الطفولة المسلحة في عهد الدكتاتورية

كاظم الحسن

2008 / 10 / 28

في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي كان احد اقطاب النظام الصدامي يتحدث عن ضرورة تلوين العاب الاطفال باللون الكاكي وجعلها ذات طابع عسكري، وذلك لاعداد النشء للمهام القتالية التي تنتظرهم. وكانت الحرب العراقية- الايرانية تلتهم آباءهم وذويهم فكان الجلاد والسفاح البعثي هو المعلم والاب لفلسفة العنف والموت.

ان الطفولة تمثل مرحلة مهمة في حياة كل انسان وسوف ترسم ملامحها على مستقبله لاحقا وتحمله اعباءها واثقالها وصورها الغائرة في اعماق النفس البشرية وهذه المنطقة المعتمة قد تكون مهمة ومحفزة لمن عاش طفولة قاسية ومؤلمة وشقية ويعمل على طي هذه الصفحة والانفتاح على العالم بلا عقد او ترسبات.

وتتميز مرحلة الطفولة بالنعومة والطراوة والدهشة والبراءة والعفوية وسرعة التصديق وهي المرجعية الراجحة للكبار حين يشتد عودهم ويلجون معارك الحياة ودهاليزها وصخبها واسرارها وعوالمها الخفية.

وللطفولة عوالم مهمة ومحطات تبقى شاخصة في الذاكرة ويستضيء بها الانسان في مسيرته او معتمة تبدد طاقته وقدراته وتجعله في حالة صراع مرير مع ذاته، ومن هذه المحطات: المدرسة، المستشفى، الشارع، العوالم الاخرى التي يحاول الاندماج بها وفهم قواعدها للتكيف معها او على الاقل القبول بها والتعاطي معها بلا عقد او تذمر او شعور بالاضطهاد والاغتراب
وقد يكون العمل في مراحل مبكرة من العمر، صدمة للطفل وهو بعد لم يستمتع بعالم البراءة الذي لن يتكرر وربما سوف يشعر بفراغ مؤلم حين يغزو العمل تلك الساحة البكر من حياة الانسان وتجعله في حالة حنين جارف الى تلك الايام الخوالي.

ولعل اقسى فترة يمر بها الطفل هي الفترة المرعبة التي تكابدها الامم في الحروب والصراعات والنزاعات فتبصم اهوالها على ذاكرته البيضاء وتحيلها الى خزان للعنف والتمرد والمشاكسة.
فالحروب والصراعات الكثيرة التي مربها العراق واعمال العنف التي عاشتها البلاد القت بظلالها على حياتهم ويمكن ان نلمس ذلك بوضوح من خلال ثقافة الالعاب النارية او الالعاب او الدمى ذات الطابع العسكري التي تطوق حياتهم.

وقد تكون مشاهد القتل والدمار والحروب والموت لها ابلغ الاثر على الالعاب التي يزاولونها في صالات ومقاهي الانترنت وغالبا ما تكون الالعاب الحربية هي المفضلة لديهم دون سائر الالعاب التي لها صلة بطفولتهم وتعطيهم القدرة والامكانية على تنمية ذكائهم وقدراتهم العلمية.
بل ان معظم العاب الاطفال لا تعدو ان تكون مسدساً، دبابة، بندقية، وقد يهزأ بعض الاشخاص من الاطفال الذين يلعبون بالعاب مدنية ويرون ذلك تقليلاً من رجولتهم
.
ومن الطريف ان من المهتمين بحقوق الاطفال حاول تشجيع بعض التجار على استيراد العاب تشيع المرح والبهجة والحب بين الاطفال الا ان البعض عاتبه قائلا له لماذا تريردون قطع ارزاقنا؟
ولقد تنبهت الدول التي قطعت شوطا بعيدا في التقدم الى ان معظم الطغاة وعتاة المجرمين مروا بفترة صعبة من حياتهم وقاسية ولم يقدروا ان يتجاوزوا تلك الحقبة المظلمة، فأحالوا مجتمعاتهم الى خراب ودمار لاحقا، ولهذا اصبحت تربية الطفل واعداده بشكل سليم من مسؤولية الدولة والاسرة، اذ نرى الدولة ترعى الطفولة وتحاسب حتى الاسرة اذا تعرض الطفل الى عقوبات قاسية من قبل الاب حتى لا يسقطها فيما بعد على الاخرين.

الاطفال هم الثروة القومية لكل شعوب الارض التي تخطط للمستقبل وتراهن على التطور والازدهار والتقدم وحين يفرط بهم احد ويصل الامر الى عسكرة حياتهم بطريقة بشعة فان من يقوم بذلك يحاول القضاء على معالم الحياة وينابيعها المتدفقة بالخضرة والنضارة والأمل ويلغي المعاني كل المعاني الانسانية والروحية التي عاشها البشر منذ قرون سحيقة.

فلذات اكبادنا التي تسير على الارض تعمل الامم الحرة على تشريع قوانين تحرم عليهم العمل في هذه السن المبكرة وتقاضي اصحاب الشركات وارباب العمل على ذلك لانها للمرحلة البريئة والناصعة التي يمر بها الانسان انهم جزء حيوي من منظومة المجتمع وعادة في الحروب يعامل الطفل او الاسير او المرأة بشيء من النبل والشهامة حتى قيل ان قطرة الانسان حبلت على ذلك، واي حزب او جماعة او دولة تحكم على نفسها بالموت والانهيار القيمي ان انتهكت ذلك، وعليه نجد ان معظم الحركات السياسية وحتى المتطرفة في العالم درجت على احترام هذه المعاهدات والمواثيق لانها تعطي القيمة والمروءة للانسان، بل ان الرأسمال الرمزي للانسان (الدين) الذي يشكل المركز في حياة الانسان لا معنى له ان لم يلتزم بالمعايير الاخلاقية.

ومن اجل تسليط الضوء على الفترة القاسية التي عاشها الاطفال في العراق في عهد النظام السابق، كان لنا هذا اللقاء مع عدد من المثقفين والادباء والاكادميين.

تبعيث الطفولةصلاح عبدالهادي (ماجستير كيمياء) اشار بمرارة حارقة الى تلون طفولته باللون الكاكي قائلا: في فترة من حياتي عندما كنت تلميذا في المدرسة الابتدائية لم اكن اعرف من الرسوم سوى الدبابة والطائرة الحربية ولكن عندما اصبحت اكثر وعيا علمت ما معنى ان تكون ذا طفولة مشوهة، انعكست على طريقة تفكيري واصبحت ذا اتجاه احادي كما هو الحزب الحاكم آنذاك.

واضاف: اعتقد ان النظام السابق كان له مشروع كبير جدا في هذا الجانب فهي عملية تبعيث الطفولة والشعب في ذات الوقت، وهذا الامر واضح من خلال المنظمات التي قام حزب البعث بتكوينها ابان الثمانينيات من القرن الماضي الا وهي منظمات الطلائع والفتوة، وبدلا من ان نعلم الطفل كيف يرسم ويعزف ويحب الحياة ويستمتع بطفولته بالعاب على قدر عمره كان البعث يعلم الاطفال حمل السلاح والوقوف بصورة عسكرية صارمة واصبحنا من ذلك الحين لا نعرف شيئا عن الحياة، والعالم بالنسبة لنا لا يعدو عن بندقية متجاهلين الوان الحياة الاخرى من موسيقى او مسرح او رسم او الفنون الاخرى.

وبالتالي فان مشروع الطفولة المشوهة كان جزءاً من المشروع البعثي الواسع الذي جرى في العراق ومع سقوط النظام كان هذا الامر واضحا وجليا، من خلال النسبة العالية للأمية بين الاطفال وهي الاعلى قياسا بالدول العربية، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال تسرب الاطفال من المدارس بصورة متزايدة، وما ظهور الجماعات المسلحة الا دليل على ذلك اذ يمكن ان نتعرف بسهولة على المنتمين لها وهم في مرحلة الشباب ومن ثمار الحروب المرة وتكاد ان تنحصر في المواليد (الثمانينيات، التسعينيات) وهذا يعني ان هؤلاء قد تشربوا التجربة البعثية بكل ابعادها ومن الصعب على اي بلد ان ينهض دون الرجوع الى قطاعات الطفولة والشباب، ولذلك اصبح لزاما علينا ان نعيد بناء هذه الشريحة المهمة من المجتمع التي يقوم عليها المستقبل في اي بلد كان.

تدمير الأسرة والمدرسة و حروب النظام مساوية لسنين حكمه

اما المهندس (جعفر علي) فانه يرى اهمية الاسرة والمدرسة في تأسيس وتكوين شخصية الطفل من الناحيتين السلبية او الايجابية.
الثقل الكبير من المعاناة اصاب الاسرة لان حروب النظام السابق لم تكن اياما معدودة وانما استمرت سنين طويلة تكاد ان تكون مقاربة لسنين حكمه، فالطفل الذي فقد اباه نتيجة الحروب واعدادهم ليست قليلة لا ينشأ سليما ومعافى مهما كانت الام متمكنة من سد فراغ الاب، فهذه الجوانب النفسية تتفاعل في داخل الانسان من دون ارادة منه لاسيما ان الاب يقضي معظم الوقت في ساحة الحروب، والحاضنة الثانية بعد الاسرة المدرسة التي تأثرت باجواء الحروب وتلقت اجنداتها من المؤسسة السياسية المفتقرة للعلم التربوي بحيث زرعت لدى الطفل بذور العنف من خلال منهاج جماعي نقيض لروح التسامح وروح المدنية.

اذن عمل النظام السابق على تدمير الاسرة والمدرسة وهي المنتجة للطفولة.

بنى الاستبدادفيما اكد الكاتب عبد الرزاق النداوي على ان عسكرة المجتمع توطدت من خلال بنى الاستبداد، رغم اعتقاد البعض في ان سياسة وثقافة عسكرة المجتمع عموما والطفولة خصوصا انما جاءت على خلفية الحروب التي خاضها النظام البائد كضرورة موضوعية داعمة لهذه الحروب بخلق مجتمع عسكري يرفد ميدان القتال.

فلقد سعى النظام البائد ضمن اجندته المعلنة (الشعارات الثورية) والغاطسة بالاجراءات السرية على تأسيس دولة الرعب والموت مستثمرا ما يمكن ان نسميه (بنى الاستبداد في العراق) وهي: (عسكرة المجتمع، الاقتصاد الريعي، قيم القرية) وبالرغم من كوننا الان بصدد (عسكرة الطفولة) التي هي جزء من عسكرة المجتمع عموما فلا ضير ان نعرج ايجازا على ما نعني به الاقتصاد الريعي وقيم القرية
.
عمد النظام السابق على استثمار موارد البترول الهائلة كتعويض وسد ثغرات ما يتداعى من سياسة الطغيان والاستبداد والتي يشكل التفريط والهدر بالكفاءات والقدرات المهنية لصالح مفهوم الانتماء والولاء، اما ما نقصده (بقيم القرية والعشيرة) فالموضوع هنا لا يتجاوز حصريا استثمار النظام البائد للجانب الاجتماعي لحياة القرية وما رافق هذا الجانب من بعد سايكلوجي رسم محددات شخصية ابن القرية (الخاضع لشيخ القبيلة) بهذا الشكل او ذاك.

ومن الممكن تحويل هذا الولاء من جانبه الاجتماعي القيمي الى مجال وفضاء السياسة من خلال ولائهم الى الحاكم الطاغية ومن ثم اسناد ما يمكن اسناده لهم من مناصب رسمية تحفظ للحاكم صفة الولاء المطلق له من جانبهم طالما ان امكانية هذا الولاء تكاد ان تكون شبه معدومة عند ابناء المدن لما يتصفوا به من تمرد.

وتبقى (عسكرة الطفولة) هي الرافد الاساس في بناء اجيال تمتاز بالطاعة العمياء للحاكم والقمع والنفي والاقصاء لمن يعادي ويقف بالضد من هذا (الحاكم الملهم) وباعتبار ذلك جزءاً من قيم الانضباط العسكري وكذلك من قيم (المواطنة الصالحة) التي لا ترى للمواطن موقفاً سوى موقف الطاعة والخضوع للحاكم المطلق.

ولا يتم ذلك الا بمغذيات ثقافية ومادية تؤسس لصناعة مثل هذه الشخصية من خلال الترويج لثقافة وقيم العسكرتارية في فضاءات الطفولة (الروضة، المدرسة، الزي، افلام سينمائية) وغيرها من آليات متعددة الاشكال والمضامين تجعل تنشئة الطفولة باتجاه قيم العسكرة امرا مفروعا منه بعد ان تزرع روح الخضوع والخنوع لرمز السلطة وهذا ما نراه الان سائدا في مجتمعنا الذي كان ضحية هذه السياسة التي لا ترى للحوار طريقا او منهجا الا بالعنف والبندقية.

اغتيال الطفولـةالقاص عبدالستار ربيع آثر ان يكون حديثه اقرب الى الشعر واصفا صورة الاب العائد من الحرب حين يستحيل الاب الى صندوق خشبي مغطى بخرقة منقوشة بنجوم مطفأة.
وحيـن تستحيـل الام الـى كائن يشبـه الرصيـف بسواده وقـد تضطر الـى بيـع كـل شيء عندهـا تتسرب الطفولـة بغفلـة، فتنسى الاصابـع اليافعة، ملمس القلم وتعتـاد الحديـد البارد المميت بهذه الخطوات نجـح (صـدام) باغتيـال الطفولة زارعـا الخراب فـي كـل شيء حتى اصبـح كـل شـيء هرمـا قـابـلا للحريـق.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن