عندما تستفيق ُ آسيا - 2

وليد مهدي
waleedmahdi2002@yahoo.com

2008 / 10 / 23

آسيا و الإنطلاقة الجديدة .. نحن نعلم ، إن الحضارة الإسلامية كانت متفوقة في يوم ٍ من الأيام ، وكانت المعرفة في الإسلام ..وبالتحديد النظرية المعرفية الإسلامية القائمة على " الجدل " و " التفكر " والتي أرسى دعائمها الروحية القرآن وتجسدت فيما بعد بتحليل ونقد فكر وفلسفة اليونان ذات قيمة موضوعية في وقتها تتفوق على لاهوت العصور المسيحية الوسطى الذي لا يعرف حتى اللغة اليونانية ، مع ذلك ، فإن الحضارة الإسلامية إستغرقت في الجدل العقيم بين مذاهب الفكر والذي ظهر إنه بلا نهاية بين جبهتين من الفكر بصورة عامة :
الجبهة اللاهوتية .. التي تؤمن بالوصاية الإلهية المطلقة على العقل البشري
الجبهة " العقلانية " التي تؤمن بدور العقل البشري في تعمير الأرض والحياة في هذا العالم ، وكان من أبرز دعاتها الفيلسوف المسلم الأندلسي..ابن رشد .
مع إن هذا الإتجاه الأخير كان نادراً جداً ولم يكن مذهباً عاما ً في التفكير لدى عامة الناس كما يعتقد اليوم ، مع ذلك فقد أسهمت الأندلس في نقل النظرية المعرفية الإسلامية إلى أوربا ، فعلى الرغم من إن النظرية المعرفية الإسلامية بعموم تجربتها ركزت على " الإنسان " وحياة الإنسان منذ القرن الحادي عشر فيما عرف بالأدب بلغة ذلك العصر وما نسميه بلغتنا اليوم " العلوم الإنسانية " كما يشير إلى ذلك محمد أركون ، ورغم إنها لم تهمل " الطبيعة " في معارفها لكنها لم تولها العناية التي تميزت بها النهضة المعرفية الأوربية ، فالطب الإسلامي كان يتميز بالتجريب .. التجريب بمعناه التطبيقي في حضارتنا العصرية ، ولقد كان كتاب القانون لأبن سينا مبنياً على التجريب ، وكان المنهج التجريبي في ذروته في مؤلفات الرازي الطبية التي عبرت الأندلس إلى أوربا قبيل النهضة ... إضافة للكيمياء التي تميز بها جابر بن حيان .
نلاحظ إن النهضة الأوربية التي دخلت عهداً جديداً من المعرفة التطبيقية قد عممت المنهاج التجريبي " الإسلامي " ليشمل العلوم الطبيعية ، خصوصاً الرياضيات وهندستها والفيزياء ، وتوسعت في مناقشة نظرية معرفية خاصة بالمنهج العلمي على يد بيكن وديكارت وغيره من الفلاسفة ..
وبينا إن ديكارت تمكن من فصل ما هو " عقلي " وما هو " طبيعي " ، وبقيت هذه السمة موروثة في الفكر الغربي التي إعتبرت مشكلة في بداية القرن العشرين بعد نظريات الكم والنسبية في الفيزياء ، وفيما أسهمت هذه الثنائية في عصر التنوير بملئ " الفراغ " الذي أحدثته الثورة العقلانية لتجئ بقيم أخلاقية ومعاني ومفاهيم إنسانية بديلة عن المفاهيم الدينية القديمة ، لكن ، ومع بداية القرن العشرين وتحول العقل الغربي إلى تبني النظريات المادية الصرفة عن العقل البشري ، وكما قدمنا .. فإن القيمة الأحادية لتعريف الإنسان ، ونقصد إعتبار العقل نتيجة لنشاط وظيفي مادي ، ونتيجة للضغط الكبير الذي تعرضت له مختلف دول العالم الثالث قد أسهم في إعادة بروز الوعي الديني وفي العالم الإسلامي خصوصاً ليسد هذا الفراغ الجوهري في الوعي الإنساني .. فهذا الوعي مؤسس على الثنائية .. !

المد الآسيوي العظيم .. سيعيد بلورة وصياغة الفكر الإسلامي والعالمي من جديد ، و هذه الإعادة لن تخلق صراعاً فكرياً عنيفاً مع الشرق ، فالشرق حكيم وخبير بما يكفي لإقناع العالم بظرورة " دمج " هذه الثنائية في كيان ثالث ... !

ما بعد العقل الحسي
يصعب علينا كثيراً ، برأي الشخصي ، أن نتحدث عن " العقل " دون الإفلات من عالم الوقائع المدرك البسيط إلى عالم البنى الفكرية الفلسفي .. اللاواقعي والصوري ، فما في مكتبات أوربا والولايات المتحدة حول الموضوع ما يجعل كل واحد ٍ منا بحاجة إلى عدة سنوات من النقاش العلمي الأكاديمي البحثي .. قد لا نصل في نهايتها لنتيجة ..!
إننا بحاجة ٍ ملحة للإختصار ، والتركيز .. والتبسيط ما إستطعنا لإنتاج أفكار ومناهج جديدة توائم الذهن الجديد لــ" هذا الجيل " في العالم العربي والإسلامي والشرقي بصورة عامة ، هناك قضية أساسية ينبه إليها مترجم كتاب " جفرافية الفكر " ( 4 ) حيث يرى المترجم شوقي جلال في مقدمة ترجمته له إن إحدى مسلمات فكر التنوير الغربي إن أنماط الفكر البشري واحدة أينما كان البشر في الشرق أو الغرب ، وإن البشر في كل العالم يفكرون بطريقة واحدة ، فيما اليوم بات لزاماً على الغرب أن يعترف بأن الشرقيين لا يفكرون مثل الغربيين .
ويضيف شوقي فكرته الهامة عن الكتاب :
أرى في هذا الحصاد الجديد الفريد من الدراسة عن الغرب وعن الشرق الأقصى دعوة ً لنا نحن العرب لكي نتأمل واقعنا الثقافي وتراثنا في ضوء دراسة عقلانية نقدية تجريبية .
فبعد ثورة المعلومات و الإتصالات والتي بلغت الذروة مطلع القرن الحادي و والعشرين حدث و لأول مرة أن تظهر بحوث في مختلف المجالات تؤكد وجود إختلاف وتناظر في تفكير الشرقيين والغربيين ، كأن الفكر قطبين .. يتداخلان كما يرى هيجل في علاقة تضاد لتكوين هوية ثالثة ربما تعبر عن الفكر الإنساني بشموله ..

لماذا تخلف الشرق ؟

كتاب ريتشارد نيسبت على درجة عالية من الأهمية ، فهو قد بين بناءً على بحوث عملية متعددة أجريت عبر العالم وأثبتت إن الشرقيين يركزون على الأفعال فيما الغربيين يركزون على الأسماء في تعلم اللغة ، و الأمثلة كثيرة في الكتاب ، لكن النتيجة واضحة وواحدة ، وهي إن الذهن " الكلاني" للشرقيين والذي يرى العالم ككل موحد ٍ متناغم حيوي وحركي غير ثابت ، يرى من العالم العلاقات أولا ً وهو الذهن الذي يميل إلى التعرف على المتغيرات أولا ً وهي " الأفعال" قبل الثوابت ومنها " الأسماء " التي يتعلمها أطفال الغرب أولاً حيث الذهنية " الفردانية " الإستاتية الثابتة !
فالغرب يبحث في التفاصيل فيما الشرق يبحث في العموميات ، وهذا التناظر المكتشف حديثاً لابد وان يجعلنا نتسائل :
إذا كان العقل للفرد الشرقي ينطلق من العلاقات وما تمثله من " كلانية " مناظرة للــ" الفردانية " في الغرب ، فهل يصح أن تكون مناهج الجامعات الدراسية الغربية هي نفسها التي تستنسخ من الغرب لتطبق بنفس الصورة في الشرق ؟
هل يصح تطبيق نظرية المعرفة الغربية القائمة على قيم إجتماعية فردانية " أو شخصانية " وما تعكسه من طريقة مناقشة وتفكير بنفس الأسلوب والطريقة في العالم الشرقي ؟
هل هذا يفسر الأسباب التي أدت إلى تخلف الشرق ، أي تطبيق نظرية معرفة ومناهج مخالفة أو لا تنطبق على القالب الفكري – العقلي الشرقي ، الديناميكي القائم على الحركة لا الثبات المنبثق عن علاقات كلانية جمعية لا فردية ذاتية خاصة ..!؟
أم إن هذا كله مبالغة وتضخيم ، أو حتى تبرير لواقع التخلف الشرقي عن ركب الحضارة العصرية ..؟؟
إننا بحاجة إلى " تجرد " حقيقي هذه المرة ، تجرد ٌ يجعلنا نبحث في فلسفة " الفردانية " أو " الشخصانية " Personality وما تعنيه ، وفلسفة " الكلانية " وما تخفيه ، فالأولى مدروسة ومستفيض ٌ فيها البحث لكونها تختص بالعالم الغربي ، الذي يتميز بها منذ الإغريق ، فيما الثانية خصيصة الحضارات الشرقية وفي أقصى الشرق بالتحديد، وهذه العملية بالفعل تحتاج ُ منا أن نكون خارج إطار تفكيرنا الذي تعودنا عليه ، فكوننا شرقيين .. فهذا يعني إننا سندرس علاقات الشرق والغرب من ثقب " الكلانية الديناميكية " ، فيما الغربيين وأحكامهم على الشرق فهي واقعة تحت تأثير الرؤية عبر ثقب " الفردانية الإستاتيكية الثابتة " ... وبالتالي وبناءاً على ما طرحه ريتشارد نيسبت فإن تعريف " العقل " الحالي الذي بين أيدينا والذي هو مصاغ ٌ كلياً في الغرب إنما هو العقل المنبثق عن " إطار " ومنهج التفكير الغربي الممتد منذ ديكارت وحتى يومنا هذا ( 5 ) .
لابد من التجرد والتحليق " خارج " الإطار الفكري ، وربما آن الأوان للبشرية أن تعرف العقل تعريفاً جديداً .. لا شرقي ٍ ولا غربي ، فالمسيرة الإنسانية المعرفية تتقدم ، ومؤكد ٌ أن عماد التقدم المعرفي هو تقدم المعرفة العقلية .. فهل إن الوقت قد أزف لنتحول إلى رؤية جديدة للتفكير ، رؤية تفرز بين الفكر الجمعي " الشرقي " والفكر الفرداني " الغربي " ، وهل بالإمكان التوصل بعد ذلك إلى رؤية لعقل ٍ جديد مجرد ؟
إن هذا ما نسميه في هذا الفصل ، ثورة ُ ما بعد العقل ، ففيه سنتعرف على المسار والطريق إلى عالم ٍ معرفي " متفوق " بما في الكلمة من معنى على العقلانية الغربية المعاصرة ورؤيتها للعقل قديما ً وحديثاً .

منطق الغرب ومنطق الشرق

نعود إلى شوقي جلال ، والذي يشاركنا في هذا الرؤية بمقدمة ترجمته لكتاب " جغرافية الفكر " في معرض تساؤلاته :
هل البشرية في طريقها إلى تغيير أسس وقوانين الفكر جذرياً ؟
هل أصبح لزاما ً مراجعة أسس الفكر أو التفكير الإنساني ؟
ونقول للسيد شوقي :
أصبح ذلك لزاما ً .. ولكن .. لا أحد سيسمعنا الآن ، طبيعة الجنس البشريــة لا " تلزم " نفسها مالم تكن هناك حاجة لهذا الإلزام ، فالحاجة أم الإختراع ، وما سيحصل من ثورة كونية جبارة في الثقافة نتيجة التحول الإقتصادي العاصف سيلزم العقل البشري بكل تأكيد و بظروة ملحة لتغيير أسس وقوانين الفكر جذرياً ..
ويستمر شوقي بالتساؤلات التي تدور حول الفكرة التي كانت تعيش معنا لقرون طويلة بان العقل والمنطق واحد في كل العالم ، ويستذكر المنطق الأرسطي الصوري الذي يهيمن على الفلسفة العقلية منذ بدء التأريخ المعرفي الذي نعرفه ، والذي زيد عليه وأستند عليه الفكر الذي تطور في أوربا بعد النهضة وعصر " التنوير " ، هذا المنطق لا يزال يحتل مكانة كبيرة ، ولا تزال أهم أسسه شائعة في الإستدلال البديهي الفكري من قبيل قانون عدم التناقض الذي يعني إن أي قضية لا يحتمل أن تكون صحيحة وزائفة في نفس الوقت ، أو إن الكون يتألف من أجزاء وعلاقة الجزء بالكل ، وكون الوجود يبدأ من الثبات .. وغيرها من القضايا المعروفة في المنطق الكلامي الإعتيادي .. الذي ندعوه بالمنطق الأرسطي .
يتساءل شوقي مرة أخرى :
هل لنا أن نسمع أو نقرأ عن نهاية أو ما بعد مدارس المنطق الغربية وتظهر مدارس جديدة لمنطق ٍ جديد ؟
في الحقيقة ، هي ليست المرة ُ الأولى التي نسمع ُ فيها مثل هكذا إفتراض ، منطق جديد ، ومدارس فلسفية جديدة تناظر المدارس الغربية ، لكن ، الفرق هذه المرة إن تساؤلات شوقي جلال يقدمها لترجمته على وقع النتائج التي يخلص إليها الكتاب بوجود إختلاف ٍ أو تناظر بين فكر الشرق الأقصى والفكر الغربي و إستشهاده بمنطق أرسطو رغم قدمه يعطينا إشارة إلى " البداية " التي تسائلنا عنها لدخول عالم ما بعد العقل الشرقي ، هذا الدخول الذي بات مطلباً أساسيا ً لكل البشرية بعد " إفلاس " العقل الغربي مادياً ومعنوياً ، كذلك وإن البداية من فلسفة اليونان وبالتحديد أرسطو هي بداية أولية صحيحة لأنها المنطلق الذي بدأت به النهضة وعصر التنوير في أوربا .
في هذا الكتاب لن نطيل التفصيل في الحديث عن أرسطو ، وسنذكر أهم ركائز منطقه الصوري وعلاقته مع الحضارات الشرقية القديمة .
بالإمكان أن نستشف إن وظيفة المنطق الفكرية المنفصلة عن الطبيعة حالياً ، المنطق بمجمله اليوم في صورة تحوله الرياضي الحديثة ، مؤسسة أصلاً على قواعد مناظرة لمنطق طبيعي فوق – بشري ، أو منطق طبيعي يختص بعالم العقل الإنساني المجرد عن الطبيعة ، فهل يمكن أيجاد منطق خاص بالعقل البشري مندمج مع الطبيعة ؟
فالنظرة الأولية للتأريخ توحي لنا وكأن أرسطو هو الذي أبدع قضايا المنطق وخلص الفلسفة من السفسطة ، فيما إننا لو قمنا بعملية تحويل " ضدي " بسيط لأهم القضايا التي تناولها أرسطو في منطقه تكون المفاجأة بأن منطق أرسطو مجرد منطق " ضد " لمنطق الشرق القديم .. !

المنطق المناظر للمنطق الأرسطي
( المنطق الثلاثي )

حينما نتأمل قضايا المنطق الأرسطي الرئيسية :
عدم التناقض ، الذاتية ، الثالث المرفوع ، وما تؤدي إليه من قواعد ذهنية نحو :
أصل الأشياء هو الثبات ، علاقة الكل بالجزء وكون الجزء هو الذي يكون الكل .
تذكرت العالم الفيزيائي " بول ديراك " وهو يتوقع وجود إلكترون ٍ نقيض ٍ للإلكترون الإعتيادي بعد أن قام بحل أحدى المعادلات الرياضية فظهر له حد ٌ موجب ، فأفترض في ضوء ذلك وجود َ جسم ٍ يناظر الإلكترون كتلة ً وكمية ً من الشحنة ولكن ، يخالفه في نوع هذه الشحنة ، أي إلكترون موجب !
في زمانه ، كان يعتبر رأي ُ ديراك ضرب ٌ من الخيال ، ولكن ، ما أن مرت السنين وتطورت العلوم النووية حتى بهر الفيزيائيون بوجود الإلكترون النقيض .. والبروتون النقيض تماما ً مثل وصف ديراك الذي قادته إليه قوانين الطبيعة الرياضية ..

وفي قضية أرسطو ، ربما سيكون الطريق ُ علينا صعبٌ جدا ً إذا ما إفترضنا قضايا منطقية " نقيضة " للقوانين الجوهرية الثلاث ، حيث سنحتاج إلى تمثيلات وبنى ومسائل طويلة الشرح لنقارنها مع المسائل التي عالجها أرسطو وغيره من " المناطقة " و المتكلمين المسلمين ... لكن هناك مفاجأة ٌ في الإنتظار ، ستسهل علينا الطريق وتغنينا عن عناء البحث وتقدم إلينا حلولاً جاهزة لكل تساؤلاتنا السابقة !
يبقى أن نذكر ... إنه وبالرغم من الظاهر إن الغرب تمكن من " تجاوز " المنطق الارسطي في رؤيته ، خصوصا ً بعد جورج بول وجبر المنطق و رسل والذرية المنطقية ووايتهد وتأثر الفلسفة بالعلوم والمكتشفات الحديثة (6 ) ، لكننا سنثبت إن منطق العلاقات النهائي هو بمجمله صورة اخرى " وليدة " عن الارسطية وإن ظهرت بينها مفترقات ، لكن ، وفي ضوء هندسة الوعي والإدراك التي سنناقشها في الفصول القادمة فإن الغرب برمته يفكر بإطار ٍ خاص قائم على التفريق ... والتفصيل ويستند إلى مرجعية الوحدات الحسية في القياس والتحليل والرؤية ، فيما سنضع بعد تحليل ورسم صورة لمنطق الشرق رؤية ما بعد حسية للتفكير في الطريق إلى نظرية معرفة شرقية جامعة " كلانية " .

منطق الشرق
الذي يحصل لو قلبنا القضايا أو القوانين الثلاث الأساسية لمنطق أرسطو هو :

الذاتية ....................... نحولها إلى .......... التجاوز الذاتي
عدم التناقض ................نحولها إلى ........... قبول التناقض
الثالث المرفوع .............نحولها إلى ............ قبول الحد الثالث

القضية الأولى ، الذاتية أو " الماهية " ، تعني إن الشيء قائم ٌ هو في ذاته ولا يمكن أن يكون الشيء شيئاً آخر وإن مصدر الأشياء ( في الطبيعة أو الفكر ) هو السكون، فيما تحويلها إلى القاعدة المقابلة يعني العكس إن شيئاً ما يمكن أن يكون شيئاً آخر نفس اللحظة ، والقاعدة الثانية ، عدم التناقض تعني أن لا يكون الشيء يحتمل صفتين متناقضتين ، أو أن يمتنع وجود الشيء وعدم وجوده في نفس اللحظة فيما القاعدة المقابلة تعني العكس من هذا تماماً ، أي إحتمال أن يكون الأبيض أسوداً أو يتواجد جسم ٌ ما في مكان ما وهو أيضاً غير موجود ٍ في هذا المكان ، أما القضية الثالثة ، الثالث أو الوسط المرفوع فهي تعني إنعدام الحد الوسط في حكمنا على طبيعة ما ، كأن نقول :
فلان ٌ حي ... أو نقول هو ميت .. لا يمكن أن يكون حياً وميتاً في نفس الوقت وهي النتيجة التي نصل إليها في القاعدة المقابلة .
يفاجئنا " هيجل " برؤيته الفلسفية الحديثة نسبياً حين يقول إن الوجود قائم ٌ على التضاد بين نقيضين ، يؤسسان في علاقتهما قيمة ثالثة ، وهذا ما يخالف قانون الثالث المرفوع ويتفق مع منطق الضد الذي إفترضناه، وكذلك فإن نتائج نظريات الكم التي تكشف عن " إزدواج " الخواص الموجية الجسيمية في الفوتون أو كمات الطاقة الكهرومغناطيسية ، فالفوتون ، وحتى الإلكترون يمكن أن يكون جسماً يتمتع بخواص الأجسام المادية في نفس الوقت الذي هو " موجة " لها خصائص الموجات ، حيث إن حوادث معينة تظهر الجسيمات بسلوك دقائقي جسيمي فيما حوادث ٌ أخرى تظهرها وكأنها موجات ... وهذا عين التناقض حسب المنطق الأرسطي وعين اليقين حسب المنطق الضدي !
ليس هذا فقط ، فالإلكترون ليس هوية محددة تنطبق عليها خواص الذاتية ، وإنما هو " كم " من الإحتمالات في مدار الذرة ، بمعنى هو عنصر تكويني شبحي في المادة يختلف عن كوكب الأرض في مداره حول الشمس ، فالأرض لو كانت مثل الإلكترون في مدارها حول الشمس فهي عدة كواكب إحتمالية الظهور في المدار تطابق الأرض جميعا ً ، وهي لا تتحرك بمحيط حركتها المعهود وإنما تتصرف كما لو إنها أكثر من جسم تتطابق كلها مع جسم واحد !
الادهى من هذا كله هي النظرية النسبية العامة والخاصة ، فهي لم تنقض قواعد المنطق الأرسطي واحدة تلو الأخرى ، وإنما ضربتها جميعاً بضربة واحدة !
فالمسافة .. تتقلص .. وتتمدد ، المسافة بمعناها الحسي المجرد ، يمكن أن يتحول المتر إلى سنتمتر أو يتزايد إلى كيلو متر حسب سرعة الجسم ، كذلك الكتلة فهي تتزايد كلما زادت السرعة وتتباطأ كلما قلت ، أما الزمن فهو الآخر يتقلص .. السنة يمكن أن تكون ثانية ، والماضي حسب النسبية لم يرحل تماماً ، يمكن في يوم ٍ من الأيام أن نسافر إليه ، ناهيك عن المستقبل ، ونعرف إن أفلام الخيال العلمي التي تحكي عن السفر للماضي والمستقبل إنما توسعت في هذا الخيال بدافع ٍ من النظرية النسبية .
على الرغم من إن الفلسفة الهيجلية أقرب أن تسمى " فلسفة طبيعة " أو فلسفة فيزياء ، بمعنى هي محاولات لتفسير الطبيعة أكثر منها أن تكون تفسيرات لطرق التفكير كتلك الأرسطية القديمة أو المنطق الحداثوي المعاصر ، لكن ، ما يمنع أن تكون هناك طريقة تفكير تنبثق من رحم الطبيعة نفسها ...؟؟
فالمنطق الأرسطي ساد الذهنية العالمية ولفترة طويلة على إنه " قوانين " فكر وليس مجرد منهج للأفكار ، إذا أثر المنهج على طبيعة تشكيل الأفكار ، وفيما وجهت الإنتقادات إلى المسلك الأرسطي المنطقي العام وصولاً للقرن العشرين والتحول إلى الصورة الرياضية للمنطق ، إلا إن القضايا الجوهرية الأساس ، الذاتية وعدم التناقض والثالث المرفوع لا تزال قضايا مركزية للتفكير العقلي العام وتؤثر بطريقة أو بأخرى على مجمل المنهج العلمي وإن بإسلوب ٍ غير مكشوف .
النتيجة التي خلص إليها منطق العلم الحديث إن العالم الذري الأدنى عالم ٌ آخر ، تختلف قوانينه عن عالمنا نحن ، العالم الحسي الذي يبدو إن المنطق الأرسطي فسره ببساطة ، لكن الفيزياء الحديثة كشفت إن عالمنا الحسي عالم ٌ قاصر ٌ ، وإن الوعي الإدراكي المجرد عانى من هذا القصور لأكثر من ألفي سنة منذ اليونان ، وبالتالي فالعقل التفكري الإسلامي هو العقل البسيط المجرد ، أما العقل التنويري الغربي فهو العقل المتسلح بأدوات الإستدلال العلمية من قوانين الفيزياء والعلوم الأخرى ، العقل الإسلامي هو العقل القريب من الحس الفردي البسيط المجرد ، ولهذا كان أرسطياً رغم إن منطق أرسطو كان صورياً يبني معرفته بعيداً عن الملاحظة ، لكن قواعده البنائية الأساسية إنما إستوحيت من الملاحظة الأولية ، ونقصد قواعد المنطق الأساسية ، وعلى الرغم من إن منطق أرسطو هو مجرد منهج للتفكير في العرف الإسلامي المعرفي ، لكنه بمرور الوقت تحول إلى ما يشبه القوانين الطبيعة بفعل الفلسفة التي إعتمدت عليه ، فيما عقل التنوير الأوربي حاول تغيير هذا التفكير الصوري بإضافة قواعد " علمية " مع إن العقل عن الأرسطية بعيداً ، لكنه حافظ على الترابط معها " لغوياً " ، بمعنى إن منطق أرسطو والذي هو أداة عقلية أولية إختصت في عصر التنوير بمجالات بعينها مع ما أضيف عليها وحدث فيها ، فيما فلسفة العلم الحديثة هي أدوات عقلية أكثر تطوراً ، لكنها وصلت إلى حدٍ معين لم يعد العقل الحسي بقادر على إستيعابها إلى درجة أننا نرى اليوم فجوة كبيرة بين تفكير المثقفين والمختصين في الفيزياء النظرية مثلاً ، فالمختص وحده لديه رؤية مناقضة للمنطق الأرسطي ، فيما المثقفين ناهيك عن العوام لا يزالون يدورون في الفلك الأرسطي ..!
ناهيك عن المشكلة الأساسية الكبرى في منهج العلم المعاصر وهي سرعة التحول في ذهنية الجيل الجديد ، وهو جيل التلاميذ والطلبة ، جيل " الأكشن " و الرقميات ، جيل الوجبات السريعة والأغاني السريعة ( جيل المختصرات ) قياساً مع جيل المعلمين والمفكرين ، ( جيل البنى اللغوية ) وعالم الألفاظ ، جيل الأوبرا و الأوركسترا ، والذين لا يزالون حتى اليوم يكيلون اللعنات على الجيل الجديد بأنه جيل منحط لا يريد التعلم ...!
لا يزال كثير من المفكرين في كل العالم يعتقدون أن بهم هم قد إنتهى التأريخ ...
لا يدركون حتى اللحظة إن زمانهم ولى .... والتأريخ أذن بفجر ٍ جديد لا يتوقعوه أبداً ...!
فالسؤآل هل هذه هي نهاية العقل .. المتحول من القيمة التفكرية الفلسفية المجردة الأرسطية – الإسلامية إلى القيمة العقلانية ( الغربية ) المسلحة بأدوات علمية تجردية مساعدة للعقل التفكري ؟؟
هل هناك شوط ٌ تحولي ٌ آخر ، أي ، هل هناك مرحلة جديدة من " التعقل " تتفوق على العقل الإسلامي اليوناني والعقل الغربي المعاصر ؟
هل يمكن أن يصل العقل البشري إلى مرحلة جديدة من المعرفة ، قيمة عقلانية متفوقة تتيح للعقل أن يكون مدركاً لحقائق العلم ، أي الشعور بحقائق الطبيعة ، وفق قواعد منطقية تبسيطية مثل المنطق الأرسطي تتيح للعوام ثقافة علمية واسعة بحيث يكون تقلص الزمن وتباطؤ السرعة و إزدواج الخواص الجسيمية مثلاً بديهات قابلة للتصور في الوعي لدى المثقفين والعوام على حدٍ سواء .. ؟
وهي مرحلة أعلى مستوى من مرحلة العقل المبرمج بالثنائية ، التي تتعامل مع العالم المحسوس وفق قواعد المنطق الأرسطي فيما تتعامل مع العالم الطبيعي وقوانينه وفق قواعد علمية تجردية غير قابلة للإدراك والتصور الذاتي ، لكننا بطريقة أو بأخرى وبناءاً على التجربة نجد أنفسنا مجبرين على التعامل بها لما تتيحه لنا من قابلية على السيطرة على الطبيعة وقوانينها التي نطوعها في خدمتنا في حياتنا اليومية ... فهل إن عصرُ " الوعي الفائق " قريب ٌ من تناولنا .. أم بعيد ؟
الإجابة نفصلها لاحقاً في متابعة مسار التحول الثقافي والعقلي بعد دخول البشرية في عصر التنين ، عصر النهضة الآسيوية ، حيث ستكون الدينات معرفية ، مستندة على المعرفــة ، وحتى الأفكار والعقائد السياسية هي الأخرى ستكون مستندة على قيم الحضارة ومتناغمة مع كل عناصرها ولن تكون مجردة تضع الفواصل والحدود بين ما هو ماضوي وما هو عصري ، بين ما هو قديم وما هو حديث ، آسيا .. تؤمن بالجمع والدمج ، تؤمن فوق هذا بإجتماع المتناقضات .. كإجتماع الدين وفق صياغة معرفية تحولية جديدة و العلم ..
فدين آسيا القديمة كان علومها وفلسفتها ، وعلوم آسيا القادمة في الآفاق ستكون ديناً كونياً يلف العالم بأسره .. ، وكما بينا في مواضيع سابقــة ، فإن الذهنية الآسيوية الكلانية .. هي إشتراكية ٌ بالفطرة ..!
وسيصبح إقتصاد العالم إشتراكياً .. ولكن .. أي ُ إشتراكية ؟
إنها .. إشتراكية معرفيـــة دينية .. في الوقت نفسه حسب ما تمليه طبيعة الشرق القابلة للتناقض .... !



الهوامش :
1. جــون سيرل ، العقل.. مدخل ٌ موجز ، بترجمة ميشيل حنا متياس ، عالم المعرفة ، الكويت ، سبتمبر 2007 : يوجه سيرل نقده في هذا الكتاب لكل نظريات تفسير العقل بما فيها " الثنائيات " التي تقر بوجود واقع عقلي منفصل عن المادة و" السلوكية " التي ترى العقل مجرد مظهر خارجي لتجلي الفعالية والنشاط المادي للعقل وهي رؤية سكانر بالأساس رائد التوجه السلوكي في علم النفس .
2. للمزيد أنظر : شوقي جلال ، العقل الأمريكي يفكر .. من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات ، مؤسسة الإنتشار العربي ، بيروت ، ط 2 ، 1997 ص 129 وكذلك : وليم جيمس .. الحرية وتجسيد الوهم ، ص 141 سكانر : وهم الحرية ومجتمع القطيع
3. للمزيد أنظر : جون سيرل ، العقل مدخل ٌ موجز ص 57-58 ، ص 76-78
4. جغرافية الفكر ، ريتشارد إي نيسبت
5. قمت بتوضيح حقيقة الإختلاف بين الشرق والغرب ومدى تأثير أفكار الشرق على الغرب وبالعكس في تشكيل " كيان " فكري ثالث أسميته " الوعي الجمعي البشري" ودور هذا الوعي الجامع في تحريك التأريخ بمبدأ " إعادة الخلط الحضاري " ، مع توضيح حقيقة إختلاف التفكير "الكلاني "الشرقي و "الفرداني" الغربي ، للمزيد أنظر : وليد مهدي ، الوعي الجمعي البشري ودوره الأساس في تحريك التأريخ ، مجلة شبكة العلوم النفسية العربية الإلكترونية ).
6. يمنى طريف الخولي ، الزمان في العلم والفلسفة ، ص 10 ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ( 1999 ) .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن