنـك
قبلَ أن يسيــحَ الطفلُ مـِن عليك
سـَيلتـَهمـُكَ البَعـوُض
ويبقى ظـِلـّكَ الطفلُ
مقطوع اليدين
يُحارُ
كيف يجمع حُلمَه المتفتت.

فهنا نجد العكس، فالأفعال كلها تدل على الهزيمة والنكوص:
تنحني تعد يفر ينفيان يسيح يلتهم
بينما تحرك هذه الأفعال أسماء مفعمة بالحياة:
خطوتك جسدك الطفل زنداك .......
لكن النتيجة واحدة، صورة متحركة للمادي المعادي الذي يريد إيقاف الحياة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن