في -السلطة- القضائية و فصل السلطات

هايل نصر

2008 / 11 / 5

مبدأ فصل السلطات في دولة القانون: تشريعية وتنفيذية وقضائية, مبدأ أساسي. والنظام الديمقراطي يعمل على "تنظيم الفصل": " ـ فصل المهن, أو تقسيم العمل, ـ فصل السلطات. ـ فصل الكنيسة عن الدولة. ـ فصل بين المجتمع المدني والدولة. ـ فصل بين المُمثلين والممثلين". ( P. Manent, cour familier de philosophie politique, Fayard, 2002,p.2).
يبدو فصل السلطات, في المقام الأول, كمبدأ تقسيم تقني لعمل الدولة travail étatique . من هنا ميز أرسطو في كتابه السياسة بين 3 فئات من السلطة, مع انه لم يتحدث عن "فصل سلطات", وإنما كان يبحث عن عقلنة تنظيم الحاضرة cité مميزا بين وظيفة المداولة délibération, ووظيفة التنفيذ, ووظيفة القضاء.
ظهرت النظرية الكلاسيكية لفصل السلطات في عصر التنوير, في كتاب لوك في القرن السابع عشر (1632 ـ 1704 ) حول الحكومة المدنية . و مونتسكيو في القرن الثامن عشر (1689 ـ 1755 ) في كتاب روح القوانين. وارتبطت بالفلسفة السائدة في ذلك العصر.
فقد كتب لوك بان إعطاء الذين يمتلكون السلطة سلطة وضع القوانين, وسلطة تنفيذها, يثير إغراءات قوية جدا عند هؤلاء لتجاوز سلطتهم, نظرا لطبيعة الإنسان المبنية على نزعات الطموح. من هنا ضرورة فصل السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية. ولم يتحدث عن السلطة القضائية.
أما مونتسكيو فقد كتب انه عندما تجتمع السلطة puissance (لم يستخدم كلمة pouvoir ) التشريعية مع السلطة التنفيذية في نفس الشخص , أو نفس الهيئة السيادية تختفي الحرية. لان الملك نفسه أو مجلس الشيوخ , سيصدر القوانين الجائرة لينفذها بجور.
لا توجد الحرية أيضا إذا كانت السلطة القضائية غير مفصولة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية. فان كانت منضمة لسلطة التشريع تصبح تعسفية على حياة وحريات المواطنين. لأن القاضي يصبح مشرعا, وإذا كانت منضمة إلى السلطة المنفذة, فان القاضي سيملك سلطة الطاغية. ( روح القوانين, الفصل 6 الكتاب 11). وعليه يدعو إلى حكومة "اعتدال" لأن الحريات العامة لا يمكن أن توجد إلا في ظل مثل تلك الحكومة.
الهدف من الفصل عند مونتسكيو واضح, وهو منع السلطة من أن تصبح مستبدة ". فالتجربة الأبدية تبين كما يرى, أن كل من يملك سلطة يعمل على تجاوزها, ويذهب في ذلك إلى أن يجد حدودا توقفه. وحتى لا يمكن تجاوز السلطة يجب ترتيب الامور بحيث توقف السلطة السلطة.
انبثقت النظرية من التمييز بين 3 وظائف في الدولة : وظيفة إصدار قواعد قانونية عامة, أو الوظيفة التشريعية. وظيفة تنفيذ هذه القواعد, أو الوظيفة التنفيذية. وظيفة تسوية المنازعات, أو الوظيفة القضائية. ممارسة كل وظيفة من هذه الوظائف تتطلب سلطة تتصل بها: السلطة التشريعية, السلطة التنفيذية, السلطة القضائية. وكل سلطة تُمنح لهيئة organe مكونة من فرد أو أفراد : الجمعية الوطنية أو المجلس النيابي بالنسبة للتشريع. ورئيس الدولة ورئيس الوزراء والوزراء بالنسبة للتنفيذية. والمحاكم بالنسبة للقضاء.
لم تبق نظرية فصل السلطات مجرد نظرية فقد أخذت بها دساتير مثل دستور الولايات المتحدة عام 1787 ودساتير الثورات 1791, ودستور العام الثالث An III. ثم أصبح مكانها حديثا, بشكل أو بآخر, غالبية دساتير العالم.
وقد دمج دستور 1958 لفرنسا في مقدمته ما جاء في إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789 إن كل مجتمع لا تكون فيه الحقوق مصانة, وفصل السلطات غير محدد, ليس له الادعاء بوجود دستور لديه.
لم تسلم النظرية الكلاسيكية لفصل السلطات من النقد متعدد المصادر والأزمنة:
فقد كان جان جاك روسو يعارض توزيع ممارسة السيادة بين سلطات مستقلة, حتى ولو قبل نوعا من فصل المهام. لان الحكومة, التي لا يمكن أن يعهد بها لمجموع المواطنين, يجب أن تكون متميزة عن المشرع. ويصر على إنها ليست سلطة مستقلة, وإنما تابعة للسلطة التشريعية.
وجاء في إعلان حقوق الإنسان والمواطن في مادته الثالثة أن السيادة لا تتجزأ, وهذا ما لا يتفق مع فكرة فصل السلطات. فالصفة الأساسية للسلطة صاحبة هذه السيادة تتضمن تدرجية الهرمية hiérarchie للسلطات, وليس التوازن والندية.
كما أن القضاء, ما عدا ما هو الحال عليه في الولايات المتحدة, لم يكن يعتبر في أي وقت مواز ومعادل للسلطتين الأخريين. وبالتعريف فان القضاء ليس سلطة حقيقية, ولكن يجب أن تتوفر له استقلالية فعلية, فالقاضي لا يجب أن يأخذ أوامر من البرلمان ولا من الحكومة, ولا يخضع إلا للقانون. فهو خادم له.
و باعتبارها لا تعكس الحقيقة السياسية, رفضتها الأنظمة الاشتراكية, المؤمنة بالنظرية الماركسية, التي لم تكن تؤمن بفصل السلطات في الدولة. فلها مفهومها الخاص للدولة وللسلطة. فالسلطة التي تجسدها الدولة ليست إلا أداة ضرورية للتحول إلى الاشتراكية. وباعتبارها مجرد مرحلة. فلا داع إذن لتقسيمها, أو فصلها أو تقليصها.
يضاف إلى ذلك, حسبما يرى العديد من المعارضين للنظرية التقليدية, قدم النظرية وشيخوختها, فقد ظهرت في زمن لم تكن فيه الأحزاب السياسية موجودة, أو على ما هي عليه الآن, فقد كانت المسائل الأساسية التي تتعلق بالسلطة من طبيعة مؤسساتية, وتتعلق بهيئات معينة, وباختصاصات هذه الهيئات والمؤسسات وعلاقاتها. وقد جاءت النظرية لا يجاد التوازن بينها.
أما اليوم, وبوجود الأحزاب السياسية التي تنشط الحياة السياسية وتقودها, لم تعد توجد حكومة من لون معين من جهة, وبرلمان مخالف وموازن لها, من جهة أخرى. وإنما توجد أكثرية مكونة من حزب واحد أو من مجموعة أحزاب متحالفة فائزة في الانتخابات, تتصرف في الوقت نفسه بالحكومة التي تشكلها, وتملك أغلبية, غالبا ما تكون مطلقة, في البرلمان. ووجود معارضة متجسدة بحزب واحد أو مجموعة أحزاب متحالفة أو متعارضة لا يستطيع إعاقة ما تريده الحكومة. فالهدف الأساسي لهذه المعارضة يبقى في الإعداد للفوز في الانتخابات القادمة, واستلام الحكم الذي عليها ممارسته بنفس الطريقة المذكورة. ومنه فان الحديث عن فصل للسلطات لا يعود دقيقا أو مفهوما. وينطبق هذا, في الخطوط العريضة, على الأنظمة السياسية التي تأخذ بنظام الحزبين الرئيسيين, أو بنظام تعدد الأحزاب.
لم يعد فصل السلطات كما كان يريده أباء النظرية المذكورة, كابحا فعالا لتجاوزات السلطة التنفيذية بشكل خاص. فمن حيث المبدأ, في الأنظمة السياسية التي تكون فيها الحكومات مسؤولة أمام الجمعيات الوطنية أو البرلمانات, وتنال ثقتها في كل مرة تطرح فيها مسألة الثقة, يتم تبني القوانين بالأغلبية المؤيدة لهذه الحكومات, كما أن غالبية القوانين التي تصوت عليها هذه الجمعيات أو البرلمانات هي من مصدر حكومي. وعليه فان السلطة التشريعية, رغم طبيعتها التمثيلية, لم تعد تمثل ضمانة للمحكومين.
أما في النظم الاستبدادية الشمولية, فلا يتم الاعتراف بفصل السلطات, وإنما على العكس بدمجها وتركيزها كاملة بيد شخص واحد, يحكم باسم الشعب, والوحدة الوطنية, مستعملا الاستفتاء العام لإغراضه الخاصة, قصد إضفاء المشروعية المفقودة على نظامه السياسي. وفي حالة النص على فصل السلطات يكون ذلك مجرد تدوين لا طريقا للواقع, ولا ينتج أثرا.
ولكن الغالبية الراسخة والسائدة, ترى أنه لا يجب الاعتقاد بان نظرية فصل السلطات أصبحت في حكم الماضي. فان لم تعد تتصل بالحقائق السياسية الراهنة, من بعض الوجوه, فإنها مع ذلك مدافع عنها بقوة من قبل الرأي العام, وتدعيها وتنادي بها الطبقات السياسية. فالأنظمة السياسية القائمة على التعددية, والوفية لأصولها, ولفلسفة عصر التنوير, تتمسك بها بشدة. ففي فرنسا أشار دستور 1958 إلى مرجعية فصل السلطات. كما أعلن المجلس الدستوري صراحة هذا المبدأ, ودافع عنه في الأحكام الصادرة عنه.
في الأنظمة السياسية القائمة على التعددية يعتبر التمييز بين المؤسسات التشريعية والمؤسسات التنفيذية حجر الأساس في بناء السلطة السياسية. وعليه يرى الفقهاء الدستوريون أن الهيكلة التشريعية والتنفيذية التقليدية مازالت قائمة, وإنما عملهما عرف تحولا لفائدة السلطة التنفيذية. مما اخل بالتوازن الذي كانت تنشده النظرية وتعمل من اجله.
ومع أنها تبقى المبدأ الأساسي في الأنظمة الديمقراطية, فان النظرية الكلاسيكية لفصل السلطات, لم تعد تلاءم لتصنيف الأنظمة السياسية الحديثة. بمقياس إن الديمقراطيات الحديثة تتصف في الوقت نفسه بتعزيز السلطة التنفيذية, مع ظاهرة شخصنتها. وتراجع البرلمان في مهامه التشريعية.
ففي كل الديمقراطيات الحالية أصبح التشريع, في جزئه الأكبر, كما اشرنا أعلاه, من أصل حكومي. فإذا كانت البرلمانات تصوت على القوانين فهي لم تعد, غالبا, مصدرها الرئيسي. ويقوم الفصل, في الواقع, على التمييز بين وظيفة المبادرة والقيادة الذي تؤمنه السلطة التنفيذية, ووظيفة الرقابة التي تمارسها البرلمانات.
كتب كودميه Gaudemet : في التكنيك الدستوري الحالي, الفصل بين السلطة التنفيذية أو الحكومية, وبين السلطة التشريعية, يبدو اقل واقعية مما هو عليه بين سلطة الفعل السياسي الذي يعود للحاكمين, وسلطة رقابة تمارس من قبل البرلمانات. (القانون في دستور 1958).
القضاء و فصل السلطات:
ما يهم هذه السطور هو موقع القضاء في فصل السلطات في فرنسا. فعلى عكس مفهوم وظيفة المحاكمة المحدد في دول القانون العام, المستوحى من النموذج البريطاني, ينظر للقضاء في فرنسا كوظيفة تكميلية. إصدار القوانين الوضعية هي قبل كل شيء من عمل المشرع, أما المحاكم المرتبطة بالقانون المكتوب فلا يمكنها, دون قيود وشروط, ادعاء رقابة دستورية القوانين أو رفض تطبيقها.
المكانة المخصصة للسلطة القضائية في المؤلفات الدستورية المهتمة بطبيعة وأنواع النظم السياسية ونظرية فصل السلطات, لا يمكن وصفها إلا بأنها هامشية. وتستخدم في الحديث عن السلطة القضائية عبارة " autorité judiciaire " في حين تستخدم عبارة " pouvoir " عند الحديث عن السلطتين التشريعية والتنفيذية. ويمكن حسب بعض المؤلفين أن ينزل هذا بالقضاء إلى مجرد "مرفق عام للقضاء".
يبدو من تاريخ القضاء الفرنسي , حسب فواييه, أن القضاء لم يكن يعتبر سلطة. فكان دائما "سلطة مرفوضة". (القضاء: تاريخ سلطة مرفوضة. Pouvoir, n° 16, 1981, P. 17-29).
في القرن الثالث عشر كانت الدولة الفرنسية دولة قضاء. وكانت وزارة العدل chancellerie la تحتل المركز الأول بين هيئات الدولة. وكان الملك على المستوى المحلي يمثل بالمحاكم les parlements. وقد تغير الوضع ابتداء من القرن السابع عشر. فالشخصية المركزية للدولة تحولت من كونها قاض لتصبح مديرا إداريا administrateur.
قبل قرن ونصف من قيام الثورة الفرنسية كان هناك صراع شديد بين الملكية المطلقة والبرلمانات (المحاكم). وتحولت هذه المحاكم إلى ما يشبه أحزابا سياسية فعلية معارضة. غير أنها لم تكن تدافع إلا عن مصالحها الخاصة وامتيازاتها. وقد فقدت مصداقيتها وسلطتها السياسية أمام الجمعيات العامة. وكان هذا لاحقا, عند الثوار, في أساس الحذر من السياسي في مواجهة القضاة.
دساتير 1789 جعلت سلطة التقاضي (puissance de juger ), في جسم من قضاة منتخبين, مستقلون عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية. وجعلت سلطتهم واختصاصاتهم ضيقة ومحدودة. فلم يكن القاضي إلا حسب ما وصفه مونتسكيو في عبارته المشهورة " فم القانون la bouche de la loi ", القانون الذي هو التعبير عن الإرادة العامة.
وذكر دستور 1791 بأنه لم تعد توجد في فرنسا هيئة تعلو القانون. هذا التذكير كان موجها للملك, وللقضاة في الوقت نفسه. ولأن القانون هو التعبير عن الإرادة العامة فان على القاضي أن يكون خادمه المخلص, وان يقصر عمله على تطبيقه. فهو ممنوع من المشاركة في الوظائف التشريعية, كما انه ممنوع من الوظائف الإدارية.
وكان قانون 16 ـ 24 أوت/ آب 1790 قد تبنى مبدأ انتخاب القضاة لان في ذلك قطيعة مع النظام القديم. ولم يعمر هذا المبدأ طويلا, حوالي نصف قرن, فقد الُغي ليعود إلى طريقة تعيين القضاة من قبل السلطة التنفيذية.
في عهد الإمبراطورية الأولى, كان لنابليون مفهومه الخاص للدولة, معتبرا أن القضاء أداة ضرورية للسلطة الإمبراطورية, وعليه أن يكون مؤسسة ذات هيبة قضاتها محترمون. فالقضاء القوي يؤمن الاحترام للدولة نفسها. ولكن على هذا القضاء القوي والمحترم أن يكون وديعا ومطيعا لإرادة الإمبراطور. وقد كان لمفهوم نابليون المتعلق بالقضاء أثره في الأنظمة السياسية التي أعقبته: ثلاثة ملكيات وجمهورية, لم تعرف تغيرا في النظام القائم على قانون 20 افريل/نسيان 1810.
في 17 أكتوبر 1892 في خطابه المعد لدخول العام القضائي ذكر بودوان De Baudouin ,المحامي العام لدى محكمة النقض في باريس, مخاطبا القضاة, أن القضاء مدعو لكسب ثقة الشعب, وحماية القانون, والمساهمة في بناء مجد الجمهورية:
" شعب واثق بقضائه هو شعب آمن. انتم الحراس السامون للقانون, موزعو العدالة. مكانكم خارج الأحزاب, مكلفون بفرض احترام حقوق الجميع, وإخضاع الذين يخرقون القواعد القانونين لسلطة هذه القواعد.. تساهمون في تسهيل الأعمال المجيدة للجمهورية, وسيرها الصاعد نحو التقدم والحرية.". في هذا الخطاب, الذي يدعو القضاة إلى اكتساب ثقة الشعب وإخضاع الجميع للقانون, يمكن ملاحظة التميز عما أراده نابليون من القضاة, قوة ومجد للإمبراطورية, وخضوع للإمبراطور.
وجاء أخيرا دستور 1946 ليحدث قطيعة مع النظام القضائي النابليوني بإنشائه المجلس الأعلى للقضاء. السيد الوحيد والمسؤول عن ترقية القضاة, وإعطاء محتوى حقيقيا لاستقلالهم.
ولعل في مداخلة جان لويس دوبريه DEBRE رئيس المجلس الدستوري الفرنسي Conseil constitutionnel في مؤتمر الدوحة المنعقد 27 ـ 28/ 4/2008, توضيح, أراده أن يكون كاف, لما هو عليه مكان القضاء في فصل السلطات في القانون الدستوري الفرنسي:
البحث في النص الدستوري لعام 1958 عن عبارات "السلطة التنفيذية", "السلطة التشريعية", "السلطة القضائية", بحث دون جدوى. ومع ذلك لا احد يجهل أن البرلمان يمثل السلطة التشريعية. وان رئيس الجمهورية وأعضاء الحكومة يمارسون مهام السلطة التنفيذية. وان ليس من السهل التعرف على "سلطة ثالثة". فالدستور المذكور يخصص عنوانه الثامن للهيئة autorité القضائية . ولكن هذا لا يغطي مجموع الهيئات التي منحت لها الجمهورية سلطة القضاء.
ومع ذلك. في رأي رئيس المجلس المذكور, من الخطأ الاستنتاج بان الدستور, فيما يتعلق بالقضاء, لم يضمن إلا صيغة مخففة في فصل السلطات. وإنما العكس, ينظم الدستور فصل السلطات بخصوصية تنطبق على السلطة القضائية, ويعود ذلك لمهمة " حارس الحريات الفردية" المخولة للسلطة القضائية.
المادة 16 من إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789 تقرر ضرورة تنظيم السلطات, وقد أدمجت هذه المادة في مقدمته, مما أعطاها الصفة الدستورية. كما طور قضاء المجلس الدستوري أحكاما واسعة وألزم بفصل السلطات فيما يتعلق بالقضاء.
بتكليف السلطة القضائية ( ترجمنا autorité سلطة وكأنها مرادفة لكلمة pouvoir ) بمهام حارس الحريات الفردية , يكون الدستور قد عمل على تأكيد استقلال القضاء. فاستقلال القضاء لا يتحقق فقط باستقلال وحماية القضاة, وإنما أيضا باستقلال وحماية اختصاصهم, وكذلك سلطتهم التقديرية. وهذا ما يؤكد عليه المجلس الدستوري الذي يسهر على أن لا يُجّرد القاضي من إمكانية ممارسة سلطته التقديرية فيما يتعلق بالمس بالحريات الفردية.
وكما يقرر العديد من الكتاب, فقد تأسس تدريجيا مفهوما عاما للقضاء. في مجال فصل السلطات, ليس ظرفيا, وإنما على مبادئ اكتسبت الصفة الدستورية. وعليه تحول القضاء, حسب G. Delaloy , من "سلطة مرفوضة" إلى سلطة مطلوبة. فمن احتلال مرتبة مكانة ثانوية في فرنسا, رٌد له, في السنوات الأخيرة, الاعتبار في النظام السياسي, بمسانده مطالب اجتماعية جديدة, ونجاحات في التطبيق القضائي المتطور.
وما انفكت الإصلاحات القضائية الحديثة المتعلقة باستقلال القضاء ومسؤولية القضاة, تطالب بتكريس القضاء " سلطة" كاملة, وذلك بتعديل نص دستور 1958 وإدخال كلمة سلطة: pouvoir بدل كلمة autorité , مع كل الامتيازات المرتبطة والمترتبة على مفهوم السلطة . و ذلك للحصول دستوريا على مكانة جديدة في حضن دولة القانون.
والواقع انه لم يتحقق في مجال القضاء ما قد تحقق, ولن يتحقق ما هو مطلوب تحقيقه, بسهولة و دون معارضة ومقاومة من قبل الطبقة السياسية, التي ترى في التوازن بين السلطات, وبشكل خاص في رفع مكانة القضاء إلى سلطة قضائية, تهديدا لامتيازاتها. فان نشاط المحاكم في السنوات الأخيرة, إن استمر, يقود القضاة, كما يعلن السياسيون, إلى التدخل في مجالات محجوزة للسياسي. أو للدخول في تنافس مع الممثلين في البرلمان الذي ينحصر فيهم إنتاج القواعد القانونية وإقرارها.
وعليه, يبقى من الصعب تحقيق سلطة قضائية, بمعنى السلطة, إن لم تتحول الإصلاحات إلى حركة عميقة ودائمة, تقود إلى إصلاحات جذرية في هيكلة الدولة ونظامها السياسي.
فالأمر, كما لاحظ عن حق, دي لالوا, ليس بتحويل دفعة من السيادة إلى القاضي, وإنما, وقبل كل شيء, في التحول الديمقراطي السليم.
فالقاضي المستقل وذو السيادة, ليس خارج الدولة آو على هامشها, وإنما على العكس, هو في مركز الدولة. ولكن ليس أية دول, وإنما دولة القانون حصرا.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن