خطر المعاهدة القصيرة وفرصة الإفلات من فم الأسد

صائب خليل
saieb.khalil@gmail.com

2008 / 9 / 25

حين وصل كره الشعب العراقي لقوات الإحتلال حداً صارخاً وحين بلغ قلقه من المعاهدة التي يراد لها أن تفرض عليه درجة لم يعد بالإمكان تجاهلها حتى من قبل رعاة المعاهدة، لجأ هؤلاء إلى محاولة تخفيف الألم والصدمة ورد الفعل المتوقع فأضيفت للمعاهدة الأسماء المخففة والعبارات الملطفة وحورت الكلمات التي كانت تثير الناس دون تغيير عملي في محتواها مثل القواعد التي صارت معسكرات وحصانة الجنود التي وضعت لها تحديدات يصعب تمييزها والعمل بها، الخ. لكن لعل اهم هذه التغييرات ما أصاب العمر الإفتراضي لتلك المعاهدة، فتحولت من "معاهدة ستراتيجية طويلة الأمد" إلى معاهدة لمدة ثلاث سنين، "يمكن للعراق إلغاؤها". وقد علق احد الكتاب بذكاء بأننا سنوقع "معاهدة ستراتيجية طويلة الأمد يمكن ألغاؤها في أي وقت"!

طبعاً لقد وضعت العبارات اللازمة لتسهيل التهرب من الوقت الزمني المحدد وتحدث زيباري بدلاً عن ذلك فقال : "نحن لا نتحدث عن جدول زمني محدد. نحن نتحدث عن افق زمني .. اطار زمني .. موعد نطمح اليه!" ولكن دعونا نفترض الأفضل ونقول إنه تم توقيع معاهدة لاتستمر أكثر من ثلاث سنين كما تدعي الحكومة وأنه "لن يبقى جندي أمريكي في العراق بعد هذه المدة" كما وعدنا المالكي، فما هي احتمالات نتائج ذلك؟

من يعرف أميركا ويعرف أهمية القواعد العسكرية بالنسبة لها، يستطيع أن يقول بثقة بأنها ستعمل جهدها لتمديد العقد مرة أخرى وأخرى حتى تقتنع هي بنفسها أنها لم تعد بحاجة الى تلك القواعد, وطبعاً نحن نعلم أن أميركا تريد قواعد لفترات طويلة وهو السبب في تسمية المعاهدة بـ "طويلة الأمد" في البداية قبل أن يحولها الغضب الشعبي العراقي الى "بروتوكول".
لحد الآن ليس هناك مشكلة، ومن حق الأمريكان أن يريدوا تمديد عقودهم، لكن المشكلة هي أن الأمريكان لا ينتظر منهم أن يكتفوا بالحدود القانونية لتنفيذ رغباتهم العسكرية، خاصة وأن لديهم القدرة على تجاوز تلك القوانين وإرادة الجانب الآخر. هذا ما تعلمنا أياه التجارب الأمريكية في بلدان أخرى مثل سيشيل وبلدان أميركا الوسطى والجنوبية وهايتي بل وحتى الدول الغربية مثل استراليا.

لذلك فحين يضطر الأمريكان الى جعل الإتفاقية "قصيرة الأمد" أو يمكن الغاؤها فإنهم سيعملون كل ما في وسعهم على أن تأتي حكومة يطمئنون إلى أنها لن تلغيها وإنها ستوقع التمديد، وليس حكومة تنوي إنهاء الإحتلال. إن التجارب العالمية تقول انه يجب عدم الإستهانة بقدرة أميركا على فرض مثل تلك الحكومة، فهي لن تعدم وسائل التأثير في الإنتخابات بالطرق الاعتيادية مثل تركيز الإعلام على المرشح المناسب لها ودعمه الكبير مادياً وتشويه صورة المنافسين, بل وأيضاً استخدام قوتها العسكرية لفرض مشاكل على الأرض لتناسب ما تريده من نتائج الإنتخابات، واخيراً الألعاب المعروفة بأوراق الإنتخابات وتأخير إعلان النتائج وإجراء انتخابات منتسبي المفوضية العليا للإنتخابات بواسطة القرعة "الألكترونية" السهلة الغش كما حدث سابقاً وما زال، فإنها قد تستطيع تزوير النتائج إلى درجة تكفي لفوز مرشحها.

وإن لم تأت كل هذه المحاولات بالحكومة التي توافق الأمريكان فلن يخجلوا من الضغط على الحكومة المنتخبة بالرشاوي والتهديدات وربما حتى القتل، وهي الطرق المعتادة التي جرى بواسطتها تصفية الأحزاب اليسارية الطامحة للحكم في البلدان التي "حررتها" بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة في إيطابيا واليونان وغيرها كثير.
ولأن آخر العلاج الكي، فإن الحكومة الأمريكية لن تتردد في حياكة إنقلاب عسكري لإزاحة الحكومة إذا شعرت أنها قد ترفض توقيع التمديد لقواعدها. وسيسهل عليها الأمر التواجد العسكري والأمني والإستخباري الكثيف، إضافة إلى علاقاتها الوطيدة ومعرفتها بسياسيي البلاد، فلن تعدم من هو مناسب ومستعد للمشاركة بخططها. وإن كانت المعاهدة ستحتوي على نص يقول بحق الحكومة العراقية في الغاء المعاهدة متى شاءت، كما يشاع حالياً، فستحرص الحكومة الأمريكية أن لاتأتي الى العراق مثل هذه الحكومة أبداً! فمن الصعب على أبسط السذج تصديق أن الأمريكان سيعملون ويبنون القواعد ويصرفون المليارات معتمدين على "معاهدة يمكن إلغاؤها في أي وقت" إلا إذا كانوا لاينوون تنفيذ هذا الإلغاء!

بشّر الرئيس طالباني العراقيين بأن المعاهدة ستكون قصيرة وأضاف في نفس جملته أنه سيمكن للحكومة (أو العراق) تمديدها إن ارتأت ذلك. وقد تبدو هذه الصلاحية الأخيرة في صالح الدولة المضيفة للقواعد، لكن في حالة العراق هذه قد يكون العكس هو الصحيح! إنها تسهل على الحكومة أن تتهرب من حق البرلمان الحصري في التوقيع على المعاهدات الدولية بادعاء أن ما ستقوم به هو مجرد تمديد لإتفاقية معقودة، وإن كان المالكي لم يستصعب تجاهل البرلمان في كل مرة أراد ذلك سواء بتوقيع إعلان المبادئ أو برسائل التمديد إلى مجلس الأمن أو بتمديد حالة الطوارئ، فلن يصعب هو أو حكومة أقرب منه إلى الأمريكان تأتي بضغط أو تآمر، أن تتجاهل البرلمان لتوقيع التمديد تلو التمديد. إن حقيقة كون الصراع الذي جرى لتقصير أمد المعاهدة كان بين الشعب والحكومة برهان كاف على أن الشعب لايجب أن يثق بالحكومة وأن يبقي حق التوقيع والتمديد بيده، فلو ترك الأمر لهذه الحكومة لوقعت عقداً طويلاً لا أثر فيه للإعتراض على الحصانات ولا على عدد القواعد ولا شروط بقائها، فكل هذه الأمور كانت مكاسب شعبية أجبر الرفض الشعبي كلاً من الحكومة والأميركان، والّذان عملا كفريق واحد ضده، على إعادة النظر بها، حتى ولو بالكلام الملتوي. وإذا كان هذا الكلام ينطبق على حكومة المالكي فتخيلوا ما يكون حال حكومة لصيقة بالأمريكان مثل حكومة يقودها علاوي أو الحكيم وبمساندة الكتلة الكردية!

ليس هناك ما يشير إلى أن الناس في العراق سيغيرون رأيهم بالمحتل الأمريكي ولا بحكومة تأتمر بأمره، لذلك فالحكومة التي سيعمل الأمريكان على تسلمها السلطة في العراق ستكون مكروهة من قبل الشعب بقدر ما تكون محبوبة لهم، وهذا يعني عودة التوتر بين الحكومة والشعب وعودة الدكتاتورية القديمة بأسرع كثيراً وأوضح كثيراً مما يحدث الآن، وعودة العداء القديم والسياسة القديمة والإرهاب القديم، وستجد الحكومة وشخوصها انفسهم مضطرين مع الوقت إلى المزيد من الإجراءات المضطهدة للمعارضة والمقيدة للحرية حفاظاً على بقائها وسلامة أفرادها، وستزداد تبعاً لذلك ردود فعل الشعب المعاكسة، فتعلن حالات الطوارئ وتطول وتمدد وهكذا حتى يتم قمع الشعب تماماً ويجعلوه ينسى حلمه بالديمقراطية، أو أن يتخلص من الحكومة ومن الإحتلال معاً وهو ما لن يكون سهلاً ولا ثمنه قليلاً إن تم.

من هنا يتبين أن الإتفاقية القصيرة سيئة وخطرة على سيادة واستقلال البلاد مثلها كمثل الإتفاقية "طويلة الأمد" وربما تكون أخطر. فلو أنك وضعت شركة ضخمة وقلت لها أنك ستطردها بعد بضع سنين لحاولت أن تتدبر أمرها وتطردك قبل ذلك، وكثرما نجحت الشركات، فكيف بدولة عسكرية داخل الدولة وقواعد عسكرية واستخبارية وسفارة هائلة هي عبارة عن مركز قيادة لايعلم إلا الله ما يخطط لها من عمل؟
إنه لخداع للنفس أن يتوقع المرء السلامة بعد أن يورط نفسه في هذا الموضع الصعب! إن الفرصة الوحيدة للعراق في ان يصبح دولة مستقلة ذات سيادة يعتز بها شعبها بالمعنى البسيط لعلاقة أي شعب ووطن، هو في أن يقرر بشجاعة أن يواجه أخطاره لوحده بدلاً من إدخال ما هو أخطر منها، والإفلات من توقيع أية معاهدة من أي نوع مع الأمريكان.

بالرغم من ضرورة عدم المبالغة بالآمال المعلقة على أوباما، فإن انتظار حكم أفضل من بوش للتعامل مع الموضوع ليس أمراً خاطئاً وليس أملاً بلا أساس، فقد سبق لشعوب أميركا الوسطى والجنوبية أن تنفست الصعداء وتمكن بعضها من تثبيت بعض أسس حكومة وطنية حين كانت الظروف أكثر ملائمة في الولايات المتحدة، مثلما كان الحال عندما جاءت حكومة كارتر ففرضت قيوداً على تسليح ودعم حكومات عميلة معروفة بقسوتها, وفرضت بعض القيود على الـ (CIA) منعتهم أحياناً من تنفيذ انقلابات يرغبون بها، ولذا كان رجال الـ (CIA) يكرهونه وينتظرون مجيء الوحش “ريغان” بفارغ الصبر، رغم أن كارتر لم يكن هو الآخر ملاكاً دائماً.

صحيح أن الولايات المتحدة تقاد من قبل الشركات (أكثر مما هي دولة مؤسسات كما يحلو لقادتنا أن يتحدثوا) لكن التأريخ يشير إلى فروق محسوسة في العدائية والإستعداد للحرب وتنفيذ الإنقلابات العسكرية بين حكومة رئيس وآخر، ونحن بالطبع نعيش هذه اللحظة نهاية أسوأ هذه الحكومات في التأريخ علىالإطلاق من هذه الناحية، والحكمة البسيطة تقول بضرورة انتظار الحكومة الجديدة. إن الولايات المتحدة تمر في هذه اللحظة بظروف مناسبة جداً, فإضافة إلى التورط العسكري في أكثر من مكان فليس هناك أي دعم شعبي لأي "إعادة احتلال" للعراق أو أي شيء من هذا القبيل كما حاول زيباري أن يخيفنا به. كذلك ليس هناك أي طريق لإقناع الأمريكان بأن الحكومة العراقية حكومة "شيوعية" أو إرهابية وقد ساهموا بصنعها بأنفسهم وكالوا لها المديح. فإذا أضفنا انعدام ثقة المواطن الأمريكي بحكومته الحالية وانعدام ثقة الناس في العالم بها خاصة في أوروبا، وشكوكهم الشديدة بأن كل ما جاءت من أجله هو النفط، فستؤكد تلك الشكوك أية أضطرابات تجري بعد رفض الحكومة للمعاهدة، وهو ما قد لاتتحمله حكومة بوش، حيث قد يثير حملة احتجاج ومطالبات أشد بالتحقيق في قرارات الحرب بل وأيضاً في حقيقة ما حدث في 11 سبتمبر.

قد تكون هذه هي الفرصة الذهبية الأخيرة للعراق، ليس بتوقيع معاهدة قصيرة خطرة تعطي المزيد من الوقت للإنقضاض على البلد عندما تحين الفرصة، بل برفضها تماماً والهرب بقفزة واحدة من فم الأسد!



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن