البقال

حميد طولست
hamidost@hotmail.com

2008 / 9 / 28

الحانوت، البقال، الدكان، البيسري: كلها مسميات عامية لمحل بيع المواد الغذائية بالتقسيط. ومصطلح حانوت عربي جمعه حوانيت، قيل أصله فاعول من حَنَوْت، تشبيها بالحِنية من البناء، كما قيل أن أصلها حانُوّة، فلما سكنت الواو، انقلبت هاء التأنيت تاء. وهو يذكر ويؤنث، ويقال حانوت وحانة، وكانت العرب تسمي بيوت الخمارين حوانيت. أما الدكان، وجمعها دكاكين، فأصلها الدكة المبنية للجلوس عليها، " الذكانة" بالدارجة المغربية، وهي مشتقة من دَكَنَ، أي نضد بعضه على بعض. والبيسري أصلها فرنسي Epicerie وهي مركبة من Epices أي التوابل والبهارات، أي أن أصلها محل بيع التوابل، ويقابلها في العربية مصطلح البقال، أو محل البقالة، وهي مركبة كذلك من بقل أي النبات..كل هذه المصطلحات وغيرها كثير،هي مسميات عامية وعربية وفرنسية لمحل بيع المواد الغذائية بالتقسيط، وهو نوع من التجارة ظهر وانتشر بظهور التجمعات السكانية واتساعها، وأصبحت مصدر رزق أعداد متعددة من صغار التجار، حيث يقول عامة المغاربة "الحانوت إلى ما غدّات تعشي"، كما يقولون "الحوانت متصافة والأرزاق متخالفة". ولعبت "الحوانيت "تجارة القرب هذه دورا اجتماعيا هاما إلى جانب دورها الاقتصادي المعروف، حتى قيل "اللي ما عندو اللي يرثي لو، البقال يرثي لو". لكن هذه الحرفة النبيلة، التي امتهنها الأنبياء والرسل، أصبحت تعاني الأمرين مع المنافسات الشديدة التي تتعرض لها، سواء من خصومها التقليدين الذين تكيفت مع مضايقاتهم المقبولة، أو مع تلك التي جاءت مع العولمة .
وإنني لن أبالغ حين أقول أن مظاهر العولمة قد طالت كل المشروعات الصغيرة بأحيائنا الشعبية ونالت منها الكثير مثلما فعلت بلا شك، في كل بقاع العالم، وإن نظرية مجتمع الخمس والأربعة أخماس التي حذر منها الباحثون منذ فجر التسعينات مع ظهور أول إرهاصات العولمة، قد بدأت نتائجها تظهر في مجتمعنا، حيث بدأت المجموعات العملاقة في المغرب ذاك المجهول الذي بات يترصد المشروعات الصغيرة الأصيلة عند كل منعطف ليبتلعها تباعا. فقد ظهر في السنوات الأخيرة نوع جديد من النشاط التجاري المتخصص في تفكيك المصانع ونقلها بأقصى سرعة وفي أزمنة قياسية إلى أي مكان في العالم. فأصبحت محلات تجارة القرب " الحوانت " تعيش أوضاعا متأزمة، بسبب منافسة تلك الأسواق الكبيرة، وسلسلات المحلات العصرية التي ظهرت مؤخرا وبغزارة، إلى جانب الغريم التقليدي، الباعة المتجولين والمهربين. وبالطبع ترتب على ذلك فقدان الكثير من البقالة لمورد رزقهم، وتحولهم إلى عاطلين عن العمل بين عشية وضحاها. وحسب الجمعية المغربية لتنمية التجارة (فبراير 2007) انتقل عدد المحلات المهيكلة في قطاع التجارة من 700 ألف نقطة بيع إلى 320 ألف، في غضون السنوات القليلة الماضية. وقد عبرت الجمعية عن تخوفها على مصير هذا النوع من التجارة، الذي يعد مورد الرزق الأساسي لأزيد من 2 مليون و 600 ألف تاجر حولتهم العولمة إلى ما يشبه عمال المناجم في العصور الغابرة حيث أصبحت مهمتهم الأولى والأخيرة هي العمل على ضخ الأموال بشكل جنوني في جيوب ملاك تلك الشركات وكبار المساهمين فيها، مع حصولهم على أدنى قدر من الربحية والمميزات.
*وربما يظن البعض أن هذا أمر في صالحنا حيث أنه يخلق فرص عمل جديدة، ولكن المشكلة الحقيقية هي في تبني تلك النظرية المخيفة التي ألقت بموظفين خدموا تلك الشركات العملاقة لسنوات عديدة من عمرهم هكذا في عرض الطريق دون مبالاة بمصائرهم، ولم تستطع النقابات العمالية ولا حتى الدعاوى القضائية رد حقوق هؤلاء العمال المسرحين، بل حتى الدول نفسها لم تستطع الوقوف في وجه تلك الشركات التي تتحكم في أموال تشكل جزءاً هاماً من ثروة البلاد، فالمشكلة الحقيقية إذن هي في طرح كل الاعتبارات الإنسانية جانباً، وهزيمة جميع المبادئ التي كانت تلتزم بها تلك الشركات مجبرة بفضل النقابات المهنية والقوانين المنظمة للعلاقة بين العمال وأصحاب العمل، وتراجع هذه المبادئ واندحارها أمام طغيان نظرية العولمة التي أطاحت بكل أحلام التجار الصغار في الاستقرار والعيش الكريم، وتحول حلمهم الذي ساد فترة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات إلى سراب.
ومن وحي شدة المضايقة ووقع الأزمة التي أصبح يعانيها البقال، يُحكى أن بقالا أحاط بمحله الصغير مركز تجاري كبير، كتب على واجهاته الزجاجية، الممتدة عن يمين وشمال البقال، المركز التجاري الكبير، فلم يجد البقال المسكين من بد إلا أن كتب على دكانه مدخل المركز التجاري الكبير..ومن النكات المتداولة حول البقال، واحدة مفادها أن إبراهيم اشترى من علي دكانه، فعمد إلى مسح Ali من Alimentation générale المكتوبة على يافطة على واجهة الدكان وعوضها ب Brahimentation générale.
وقد اهتم الكثير من الكتاب والفنانين بمعاناة هذه الفئة من التجار الصغار الذين يبنون دكاكينهم بالعرق، والصبر على المعاناة، وربط البطون؛ وهو الأمر الذي يعطي عنهم صورة، تستغل أحيانا للتندر، والتهكم أحيانا أخرى، رغم ما قاله خير البرية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في حق هذه المهنة الشريفة "علموا أبناءكم التجارة ولا تعلموهم الإجارة" . وقد انبرى الكاتب الفرنسي المعروف Honoré de Balzac سنة 1840 للدفاع عن هذه الفئة من التجار، التي اعتبرها بمثابة جيش كبير، ورمز قيم للعمل، فهم أول من يستيقظ وآخر من ينام، دائمي الحضور بدكاكينهم. ودعا الكتاب والفنانين المتهكمين بصورة هؤلاء والمحتقرين منهم أن يكونوا منصفين لهم، ورحماء بهم. وفي سنة 1893 أصدر Albert Seigneurie جريدة أسبوعية بعنوان "L’Epicier" لإعلاء شأن هذه المهنة، والرفع من قيمة مزاوليها، والدفاع عن مصالحهم. وأخرجت الفرنسية شانتل بيرت فيلما وثائقيا تحت عنوان Alimentation générale، تناولت فيه الحياة اليومية لدكان بقالة تقليدي بضواحي شمال باريس، وجعلت من صاحب المحل وزبنائه، شخوصا طبيعيين لعملها الفني.

(هكذا أنظر للأمر ، وهكذا أجد أن هناك علاقة وطيدة بين اختفاء واندثار العامل الإنساني في معاملاتنا اليومية وبين نظريات العولمة المخيفة التي لا زالت تخبئ لنا في جعبتها الكثير والكثير)

hamidost@hotmail.comحميد





https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن