تاريخ اليسار في المغرب

رشيد طلحة
rach544@yahoo.fr

2008 / 9 / 19

مرت سنة على الانتخابات التشريعية التي أجريت في سابع شتنبر 2007، و قد كان من أبرز مظاهرها استمرار الفساد الانتخابي رغم وعود الدولة للأحزاب بالضرب على يد المفسدين و ضعف المشاركة الشعبية التي سجلت أقل نسبة في تاريخ الانتخابات المغربية و الحصة الهزيلة التي حصدها اليسار المغربي بمختلف تلاوينه والتي أبانت عن تراجع كبير مقارنة مع نتائج انتخابات 2002.
و مما لا شك فيه أن تردي هذه النتائج تعبر في العمق عن أزمة فكرية و تنظيمية كان و لازال يتخبط فيها اليسار المغربي منذ إطلاق تجربة التناوب على عهد الملك الراحل الحسن الثاني.
سأحاول في هذا الجزء الأول، التذكير، و لو بإيجاز، بتاريخ اليسار في المغرب من خلال الوقوف على أهم المحطات التي ميزت سيرورته النضالية و استخلاص مكامن القوة و الضعف في تجربته الطويلة في النضال الى جانب الجماهير الشعبية على أن أكرس الجزء الثاني للبحث عن مظاهر الأزمة التي يعيشها اليوم و آفاق توحيد مكوناته للنضال المشترك من أجل إقامة ديمقراطية حقيقية و تكريس ثقافة حقوق الانسان ومناهضة أذناب الليبرالية المتوحشة المقنعة بالعولمة و الانفتاح و مواجهة فكر الأصولية الدينية الرجعية المجملة بمساحيق الأخلاق.
فاليسار المغربي يستمد جذوره التاريخية من منبعين أساسيين وهما المنبع الاستقلالي و المنبع الشيوعي اللذان تفرع عنهما عدة أحزاب و تنظيمات سياسية و نقابية.
1- الأصل الاستقلالي
تأسس حزب الاستقلال على يد مجموعة من أقطاب الحركة الوطنية و أعضاء المقاومة و جيش التحرير التي ناضلت بالغالي و النفيس من أجل تحرير المغرب من براثن الاستعمار، لكن سرعان ما ظهر خلاف داخل الحزب بين تيار سلفي بزعامة علال الفاسي و تيار تقدمي ذو ميول اشتراكية بزعامة المهدي بن باركة و الفقيه البصري وتبلور الخلاف حول طريقة تسيير شؤون البلاد من طرف القصر و التنازلات الخطيرة التي قدمها المغرب لفرنسا و اسبانيا خلال مفاوضات اكس ليبن و و الإبقاء على رموز الاستعمار في مناصبهم و التهميش الذي طال عناصر المقاومة وجيش التحرير ... وقد احتدم هذا الصراع خاصة عندما أعلن علال الفاسي و ولاءه المطلق للسلطة الملكية مما أدى إلى انشقاق الأعضاء ذووا التوجه الراديكالي و تأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959 .
غير أن إسقاط الحكومة الوطنية برئاسة عبد الله إبراهيم و تأجج الصراع الذي خاضه الحزب مع المؤسسة الملكية التي حاولت تطويق شعبيته من خلال فبركة أحزاب جديدة موالية لسياستها و ملاحقة واعتقال عدد كبير من مناضليه بتهمة التآمر على حياة الملك (محاكمة مراكش 1963)... أدى إلى بروز تيار ذو توجه ثوري بزعامة المهدي بن باركة و الفقيه البصري يسعى إلى إقامة تغيير جذري في نظام الحكم.
إلا أن اغتيال المهدي بن باركة سنة 1965 بالديار الفرنسية و اتهام القصر بالضلوع في هذه الجريمة و حالة الاستثناء التي أعلنها الملك جعل أغلبية قياديي التيار، الذين صدرت في حقهم أحكام غيابية بالإعدام أو المؤبد يفضلون البقاء في المنفى.
غير أن القيادة المتواجدة في المغرب لم تستطع الحفاظ على الانسجام داخل الحزب مما أدى إلى بروز خلافات عميقة حول كيفية التعامل مع الوضع السياسي خاصة بعد حدوث انقلابين عسكريين و مقاطعة دستوري 1970 و 1972 الشيء الذي تجسد في ظهور اتجاهين متناقضين تكتيكيا و هما تيار عبد الله إبراهيم أو مجموعة الدار البيضاء و تيار بزعامة عبد الرحيم بوعبيد و عبد الرحمن اليوسفي و الاذان سعيا لتكريس النهج الديمقراطي كخيار للنضال السياسي.
وفي بداية السبعينات خرج من داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية تيار جذري يتبنى الماركسية الليننية و إسهامات ناوتسي تونغ كفكر تحرري ثوري بديل دعا إلى إقامة انقلاب شعبي ضد النظام الدكتاتوري للحسن الثاني عبر بناء حزب ثوري من العمال و الفلاحين بعد أن ثبت جليا الفشل الفكري و التاكتيكي للجناح المسلح لحزب " ا و ق ش" و عدم قدرة الأحزاب الإصلاحية البرجوازية على قيادة نضالات الجماهير الشعبية بالإضافة إلى تواطئها المكشوف مع الحكم الفاسد تحت قناع الإجماع الوطني حول قضية الصحراء، فكون أعضاء هذا التوجه منظمة سرية عرفت فيما بعد باسم "حركة 23 مارس" و انتشرت أفكارها في أوساط الفئة المثقفة و عملت جنبا إلى جنب، كما سنرى فيما بعد، مع منظمة" إلى الأمام"، رغم الاختلاف التكتيكي بين المنظمتين، خاصة داخل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في إطار ما عرف بفصيل الجبهة الموحدة للطلبة القاعديين. و تعرضت المنظمة لقمع شرس شمل جميع بنياتها وزج بكوادرها و مناضليها في السجون واضطر عدد من أعضائها للجوء إلى المنفى كما استشهد آخرون تحت التعذيب .( جبيهة رحال مثلا). .
و خلال مرحلة الانفراج السياسي التي شهدها المغرب بعد صدور العفو الملكي على بعض قيادات حزب ا و ق ش و سعي المؤسسة الملكية للخروج من المأزق السياسي عبر توجيه الصراع الداخلي إلى صراع من أجل استكمال الوحدة الترابية و الالتفاف حول قضية "كل المغاربة" و هي تحرير الصحراء المستعمرة، في إطار ما سمي آنذاك بالإجماع الوطني حول القضايا الكبرى للوطن أعلن أعضاء التيار الثاني انشقاقهم و تأسيس حزب جديد يحمل اسم " الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" بزعامة عبد الرحيم بوعبيد و يتبنى الاشتراكية الإصلاحية كفكر و العمل الديمقراطي كمنهج حيث انخرط في "اللعبة السياسية" كمعارض و شارك في الانتخابات التشريعية و الجماعية و أسس نقابة الكنفدرالية الديمقراطية للشغل سنة 1978 و اكتسب شعبية كبيرة في أوساط العمال و الشبيبة التعليمية، وفي عام 1981 أعلن مكتبه السياسي رسميا رفضه قبول المغرب تنظيم استفتاء لتقرير المصير بالصحراء الغربية كما دخل الحزب في إطار تحالفات انتخابية مع باقي الأحزاب الديمقراطية في إطار ما عرف بالكتلة الديمقراطية.
كما ظهر داخل الحزب جناح راديكالي حمل اسم رفاق الشهداء كان له آنذاك توجهات معارضة للقيادة وقد تأجج هذا الصراع خاصة بعد دعوته لمقاطعة الانتخابات سنة 1983 فكانت النقطة التي أفاضت الكأس مما جعل قادته يعلنون الانشقاق و تأسيس حزب جديد عرف فيما بعد بحزب" الطليعة الديمقراطي الاشتراكي".
و في نفس السنة خرج تيار يميني من حركة 23 مارس بزعامة أيت ايدر بن سعيد يدعو إلى العمل عبر القنوات الشرعية لبناء الدولة الديمقراطية متراجعا عن النهج الثوري لاقتناعه بعدم توفر الشروط الموضوعية لتحقيق الثورة الشعبية التي بشرت بها الحركة بالإضافة إلى سياسة القمع الممنهج التي اتبعها النظام لاستئصالها مما جعلها تبقى منعزلة ، منذ تأسيسها عن الجماهير الشعبية ... وقد تلقى هذا الخطاب استحسان الجهات الرسمية في الدولة حيث سمحت لها بالتنظيم و ساندته باقي الأحزاب الإصلاحية حيث تم تأسيس منظمة العمل الديمقراطي الشعبي وانخرطت في اللعبة السياسية ضمن الكتلة الديمقراطية. غير أنها هي الأخرى عرفت انشقاقا سنة 1996 بعد خلاف حاد بين قادتها حول مسألة مقاطعة دستور 1996فتشكل حزب آخر وهو الحزب الاشتراكي الديمقراطي بزعامة عيسى الورديغي الذي اندمج فيما بعد مع الاتحاد الاشتراكي .
ورغم محاولات المؤسسة الملكية لاستدراج أحزاب الكتلة الديمقراطية للمشاركة في حكومة تناوب ديمقراطي للخروج من السكتة القلبية التي أعلنها الملك الراحل تعبيرا عن بؤس الطبقة السياسية في البلاد و عن عدم قدرتها على تأطير المواطنين خاصة بعد اندلاع انتفاضات شعبية خلال سنوات 1981-1984-1990، ألا أن هذا التقارب لم يحصل سوى سنة 1997 حين صوت حزب أ ش ق ش لصالح الدستور الجديد و قبل المبادرة المشروطة التي اقترحها الملك للدخول في حكومة تناوب و تولى أمينه العام عبد الرحمن اليوسفي وزارتها الأولى حيث جددت فيه الثقة في عهد محمد السادس.
و كان لدخول الحزب في الحكومة و تسابق أعضائه القياديين على كراسي الوزارات و الدوائر الانتخابية وانعدام الديمقراطية في انتخاب أجهزته حيث رفعت قيادة الحزب شعار" أرض الله واسعة" في مواجهة كل صاحب رأي معارض أثر سلبي تجسد في تصدع بنياته مما أدى إلى حدوث انشقاقات فخرج عبد السلام بن عزيز و نوبير الاموي باحزب المؤتمر الوطني الاتحادي و عبد الكريم بن عتيق بالحزب العمالي ومحمد الساسي بجمعية الوفاء للديمقراطية و إدريس لشكر بالحزب الاشتراكي. ومازالت مظاهر الأزمة تخيم على الحزب بسبب صراع ثلاث أقطاب على الزعامة و هو ما يفسر فشل الحزب في تنظيم مؤتمره السابع.
2-الأصل الشيوعي
تأسس فرع الحزب الشيوعي الفرنسي في المغرب في بداية الأربعينات من القرن الماضي على يد مجموعة من الشيوعيين العالميين ذوي الأصول الأوربية و لم يكن تواجد أعضاء مغاربة فيه في البداية سوى كأقلية، و يعتبر بحق أول حزب يساري في المغرب . و كسب الحزب صفته المغربية منذ 1946 أي عندما تولي أمانته العامة الراحل علي يعتة وتمت مغربة قيادته بكوادر شابة تتمتع بروح وطنية وطبقية عالية و رغم كونه فرنسي الأصل و المرجعية و البرنامج إلا أنه ساهم بشكل مشرف في تعبئة الطبقة العاملة من خلال" الاتحاد العام للنقابات الموحدة بالمغرب" لمناهضة الوجود الفرنسي للمغرب كما أنه أنشأ منظمة الهلال الأسود للكفاح المسلح ضد الاستعمار. وقد تعرض الحزب للمنع سنة 1952 على يد السلطات الاستعمارية كما تم منعه سنة 1959 لكن هذه المرة من طرف القضاء على عهد حكومة عبد الله إبراهيم بدعوى عدم ملائمة مبادئه الشيوعية مع الهوية الإسلامية للبلاد. غير أنه في عام 1968 عاد للعمل العلني تحت اسم "حزب التحرر و الاشتراكية" لكن لم تمر سنة على ذلك حتى تم اعتقال أعضاء قيادته ليتم حظر جميع أنشطته.
في سنة 1969 خرجت من الحزب حركة تتبنى الخط الماوي و تدعو للقيام بثورة شعبية ضد النظام الفاسد و تنتقد التوجه العام للحزب الذي كان منحازا للاتحاد السوفيتي، هذه المنظمة ظلت تعمل في سرية تامة حتى أعلنت عن نفسها سنة 1972 تحت اسم "إلى الأمام " بزعامة المناضل أبراهام السرفاتي و عبد اللطيف اللعبي. و عرفت علاقتها بالحزب الأم عداوة شديدة خاصة بعد الدعوات التي وجهها علي يعتة لتحرير الصحراء الغربية في إطار مسلسل استكمال الوحدة الترابية متهمة إياه بخيانة الخط الطبقي و ترجيح الخيار الوطني الشوفيني و الارتماء في أحضان النظام الديكتاتوري قصد الحصول على الشرعية و تعرضت منذ البداية لقمع شديد على غرار باقي التنظيمات الماركسية اللينينية المغربية و زج معظم أعضائها في غياهب السجون كما قدمت شهداء كسعيدة المنبهي و عبد اللطف زروال و أمين التهاني و غيرهم ، و عرفت منظمة إلى الأمام بمواقفها الخارجة عن نطاق الخطاب التقليدي للأحزاب الإصلاحية خاصة فيما يتعلق بطبيعة النظام الاستبدادي للحكم و الصحراء الغربية و صيرورة الصراع الطبقي في المغرب. غير أن قراءتها للواقع السياسي و الاجتماعي الذي لم يكن علميا و تحمسها المبالغ فيه و رفعها لشعارات أكبر من حجمها من قبيل "القواعد الحمراء المتحركة" و "بناء الحزب الثوري تحت نيران العدو" في حين كانت هي نفسها معزولة عن الجماهير نظرا لطبيعة عملها السري و انغلاق قيادتها و صعوبة فهم خطابها الذي كان يغلب عليه الطابع النظري عجل بفشل مشروعها، لكن مع ذلك عرفت مبادئ و افكار الحركة انتشارا و تعاطفا كبيرا في أوساط الفئة المثقفة و خاصة التلاميذ الناشطين في الحركة التلاميذية و الطلبة المنتمين لفصيل الجبهة الموحدة للطلبة القاعديين التقدميين و الذي استطاع الوصول إلى المراكز القيادية في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب في المؤتمر الخامس عشر و توسيع نطاق نضالات الحركة الطلابية ليتجاوز أسوار الجامعة و يلتف حول نضالات الجماهير الشعبية تحت شعار" لكل معركة جماهيرية صداها في الجامعة".
في المقابل عاد الحزب للعمل الشرعي تحت اسم جديد هو " حزب التقدم و الاشتراكية" سنة 1974 و شارك في الانتخابات التشريعية و البلدية و تمكن من الحصول على مقاعد داخل البرلمان وبقي إلى جانب المعارضة حتى سنة 1998 حين قبل على غرار باقي أحزاب الكتلة الدخول في حكومة تناوب. و تجدر الإشارة هنا إلى انه اثر الوفاة المفاجئة لعلي يعتة عرف الحزب صراع بين إسماعيل العلوي و التهامي الخياري بسبب الخلاف حول من سيتولى أمانته العامة بالإضافة إلى الاختلاف الفكري بين الزعيمين خصوصا وأن هذا الأخير طالب بضرورة مراجعة الهوية الاشتراكية للحزب ومرجعياته الإيديولوجية خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي و فشل المعسكر الاشتراكي، و قد خلف هذا الصراع انسلاخ بعض قادته و تأسيس حزب جديد هو جبهة القوى الديمقراطية سنة 1997 الذي أسقط من أدبياته كل إشارة للاشتراكية.
بعد الانفراج السياسي الذي شهده المغرب في بداية التسعينات من القرن الماضي و الذي توج بالعفو الشامل على المعتقلين السياسيين، عاد أقطاب الحركة الماركسية الليننية السبعينية لتنظيم من جديد و العمل العلني بعد حلقات طويلة من النقاش داخل السجون حول الأخطاء التكتيكية و الإستراتيجية التي ارتكبتها التجربة الماركسية خلال السبعينات والذي توج بالاقتناع بان الخيار الديمقراطي هو أساس بناء المجتمع الاشتراكي كما أن الأولوية في النضال السياسي يجب أن يتجه نحو إقامة حكم ديمقراطي حقيقي عبر إقرار إصلاحات دستورية و تكريس ثقافة حقوق الإنسان فظهر في الساحة السياسية ما يعرف باليسار الجديد و يضم "النهج الديمقراطي" و" الحركة من أجل الديمقراطية " كامتداد لحركة إلى الأمام و "الديمقراطيون المستقلون " كاستمرارية لتجربة لتيار في الفصيل القاعدي ب أ و ط م و "الفعاليات اليسارية" .
و في محاولة لجمع شتات اليسار الجديد في أفق بناء حزب اشتراكي كبير، تأسس حزب اليسار الاشتراكي الموحد بعد اندماج هذة المكونات ( ما عدى النهج الديمقراطي) مع منظمة العمل الديمقراطي سنة 2002، ثم ما لبثت أن اندمجت جمعية الوفاء للديمقراطية سنة 2005 مع هذا الحزب ليحمل اسم "الحزب الاشتراكي الموحد".
من خلال هذه الكرونولوجية التحليلية نستخلص أن تاريخ اليسار هو تاريخ نضالي مشرف و يكفينا فخرا انه التزم منذ ميلاده بالدفاع عن مصالح الطبقات الشعبية وحقها في الديمقراطية و العيش الكريم رغم سنوات القمع الموجه ضده من قبل التحالف الغير المعلن بين النظام المخزني الاستبدادي و القوى الإسلامية الرجعية، إلا أنه في نفس الوقت هو تاريخ تشتت و تشرذم و صراعات إيديولوجي هامشية ، فإذا كانت هذه الظاهرة صحية تنم عن حيوية الفكر الاشتراكي إلا أنها في نفس الوقت ساهمت في تأزم وضعيته في الساحة السياسية.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن