رد معسكر -لا- على معسكر -الصمت- للأعسم

صائب خليل
saieb.khalil@gmail.com

2008 / 11 / 10

أتردد في كتاباتي أن أقسم الناس إلى "مواقف" قليلة، وإن فعلت فبحذر شديد، لما في ذلك من تبسيط مجحف. وأهم من ذلك أن على من من يخاطر بالإدعاء بدقة تقاسيمه أن يبرهن ذلك بإحصاءات صعبة المنال وأمثلة مقنعه. لكن الكثير من اصحاب التقسيمات السياسية العراقيين يعفون أنفسهم من هذه الشروط بسهولة.
ويعفي أصحاب التقسيمات أنفسهم أيضاً من اتخاذ موقف أيضاً، فالرغبة في الظهور امام القراء بمظهر الحيادي المتوازن تماماً أكثر إغراءً من المغامرة بإعطاء رأي. لذلك ترى أن معظم المقالات التي تقسم الناس إلى "معسكرات"، لا تقول شيئاً عن الموضوع في النهاية سوى أن الجميع مخطئ وغير موضوعي، إلا (الكاتب) الذي يقول أن الجميع مخطئين, بل وأنهم مخطئين بنفس الدرجة!

لا توجد خير من هذه المقالات بالنسبة لمن يرى أننا نعيش في عالم بلا حقائق، او لنقل من يرى أن "الحقيقة" كلمة خرافية، او "نسبية" تماماً ولامعنى لها. أما من يريد أن يعرف شيئاً أو يريد أن يتخذ موقفاً مدروساً فلن يجد فيها ما يبحث عنه: لا مناقشة ولا مقارنة ولاحجج ولا استنتاجات.

ومع ذلك فلا بأس من أخذ راحة من "الحقائق" بين الحين والآخر والمشاركة بـ "مباراة كرة القدم" بين المعسكرات"، ونختار لذلك مقالة الأستاذ عبدالمنعم الاعسم "الاتفاقية بين معسكر لا ومعسكر نعم" (1). وهي مقالة ممتعة.

يقسم الأعسم من اتخذ المواقف من المعاهدة إلى "معسكر لا" وهم الذين "اتكأوا على وسادة ثابتة" و"وفروا على أنفسهم عناء البحث في ماوراء النصوص والصياغات ومتابعة التصريحات.." الخ.. ومعسكرات (نعم، ولكن) او (نعم ولماذا) او (نعم وكفى). ويبدو لنا أن الأعسم نسى معسكر "الصمت المطبق" الذي نرى أنه ربما يشمله هو شخصياً، وهو موقف لايمكن التباهي به عند الأزمات، وكان بعض اليونانيين القدماء يحكمون على أصحابه بالموت باعتباره خيانة عظمى!

في هذا التقسيم ظلم كبير، فلم يقم مثلنا (أنا من معسكر "لا بلا تردد") من تابع وبحث وقدم الأسباب. وأرجو من الأستاذ عبد المنعم أن يقدم شخصاً واحداً من أي معسكر آخر بحث وتابع بقدر ربع ما قدمته بحوث الأستاذ فؤاد الأمير أو مقالات صائب خليل، هذا بالرغم من اعتقادي فعلاً بأن النص لايعني الكثير لأننا أمام شريك لايتمتع بأية درجة من الثقة، وفي وضع لايسمح بأي تحكيم في الخلاف بين الأطراف على تلك النصوص. إنك لا تحتاج أن تقرأ عرضاً يقدمه لك من تعتبره محتالاً لكي ترفضه، اليس كذلك؟ بماذا أجاب معسكر "نعم" وفروعه عن هذا؟ بالصمت التام المطبق! فلا هم قالوا من سيحكم بينهم وبين الطرف المقابل, ولا هم تجرأوا وحاولوا أن يبينوا أن شريكهم هذا فوق الشبهات ولايحتاج إلى تحكيم!

وظلم آخر اكبر حين اختصر الأعسم معسكر "لا" بـ "إسلاميين اصوليين" و "علمانيين يستعيرون ولاءهم من اللاءات القومية والثورية العتيقة". وأن بين هؤلاء من "يتحين الفرص....ليلطع لاءاته" ويفاوض.
وهنا لا أجد مناصاً سوى أن أسأل الكاتب بتواضع: أين مكاني من هذا الإعراب يا سيدي؟ لاشك أن الكثيرين مثلي يسألونك نفس السؤال....

لا بد من القول هنا إكمالاً للصورة، أن الأعسم لم يقصر انتقاداته على معسكر "لا"، فوصف حجج بعض معسكر "نعم" بأن "عذرهم ان هولاكو الاجنبي(حين دخل بغداد) حقق فضيلة ذهبية لم تتحدث عنها الكتب إلا بشكل عابر هو انه نزع فتيل الفتنة والصراع بين الطائفتين". ويضيف الأعسم عن "نعم" : "وبينهم من يبحث عن مكان مناسب في القطار، او حصة من الحصص، او وجاهة في الترتيبات المقبلة، او من يبيع موقفه في مزاد الانتخابات وحساب الاصوات.. وفي هذا المعسكر غبار كثير، وخيوط متشابكة عديدة، وارادات هشة ومخاتلة، واكداس من الملفات والرسائل والتعديلات، والورق التالف."
أما عنا معسكرنا فيقول الكاتب: " إذ يبدو منسجما ومرتاحا وبعيدا عن غبار المعركة في المعسكر الآخر، ويعرض نفسه كحارس للسيادة والوطنية والعقيدة والدين، فهو مقابل ذلك ضائع على الخارطة، مفقود من التداول، يركض كمن يركض في صحراء بلا هدى يقوده الى الخلاص غير اوهام حدوث فراغ امني وسياسي قد يشغله هو ويقبض على ناصيته، ولا دليل يستدل به الى ذلك سوى فرضية عودة التاريخ الى الوراء، او في افضل التكهنات، خروج الامريكان من العراق ليختلط الحابل بالنابل ويحل العقاب بالجميع على يد الجميع، هذا فضلا عن الحقيقة التفصيلة عن تناحر وتناقض تيارات اللائيين بين من يرهن لاءه الى مشروع سياسي مثل اقامة دولة طاليبان في العراق او احياء حكم البعث المنقرض.. او من يرهن لاءه في اسطبلٍ يُمَنّ عليه بالعلف من الخارج."

هكذا ينهي الأعسم مقالته وقد قضى على الشعب العراقي برمته، كما تفعل مثل هذه المقالات دائماً! فالقابلون أنذال (وأترك لهم الدفاع عن أنفسهم) والرافضون يبحثون عن العلف ويسعون وراء "اوهام فراغ أمني وسياسي يشغلونه" ويركضون وراء "فرضية عودة التأريخ إلى الوراء" ويريدون أن "يختلط الحابل بالنابل ويحل العقاب بالجميع" وهم منقسمين بين من يريد للعراق "حكم طالبان" و "حكم البعث المنقرض"!

أولاً من الذي خلق "طالبان" و"البعث"؟ ومن الذي يلح على عودة البعث إلى المناصب الأمنية أكثر من أميركا ومعسكرها ورجل أميركا المفضل علاوي؟
ولا نحن يا سيدي من يخلط الحابل بالنابل بل نستميت من أجل الكلام المحدد الواضح، لأنه الملعب الذي نكسب به، ومقالتي هذه ومقالاتي الأخرى شاهد على الأمر، وأكثر ما نبذله من جهد هو الموجه لفرز "الحابل" عن "النابل" وفحص سلامة الكلام ودقة الأحكام والتأكد من وجود مراجع للأدعاءات والتساؤل عن المصادر. وإن كنت تجد رغم كل هذا أننا "ضائعون على الخارطة" و "مفقودون من التداول" فليس ذلك لأن الناس لا يعجبها كلامنا فالعكس مبرهن عليه ليس فقط في التظاهرات وإنما في حقيقة ان المعسكر المقابل لم يتمكن من جمع تأييد مناظر لنا، رغم وقوف القوة الكبرى في العراق والعالم في جانبه. إننا "خارج التداول" لأن احداً من المعسكر المقابل لا يكلف نفسه أو لا يجرؤ على الرد على اعتراضاتنا المحددة، بل يفضل التمتع بمناقشة نفسه في موجة أحلام وردية عن المانيا واليابان، وإفراغ غضبه في "عملاء إيران". حينما تنظر إلى مناقشات الفضائيات فسنبدوا "ضائعون على الخارطة"، لأنها مملوكة للمعسكر الآخر، أما حين تنظر إلى الشارع، ومايحدث في البرلمان، والضغط المسلط على الحكومة, وما يتبناه السياسيون صدقاً أو ادعاءً بسبب قرب الإنتخابات، تجد أن العكس هو الصحيح.

وكمثال آخر لسعينا للوضوح وارتباط الكلام بالواقع، كتبنا مقالة نذكّر فيها معسكر الـ "نعم ولكن" بـ الـ"لكن" الذي أضافوه إلى "نعم"-هم. وقلنا أن الذين قبلوا المعاهدة بشرط "عرضها على الشعب" مدعوون إلى اتخاذ موقف واضح بعد أن اتضح رفض الأمريكان لهذا الشرط وعرف زيباري الشفافية بأنها تعني عرض المعاهدة في شكلها النهائي على البرلمان وليس على الناس "إنتقاماً من أن العرب والجيران الذين رفضوا أن نرى معاهداتهم!!!".
وطلبنا مثل ذلك ممن بنى "نعم" ـه على أمل الصداقة مع أميركا، حين تحولت لهجة الصداقة المخادعة إلى لهجة تهديد صريحة...وإلى الذين دعوا إلى دعم الحكومة من أجل شروط أفضل، حين تم تهديد الحكومة....
وطبعاً وكما هو متوقع، لم ينبس احد من ذلك المعسكر بكلمة، ومن قال كلمة عاد ليبتلعها في تصريح تال، ولم يقل أحد أن شروطه قد رفضت وبالتالي فهو يرفض المعاهدة. لم تكن الـ "ولكن" إلا قطعة زينة الحقت بـ "النعم" من أجل إخفاء بعض قبحها. والأمريكان يعلمون جيداً أن من قال "نعم ولكن" إنما يقصد "نعم" لوحدها في النهاية. ولم تدفع هذه الـ "ولكن" الأمريكان إلى أي تغيير في النصوص، مثلما فعلت الـ "لا" الصريحة وكسبت قلوب الناس بوضوحها وأجبرت الأمريكان وفريق زيباري على تعديل النصوص أملاً بتجنب الهزيمة التامة.
مازال البعض يقول "نعم ولكن" ومازلنا نأمل أن نرى لهذه الـ "ولكن" معنى ما.

أرجوك أن تخبرني، من الذي يريد "عودة التأريخ إلى الوراء"، من يريد وطنه مستقلاً في قراراته ومستقبله أم من يريد عودة الإستعمار اليه؟ إن كنت لاترى في فكرة "الإستقلال" و "السيادة" إلا أفكاراً قومية قديمة، فهل فكرة الحماية والإستعمار أكثر حداثة منها أم أقدم؟
ليست هذه هي المرة الأولى التي يربط البعث وكل الكلمات الكريهة الأخرى بفكرة ما بشكل عشوائي من قبل أعداء الفكرة، بل أنها الأسلوب الشائع للدفاع عن كل ما لايمكن الدفاع عنه بالحجج. مقالة الأعسم لاتختلف عن سلسلة الإعلام الذي يخير العراقيين بين الإحتلال وبين البعث وطالبان. هل أن الشعوب التي تركت لحالها محتفظة بسيادتها واستقلالها هي التي وصل الصداميون وطالبان إلى الحكم فيها، أم تلك التي تآمرت أميركا على شعبها لوضع صدام وسوموزا وسوهارتو وسيوفهم فوق رؤوس شعوبها؟ فلماذا إذن لاتجدون سوى أميركا لتأمين حماية البلاد من الحثالات، وتتهمون كل من يريد السيادة بأنه يبغي إعادة البعث وإقامة حكم طالبان؟

اللعنة على هذه الإتهامات الهوجاء...إنها ستعيد في النهاية الإعتبار لكل ما هو قومي وبعثي ووحشي بأن تضعها خياراً وحيداً يمتد أمام من يرفض التنازل عن قيمته الإنسانية المساوية للأجنبي. إنكم لاتسيئون بهذا التخبط الخطير إلى السيادة والإستقلال بربطها بالبعث وطالبان والتعصب الديني والقومي، بل تمتدحون البعث وطالبان والتعصب بربطها بالسيادة والإستقلال!
انتم تربطون قيماً عليا بجماعات منحطة في محاولة لخفض تلك القيم، فترفعون المنحطين دون أن تخفضوا القيم! فالقيم والمبادئ أمور أولية لها قيمتها الخاصة، ولا تقاس بمن يعتنقها ومن يدعيها، بل يقاس الناس وتقاس الأحزاب بما تعتنقه وما ترتبط به من قيم.
وكل هذا من أجل أن يبدو اندفاعكم المرعوب نحو إتفاقية مع وحش كريه للناس، ذو تاريخ أسود وحاضر أكثر سواداً، أمراً مقبولاً!



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن