ضربة موجعة لوزارة الدفاع البريطانية والبنتاغون

كاظم المقدادي
kalmukdadi@hotmail.com

2002 / 5 / 27

 

   شاركت القوات العسكرية البريطانية في حرب الخليج الثانية ضد العراق  مشاركة فعالة ومتميزة الى جانب القوات العسكرية الأمريكية، وكانت الطرف الثاني، بعد القوات الأمريكية، المشارك بجريمة إستخدام ذخائر اليورانيوم المنضب Depleted Uranium (التي إستخدمت لأول مرة في ميادين القتال " الحية")، وإن بكمية أقل بكثير مما إستخدمتها القوات الأمريكية.

   في الصعيد نفسه تحولت وزارة الدفاع البريطانية الى تابع مطيع ووفي لوزارة الدفاع الأمريكية  (البنتاغون)، تردد كالببغاء، نفيها، وتنقل ما تقوله من أكاذيب، ناشرة إياها  كـ"حقائق علمية"، مدافعة عنها بكل ما تستطيع. وبالتنسيق مع البنتاغون واصلت  نفيها المستميت للأعراض المرضية التي نجمت عن الحرب وسميت " تناذر حرب الخليج" Gulf War Syndrome ، الذي أصاب نحو 150 ألف جندياً أمريكياً وبريطانياً وفرنسياً وكندياً وغيرهم، بضمنهم المئات ممن أُصيبوا بعد  الحرب بحالات سرطانية، وتوفي أكثر من 20 ألف، من بينهم أكثر من 500 عسكرياً بريطانياً. وإستمرت بالتكتم على أسباب المرض الحقيقة، ضاربة عرض الحائط بصحة وحياة جنودها وضباطها الذين شاركوا في الحرب عام 1991.

   ولأن حبل الكذب قصير- كما يقول المثل الشهير، فقد إنتصر الحق أخيراً، بعد أن إستيقظ ضمير القضاء البريطاني، ووجد فيه رجال شجعان، يتحلون بالجرأة وإعلاء شأن العدالة،مخالفين الموقف الرسمي، غير اَبهين بالتهديد والوعيد، فنطقوا بحكمهم العادل، الذي تأخر طيلة عقد كامل.

   لقد إعترفت محكمة الاستئناف في ليدز- شمالي شرقي إنجلترا، في يوم الخميس المصادف 23 اَيار / مايس 2002، بإعراض " مرض حرب الخليج"، وقررت بدفع معاش عجز عن العمل/ تقاعد مرضي/ لطبيب عسكري سابق شارك في الحرب وتأثر بالمرض، حيث أشار حكم المحكمة إلى " أن  مرض حرب الخليج تسببت به الخدمة داخل الجيش إبان الحرب". ويستخدم تعبير  "مرض حرب الخليج" لوصف الأعراض التي ألمت بالمشاركين بالحرب وتتضمن: الأرق، والإعياء، والصداع، وألم في العضلات والمفاصل، والغثيان، وتورم في الغدد، والحمى، والشحوب، وفقر الدم. ويعتقد بعض المرضى الذين شاركوا في الحرب إن مشاكلهم الصحية ناجمة عن تعرضهم لغاز عراقي سام أو لتأثير قذائف اليورانيوم المنضب، وقد وطالب الآلاف منهم مؤسساتهم بإجراء الفحوصات اللازمة لهم لمعرفة أسباب معاناتهم الحقيقية، لكنها رفضت بإصرار.

    وكان شون روسلينغ قد عمل طبيبا في فوج المظليين البريطانيين أثناء حرب الخليج، وعالج الجرحى العراقيين في مستشفى ميداني داخل الحدود السعودية. وكانت الحكومة البريطانية رفضت طلبا لروسلينغ بشأن منحه راتبا تقاعديا قبل تسع سنوات بناء على نصيحة أطباء وزارة الدفاع. وأكد روسلينغ، وهو متزوج واب لولدين، ان معاناته بدأت  بعد عودته الى بريطانيا، حيث إنتابته  اعراض مختلفة مثل الارهاق المتواصل والارق والالم في الرأس وفي العضلات والحمى والغثيان وغيرها، وهي مرتبطة بالحرب.

    وراسلينغ ليس اول مقاتل من حرب الخليج طالب وزارة الدفاع البريطانية بتعويضات. ورفضت وزارة الدفاع على الدوم، توافقاً مع البنتاغون الأمريكي، الاقرار بوجود " اي رابط بين هذه الاعراض وحرب الخليج"، كما رفضت الحكومة البريطانية منح رواتب تقاعدية للاَلاف من الجنود الذي شاركوا في الحرب وأصيبوا بهذا المرض. وقد أعرب روسلينغ عقب قرار المحكمة -الذي من الممكن أن يؤثر على آلاف المشاركين في حرب الخليج- عن شكره للمحكمة، وامتنانه للدعم الذي قدمته له مؤسستا الصحة العامة و المحاربين في الخليج.

    من جانبه طالب متحدث باسم "مؤسسة محاربي الخليج وعائلاتهم" الذين دعموا قضية روسلينغ، بإجراء تحقيق عام في رفض الحكومة منح الجنود الذين شاركوا في الحرب معاشات عجز عن العمل. وأشار المتحدث إلى أنه ظهر بشكل قانوني الآن أن "أعراض حرب الخليج" موجودة، وأن وزارة الدفاع كانت تحاول التغطية على أعراض المرض والمشاكل الصحية الخطيرة الأخرى المتعلقة به. وأضاف  ان «الارهاق الاضافي حطم العديد من العائلات، وهدم زيجات، واضر بصحة العديدين، بينما انتحر العديد من المقاتلين القدامى بعد ان قالت لهم وزارة الدفاع ان "اعراض حرب الخليج" لا وجود لها».

   إن قرار محكمة الإستئناف في ليدز هو أول إعتراف رسمي بأعراض حرب الخليج، وهو ضربة موجعة لوزارة الدفاع البريطانية، وللبنتاغون الأمريكي أيضاً،اللذين ضلا ينفيان إرتباط تلك الأعراض بحرب الخليج الثانية، لاسيما وان الحكم يعد – بحسب المصادر القضائية- مرجعاً للعديد من العسكريين البريطانيين الذين خاضوا عمليات عسكرية ضد العراق عام 1991، كما قد تكون له انعكاسات خارج بريطانيا في دول شارك جنودها في حرب الخليج وخصوصا الولايات المتحدة وفرنسا وكندا وايطاليا، للحصول على حقوقهم، ومنها التعويض والمعالجة على حساب الدولة والتقاعد لأسباب مرضية.. ولذا أعلن ناطق بإسم وزارة الدفاع البريطانية لوكالة "فــرانس برس"، في 24/5 :" اننا ندرس الحكم ونقيم نتائجه المحتملة" ..

    نعم،  ستعكف وزارة الدفاع البريطانية، ونظيراتها، مرغمة على دراسة تداعيات الحكم التاريخي الذي منحه القضاء البريطاني لعسكري بريطاني شارك بحرب الخليج بين عامي 1990-1991 وتم الاعتراف بموجبه رسميا بما يسمى "أعراض حرب الخليج"،التي كانت  الوزارة في السابق تنفي وجودها، ورفضت فحص اَثار إستخدام ذخيرة اليورانيوم المنضب على جنودها المشاركين في الحرب المذكورة، رغم كل ما سببته من إنتشار أمراض خطيرة، وحالات مرضية عديدة، واَلاف الوفيات بين العسكريين والمدنيين، مع أنها  وعدت في كانون الثاني/ يناير 2001، إثر عاصفة اليورانيوم التي إجتاحت أوربا، والإعلان عن وفاة العشرات من جنود حفظ السلام في البلقان بسرطان الدم نتيجة لإستخدام الذخيرة المذكورة في الحرب ضد يوغسلافيا، بأنها ستقوم بفحص اَثار تلك الذخيرة على جنودها، وأدلى وزير الدفاع البريطاني جون هون اَنذاك بتصريحات تلفزيونية أعلن فيها" هناك نظام سيتخذ في بلاده لفحص الجنود الذين شاركوا في حرب الخليج" وإن ظل متمسكاً برأيه " عدم جدوى هذه الفحوص"، الى جانب نفيه لـ" أي محاولة للتستر على المخاطر المرتبطة باليورانيوم المنضب".

    وقد نشرت وزارة الدفاع تفاصيل المخاطر المرتبطة بقذائف اليورانيوم المنضب على موقعها الخاص على الإنترنت، لكنها أصرت على "عدم وجود دليل لارتباط أي مرض باليورانيوم المنضب".ورفض هون الاتهامات التي وجهت الى حكومته بأنها "غير جادة في استجابتها للأزمة". كما رفض نتائج تسربت عن تقرير طبي للجيش البريطاني تقول "  إن التعرض لليورانيوم المنضب يزيد من مخاطر إصابة الجنود بسرطان الرئة والمخ والغدد اللمفاوية"، واصفاَ التقرير بأنه " تضمن أخطاء علمية فادحة"..

    وكانت  تصريحات جون هون قد  جاءت في وقت دعا فيه مسؤولون في الأمم المتحدة إلى إجراء فحوص صارمة لاكتشاف أي مخاطر صحية محتملة في أماكن الحرب، وليس فقط في كوسوفو التي كانت هدفا لهجمات الناتو الجوية عام 1999 وإنما في البوسنة أيضا في عامي 1994 و 1995. وكانت هيئة الطاقة الذرية البريطانية UKAEA قد حذرت في عام 1991 في تقرير سري للحكومة البريطانية من مخبة إستخدام ذخيرة اليورانيوم المنضب، منبهة الى إحتمالات فتك مخلفاتها بنحو نصف مليون نسمة. وفعلاً حصل ما حذرت منه، فإن إستخدام سلاح اليورانيوم المنضب ضد العراق، والتفجيرات التي حصلت في مواقع  تخزينها في الكويت عام 1991، ودفن الركام المشع في الأراضي السعودية، وبقاء مخلفات نحو 800 طن من النفايات المشعة متناثرة في الصحراء جنوب العراق، خلف ليس فقط إصابة مئات الآلاف من العسكريين والمدنيين بأعراض مرضية، ومنها أمراض سرطانية وحالات مرضية عضال، وتوفي الآلاف منهم، بل ويتزايد عدد الأمهات في العراق والكويت والسعودية اللواتي يعانين من الإجهاض المتكرر، والولادات الميتة، والولادات المشوهة، وناقصة الوزن. وهذه الحالات الخطيرة تهدد لا الجيل الحالي فحسب، بل والأجيال القادمة-بحسب الدراسات الطبية العلمية.

    إن قرار المحكمة البريطانية التأريخي هذا يفتح الطريق أمام ضحايا حرب الخليج الثانية وعوائلهم، وأمام أعداء سلاح اليورانيوم المنضب المحرم دولياً، لمواصلة جهودهم في  إثبات إرتباط الأمراض الخطيرة التي إنتشرت بعد الحرب بإستخدام ذخيرته، والضغط على مجلس الأمن لإدانة مستخدميها،بإعتبارها من أبشع جرائم الحرب في القرن العشرين، ولإصدار قرار بتحريم إستخدام الذخيرة المذكورة مستقبلاً، وإجبار البنتاغون ووزارة الدفاع البريطانية تنظيف المناطق الملوثة، حيثما إستخدماه، وتعويض الضحايا، ومعالجة المرضى..

   ولا شك ان المهمة تستلزم تشكيل حركة عالمية فاعلة تشارك فيها منظمات ومؤسسات معنية وكل إنسان شريف وذي ضمير حي !

 



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن