أَنَا .. يُوليُوسْ قَيْصَرْ!

كمال الجزولي
kgizouli@gmail.com

2008 / 8 / 19

الإثنين
ذات ظهيرة ساخنة من الأسبوع الماضي رنَّ جرس هاتفي، وكان المتحدِّث على الطرف الآخر صديقي النطاسي البارع، والشاعر العذب، والرياضي المطبوع محمود عمر خالد، يتهدَّج صوته غبناً:
ـ "يا كمال ياخي أنا والله ما بفهم في قانونكم ده، لكين وزير الرياضة حظر كمال شدَّاد من السفر خارج السودان لمدة سنة .. معقول يكون في قانون كده"؟!
ضحكت وأنا أقول له:
ـ "طبعاً ما معقول! وثيقة الحقوق في الدستور الانتقالي عهد بين الحكومة والمواطنين يلزمها باحترام حقوقهم وحرياتهم. وشدَّاد مواطن. والمادة/42 تكفل حق كل مواطن في مغادرة البلاد والعودة إليها وفق القانون. والوزير ليس القانون. لذا يستطيع شدَّاد أن يقاضي الوزير. لكن .."!
وأوشكت أن أستطرد بأن هذا ليس (عظم ظهر) المسألة، إذ الأهمُّ هو أصل وفصل هذه (السهولة) التي يصدر بها الوزير قراراً كهذا دون خشية من لوم لائم أو من أيَّة عواقب مفترضة! سوى أنني أحجمت في اللحظة الأخيرة، حين تذكرت أن (السياسة) ليست (كباية الشاي) المفضلة لدى محمود!

الثلاثاء
على مدى أكثر من ستين عاماً ظلت قضيَّة التطبيق الخلاق لـ (الماركسيَّة) على أرض الواقع تشغل حيِّزاً واسعاً من مساحة هموم الشيوعيين السودانيين وتفكيرهم، إن لم تكن قد شغلتها بالكامل. ولأن التطابق المطلق مستحيل على هذا الصعيد، بل وغير مرغوب فيه إلا بنيَّة (التنميط) المرذول، فقد ظلت شتى وجهات النظر، متباينة كانت أم متقاربة، تفد، دائماً، إلى ساحة سؤال (المنهج) من زوايا جدِّ مختلفة، رغم أن كلاً منها تزعم لنفسها الصحَّة والسداد، وذاك أمر طبيعي تماماً. لذلك أضحى تنظيم هذا الاختلاف أهمَّ، بما لا نظير له، من الاختلاف نفسه. وفي هذا السياق، وبقدر ما يحقُّ لكلِّ من شاء أن يثق، كيفما شاء، في جدوى (الانكفاء) على النصوص النظريَّة، دون أن يشكل ذلك سبباً للحدِّ من حريَّته أو حقه في التعبير أو الدفاع عن رؤيته هذه، فإنه ما مِن شكٍّ، أيضاً، في حقِّ كلِّ مَن شاء ألا يثق في هذا (الانكفاء)، وأن يرى فيه محض تمظهر لـ (جمود نظري) و(مركزويَّة صمديَّة) ضررها محتوم في حقل الفكر الفلسفي والسياسي، دون أن يشكل ذلك، بالمقابل، سبباً للتغوُّل على حريَّته في التعبير، أو حقه في الدفاع عن أفكاره، دَع التجنِّي عليه، أو محاكمة (نواياه) بمناهج (التكفيريين)!
أقول ذلك وقد صدمني أسلوب التجني غير الموضوعي الذي شنه، للأسف، الأستاذ تاج السِّر عثمان، في مقالته التي نشرها مؤخراً في عدد من الصحف الورقيَّة والمواقع الإسفيريَّة، على د. الشفيع خضر، وكلاهما قيادي في ذات الحزب. ولو ان السِّر استند إلى وقائع ماديَّة محدَّدة لهان الأمر شيئاً، أما أن يكون موضوع هذا التجني مجرَّد أفكار وآراء صدع بها الشفيع بالمخالفة لما يرى السِّر، فتلك طامَّة من شأنها أن تشرع مصاريع الأبواب جميعها أمام الأساليب القديمة البالية التي كنا نحسبها تقوَّضت واندثرت تحت ركام حائط برلين، من تربُّص بالرأي، وترصُّد للفكر، ومطاردة لـ (النوايا)!
والآن، لئن حدا بي ذلك للعودة، هنا، إلى كلمة قديمة سبق أن نشرتها تنويهاً بصحَّة (المنهج) الذي اتبعه الحزب في حسم موقفه، مرَّة وللأبد، من قضيَّة أساسيَّة بالنسبة لمستقبل التطوُّر السياسي في بلادنا، هي قضيَّة (الديموقراطيَّة)، فليس ذلك من باب الدفاع عن د. الشفيع غير المفتقر، أصلاً، إلى دفاعي، ولا يهمُّ، في كثير أو قليل، إن اتفقت أو اختلفت معه، حيث أنني أحترم، أياً كان الأمر، طاقاته، وأثق في قدراته، وأثمِّن عالياً نضالاته وتضحياته المشهودة، وإنما، فقط، كي أعيد إلقاء شئ من الضوء على نموذج عمليٍّ ملموس لكون مفارقة المتواتر من (نصوص) الماركسيَّة اللينينيَّة ليست (عيباً) ولا (حراماً)!
فالماركسية اللينينيَّة ليست ديناً، وإنما نظريَّة في حقل العلوم الاجتماعيَّة، وأداة منهجيَّة لتحليل الواقع، وإضاءة لا غنى عنها في مسالك الثورة والتغيير. وبوصفها هذا ستظلُّ، بوجه عام، وبقوانينها ومقولاتها الأساسيَّة، مرشداً يحتاجه الحزب، بشدَّة، في عمله ونشاطه الثوري. ولأنها كذلك فستظلُّ، أيضاً، شأنها شأن كلِّ منهج علمي، قاصرة عن بلوغ نسبة المئة بالمئة من الوثوق واليقينيَّة، ومفتوحة، بالضرورة، على معطيات الواقع الجديد، وما يفرزه ويثبته من حقائق لا ينكرها إلا عقل مغلق! لكن انزلاقنا الخاطئ للتعاطي معها، أحياناً، كحزمة نصوص صمديَّة جامدة، حال، حتى أواخر العام 1977م، دون تنمية حسٍّ نقدي مطلوب بإزاء بعض (محفوظاتها) الأساسيَّة في ما يتصل بقضيَّة (الليبراليَّة السياسيَّة)، حيث أن الماركسيَّة اللينينيَّة تعتبر (البرلمانات الليبراليَّة) محض (منظمات كلاميَّة) لا نفع فيها، و(الانتخابات النيابيَّة) مجرَّد مواسم لتحديد من سيتولى (قمع) الشعب الكادح خلال الأربع أو الخمس سنوات القادمة، و(ديكتاتوريَّة البروليتاريا) ـ المصطلح الذي لم يرد في أيٍّ من برامج الحزب الشيوعي السوداني المتعاقبة ـ بمثابة الحلُّ الوحيد الحاسم لقضيَّة السلطة والصراع الطبقي!
غياب الحسِّ النقدى هذا، إذن، هو المسئول، بالأساس، عن تأخُّر وضع (المنهج) الماركسي اللينيني في مكانه الصحيح كأداة، فحسب، ضمن أدوات المعرفة المختلفة، بدلا من الانكفاء عليه باعتباره الأداة (الوحيدة) المُعرَّفة بـ (الألف واللام)، مِمَّا أخَّر، بالتبعيَّة، استولاد التنظير الذى يأخذ في اعتباره خصوصية الواقع، دون أن يُغفل القانون العام، كما أخَّر الانفتاح الحاسم على هذه القضية، زهاء الثلاثين سنة، في نسق الفكر الثوري والممارسة الثورية، وتنمية الخط الدعوي المطلوب حول علاقتها الجدليَّة بحركة التقدم الاجتماعي.
وهكذا ما من أحد، داخل الحزب أو خارجه، يستطيع أن ينسب إلى التلخيصات الماركسيَّة اللينينيَّة الشائعة عن (الديموقراطيَّة الليبراليَّة) شيئاً من نتائج دورة اللجنة المركزيَّة في أغسطس 1977م، والتى خلصت الحزب، نهائياً، فى مستوى الطرح النظرى والممارسة العمليَّة، من أوهام (الديموقراطيَّة الشعبيَّة) و(الديموقراطيَّة الجديدة) و(الديموقراطيَّة الموجَّهة) وما إليها من ضلالات لطالما سحبت أقدامه في سكك (الشموليَّة)، مِمَّا كان ينسجم ورؤيته المدعومة، آنذاك، بالنماذج الماثلة والضاغطة، عالمياً وإقليمياً، لإشكالية الصراع السياسى وسلطة الحزب الواحد. فبرغم النقد الماركسى اللينيني المعلوم لـ (الديموقراطيَّة الليبراليَّة)، إلا أن الحزب، وبخاصة من خلال (تجربته) مع نظام مايو (1969 ـ 1985م)، وجد نفسه غير مستطيع (عملياً) أن يتناقض مع (معطيات) الواقع السياسى (الأخضر) لصالح (أطروحات) النظرية (الرماديَّة)، أو أن يُغلب استنتاجات الماركسيَّة اللينينيَّة في (المحاكمة النظريَّة) لهذه (الديموقراطيَّة) على حساب كلِّ ما راكم من (خبرة عمليَّة) مع (الديكتاتوريَّة)، حتى لو تزيَّت بالأزياء (الثوريَّة)، أو على حساب (ملاحظاته التاريخيَّة) حول (الشموليَّة) حتى لو تجمَّلت بالأصباغ (التقدميَّة). وقد اختصر الأستاذ نقد الأمر بقوله: ".. هذه تجربة خضناها ولسنا مستعدين لنخضع فيها لنصائح نظريَّة .. الحزب لن يخاف إطلاقاً من طرح رأيه في أن الديموقراطيَّة الليبراليَّة في السودان كانت وما زالت في مصلحة تطور الحركة الجماهيريَّة، ومصادرتها كانت باستمرار لمصلحة التطور الرأسمالي، والخراب الاقتصادي، ومصادرة الديموقراطيَّة، وانتهاك السيادة الوطنيَّة .. الحزب .. لن يوافق، ولن يسكت، ولن يهادن، في ما يتعلق بالحقوق الأساسيَّة، والحريات الديموقراطيَّة للجماهير، تحت شعارات جربناها في مايو. أنا لا أتحدث عمَّا تمَّ في أيِّ بلد عربي، أنا أتحدث عن تجربة السودان. شعارات (حماية الثورة) كانت شعارات تضليل لمصادرة الحقوق الأساسيَّة من الجماهير، وسوقها كالقطيع لحماية الديكتاتوريَّة، شعار الوحدة الوطنيَّة، والتنظيم الواحد الذي يوحِّد كلَّ القوى التقدميَّة .. الخ كان غطاء لتصفية المنظمات الثوريَّة والمنظمات الجماهيريَّة في البلد، وفرض الوصاية عليها لتمكين حكم الفرد، حكم الفرد من مواقع التقدم وحكم الفرد من مواقع الرجعيَّة" (حوار مع مجلة "بيروت المساء" ، أغسطس 1985م).
صحيح أن هذه (الخبرة) وتلك (الملاحظات)، والتي تندرج، إجمالاً، في قوام النظر البراغماتي، لا تلغي شيئاً من التحليل الماركسي العام والصائب لـ (الليبراليَّة) السياسيَّة كمنجز برجوازي. غير أنها، مع ذلك، قدمت للحزب معرفة قيِّمة لا غنى عنها: فمن جهة ظلت هذه (الديموقراطيَّة الليبراليَّة) توفر دائماً، برغم كلِّ عيوبها وتشوُّهاتها وعرجها المشهود في الممارسة، مناخ العوامل الموضوعيَّة الأصلح لتطوُّر العمليات السياسيَّة السلميَّة في البلاد، ولتفجير طاقات الجماهير ومبادراتها الذاتيَّة، بما توفره لكياناتها وقواها ومنظماتها المستقلة، ومن بينها الحزب نفسه، من فرص النمو والازدهار الطبيعيين في الهواء الطلق، في أجواء الحريات العامة والحقوق الأساسيَّة، بعيداً عن ترسانات القوانين المقيِّدة لهذه الحريات والحقوق، وعن أنابيب وأقبية و(ثلاجات) العمل السِّرِّي! من جهة أخرى، ولهذا السبب نفسه، استقرت (الديموقراطيَّة الليبراليَّة) كسمة ثابتة وملازمة لتطور الثورة السودانيَّة، وذلك في إطار المقاومة التي ما انفكت تشنها الحركة الوطنيَّة، ومن خلفها جماهير الشعب، ضدَّ كلِّ ما من شأنه إعاقة (الحريَّات السياسيَّة). هذا معطى تاريخي ناتج عن (مشاهدة) و(تجربة) عمليَّتين مفصحتين، فلا يجوز، بأيَّة حال، بل ليس من الحكمة في شىء، إسقاطه لحساب أيَّة محاكمة (نظريَّة) موجودة في كتاب ما!
هكذا خرجت دورة اللجنة المركزيَّة تلك باستنتاجات وموجِّهات تستند إلى القراءة الصحيحة للواقع، وتدفع بنضالات الشيوعيين السودانيين على طريق (الحريَّات)، باعتبارها الجوهر الحقيقى لـ (الليبراليَّة السياسيَّة)، وكشرط لازم لإرساء دعائم المشروع الاشتراكي فى السودان، مستقبلاً، لا بطريق الإنقلاب العسكرى، ولا بنظام الحزب الشمولي (القائد)، بل عبر صراع الأفكار، والرؤى، والبرامج، والمنافسة السياسيَّة الحُرَّة، والتمسُّك بالتداول الديموقراطي للسلطة، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع. وهى (استنتاجات) و(موجهات) تصعُب، كما قلنا، نسبتها إلى أيٍّ من التعميمات (الماركسيَّة اللينينيَّة)، لكن تسهُل، بالقطع، ملاحظة ترتُّبها على ضرب من النظر (البراغماتي). فحتى (البراغماتيَّة) PRAGMATISM يمكن الركون إليها، أحياناً، لا كنظريَّة متكاملة في النشاط الثوري، وإنما فقط كأداة بسيطة للمعرفة ليس من الحكمة إغفالها تحت أىِّ شعارات أو (نصائح نظريَّة). ولعل ذلك هو، أيضاً، ما عبَّر عنه الأستاذ نقد، تعبيراً سديداً، في مناسبة لاحقة، بقوله: ".. ليس هذا اكتشافاً نظرياً جديداً، وليس تطبيقاً خلاقاً للماركسيَّة، وليس ادعاءً بعبقريَّة، لكنه قراءة للواقع السوداني باسترشاد ماركسي حسب قدراتنا .. إنه لا يخلو من جانب براغماتي، لكن البراغماتيَّة أداة من أدوات المعرفة، ليست خطأ كلها، فيها جوانب عمليَّة صحيحة، لكن إذا تحوَّلت إلى نظريَّة كاملة للمعرفة يصبح أمرها شيئاً آخر. هذه واحدة من الخصائص المهمَّة بالنسبة لنا. هذه قضية أساسيَّة" (حوار مع مجلة "النهج"، ع/25 ، 1989م ، ص 51). وربما كان من المفيد أن نشير، هنا أيضاً، إلى أن ذات هذا الفكر الذى كانت اللجنة المركزية قد استندت إليه في دورة أغسطس 1977م، لم يكن بلا سابقة. فبرنامج المؤتمر الرابع (1967م) كان قد أكد، في سياق معالجته لقضيَّة (السلطة السياسيَّة ـ جهاز الدولة ـ الديموقراطيَّة)، أن السلطة الوطنيَّة الديموقراطيَّة ".. تقوم على الوعي والمعرفة السياسيَّة، ولا تدخل فيها اعتبارات أخرى لا صلة لها بالعمل السياسي المبني على البرامج العلميَّة وعلى المشاهدة والتجربة". وقد عاد السكرتير العام، ضمن مساهمته الموسومة بـ (المبادىء الموجهة نحو تجديد البرنامج)، ليصف ذلك المجتزأ بأنه "سياج نظري" أحاط به برنامج 1967م قضيته المحوريَّة، وأنه ".. يكتسب أهميَّة خاصَّة في الصراع ضدَّ الجمود في التعامل مع مفاهيم ومقولات السلطة السياسيَّة والدولة، إذ لا يقيِّدها بفلسفة بعينها ، بل يخضعها للعلم ومنهج العلم، أي لا تدخل فيها اعتبارات لا علاقة لها بالعمل السياسي، والعمل السياسي نفسه ينبنى على البرامج العلميَّة، وعلى المشاهدة والتجربة، بما يعني، ضمناً، أن البرامج العلميَّة تخضع لمحكِّ الممارسة والمشاهدة والتجربة، لا تعلو ولا تتسامى عليها فتنحدر إلى مسلمات جامدة" (الرأى العام، 9/12/2000م).
هذا ما كان من أمر تطوُّر مسألة (الديموقراطيَّة الليبراليَّة) فى فكر الحزب، و(المنهجيَّة) التى عالج بها مداخله إليها. والسؤال الذي نطرحه، الآن، على الأستاذ السِّر، متوقعين إجابته عليه بالأصالة عن نفسه، لا بالإنابة عن غيره، وبرويَّته المشهودة، بعيداً عمَّا لم يُعهد فيه من تربُّص بالرأي، أو ترصُّد للفكر، أو مطاردة لـ (النوايا): هل أضحى الحزب (تصفوياً يمينياً)، منذ ما يربو على الثلاثين سنة، وانتفت عنه صفة (الثوريَّة)، لمجرَّد أنه عالج، آنذاك، هذه المسألة المفصليَّة، بمنأى عن الدروس والتلخيصات الماركسيَّة اللينينيَّة بشأنها؟!

الأربعاء
أجدني ميالاً إلى بعض الأدبيات المسرحيَّة التي تغلب نسبة المجتزأ التالي إلى وليم شكسبير، لا إلى غيره، كما تقطع بذلك أدبيات أخرى تاريخيَّة، على أن البحث لم يهدني، حتى الآن، إلى علم وثيق أركن إليه في هذا الشأن.
يقول المجتزأ، بترجمة مدخولة بتصرُّف طفيف: "إحذروا القائد الذي يدقُّ طبول الحرب شاحناً الناس، دونما تبصُّر، بمشاعر البطولة الهوجاء، فهي سلاح ذو حدَّين، كونها تغلق العقول نهائياً، بقدر ما تسخِّن الدماء في العروق إلى درجة الغليان، حتى إذا علا إرزام الطبول، وفارت الدماء بالكراهية، وانسدَّت مسارب النور إلى العقول تماماً، لم تعُد بالقائد حاجة إلى التضييق على الحريات، فالناس، بمثل هذه المشاعر، وبالأعين المعصوبة بغشاوة البطولة، سيقدمون على التخلي له عنها، طائعين مختارين، وإن بوعي زائف! تسألونني: كيف عرفت؟ حسناً، لأن هذا هو، بالضبط، ما فعلته أنا .. يوليوس قيصر"!

الخميس
لئن ظلَّ احتياج شأننا الوطني قائماً، ابتداءً، ضمن احتياجات كثر في شتى ميادين هذا الشأن وحقوله، للخبرة المتخصِّصة المخلصة، والمعرفة الوثيقة الأمينة، حتى نضمن تشخيص كلِّ حالة على الوجه الصحيح، لا المتوهَّم، والتوصُّل، من ثمَّ، إلى علاج ناجع لها، بالغاً ما بلغ من مرارة الطعم أو زنوخ الرائحة؛ فإن أكثر ما يجلب الحزن، ويورث الأسى، هو ابتلاؤنا، كلما نزلت علينا نازلة، بضرب إضافي من (قلة القيمة)، حيث تكتظ، فجأة، وما بين ليلة وضحاها، غالب الفضائيات، والإذاعات، والمواقع العنكبوتيَّة، والصحافة المحليَّة، والاقليميَّة، والعالميَّة، بصنوف لا حصر لها من (خبراء الغفلة)، يستخفون بالعقول، ويتزاحمون، كما (حُواة الموالد)، بالمناكب العراض، والحناجر الحداد، ليس حرصاً على هذا أو ذاك من شأننا الوطني، بل تنافساً، في حقيقة الأمر، على تزكية النفس، و(إعلان) كلِّ (حاو) عمَّا تحتوي (مخلاته) من وصفات (سحريَّة) يطمع في الفوز بـ (عطاء) تقديمها لحكومتنا السَّنيَّة التي ما تنفكُّ تبدو، في مواجهة كلِّ أزمة، مثل ثريٍّ ريفيٍّ وفد إلى البندر باحثاً، لدى (عشَّابي) و(دجَّالي) أحيائه الطرفيَّة، عن دواء لما يشكو منه، دون أن يكون مستعدَّاً، البتة، لأن يعطي أذنه إلا لكلام من (يضحكه) بأن تلك محض (وعكة طارئة) لا تحتاج لأكثر من (مَسُوح خارجيٍّ) على سطح الجلد فحسب، نافراً، بالمرَّة، عن كلام مَن (يبكيه) بأنها (داء عضال) يلزمه أن (يكرُب وسطه) ويتهيأ لعلاج قاس وطويل!
ولأن (الدَّجَّالين) ماهرون، عادة، في (شمِّ) الرغائب على (ظهور) الأيدي، فإنهم يخفون سراعاً كي (يعرضوا)، في (سوق الشمس) المنصوب هذا، كلَّ (ما يطلبه المستمعون) مِمَّا يوافي (الهوى)، ويناسب (الذائقة)، متحاشين استثارة أوْهَى عزوف من قِبَل (الزبون) عن (البضاعة)، أو أدنى نفور لديه من (التركيبة)، فعينهم، أصلاً، ليست على (صحته)، بل على (محفظته)!
...........................
...........................
من يرانا نهوِّل، في ما نقول، أو نغالي، عليه بمراجعة المشهد التراجوكوميدي المستمر، مذ أعلن المدعي العام الدولي اتهاماته لأحمد هارون وكشيب، ثم انعطف بها إلى رئيس الجمهوريَّة! ولعلَّ في ما حكى الصديق كمال بخيت، أواخر الأسبوع الماضي، نموذجاً ساطعاً للأمر، إذ حدَّثه أحدهم، قبل فترة، بأن مكتباً للاستشارات القانونيَّة في العاصمة البريطانيَّة اتصل به واصفاً القضيَّة بأنها "هشة، ولا تستند إلى أيِّ أدلة قانونيَّة، ويمكن شطبها بكلِّ سهولة، وأن مكتبهم على استعداد للقيام بهذه المهمَّة إذا فوَّضته الحكومة السودانيَّة!" (الرأي العام، 5/8/08). وليس مهماً، بعد ذلك، لمن يعرف (أساليب) بعض من ابتليت بهم مهنة المحاماة، تعزيز المكتب المعني لـ (عرضه) بأنه "لا يشترط دفع أيِّ أتعاب ماليَّة إلا بعد شطب الاتهام تماماً"، فلو نجح ذلك (السمسار) المتخفي في (تسويق) هذا (العرض) المغري للحكومة، لاستحقَّ، إذن، مكافأة ثمينة من المكتب الملهوف الذي يكون قد فاز بـ (دعاية) عالميَّة لا تقدَّر بثمن، وتلك بصارة في إذابة (السُّكر) في (الماء) يعرفها مربو (الحمام) جيِّداً!

الجمعة
الإنفجار العارم لقضيَّة (ستات الشاي) العادلة عزَّز الثقة في ما يمكن للمجتمع المدني المنظم إنجازه، بل وما يمكن حتى للرأي العام العفوي تحقيقه، عند التصدِّي الحازم للسياسات الرسميَّة الخاطئة، كاعتزام التضييق على هذه الشريحة من الكادحات في المعايش، بدعوى الحدب على مظهر العاصمة الحضاري، وما إلى ذلك من لغو. لكن أطرف ما سمعت من تعليق حكومي على هذا الانفجار ما تفضلت به مندوبة وزارة الرعاية الاجتماعيَّة، في (منتدى السياسة والصحافة) ببيت الإمام الصادق المهدي، حين قالت بالحرف الواحد: "إن الطرح تمَّ تناوله بصورة خاطئة، لأنه مجرَّد مقترح وفكرة، ولم يصل، بعد، إلى مرحلة القرار النافذ" (الرأي العام، 8/8/08)! يعني، بالعربي، علينا الانتظار ريثما تقع الفأس في الرأس!

السبت
رغم أن شأن القضاء ليس من اختصاص وزارة العدل، أصلاً، إلا أنني، على قدر ما حاولت، لم أستطع أن أقف على جليَّة الأمر في تصريحات وزيرها ووكيلها، إتفاقاً أم اختلافاً، بشأن قبول أو عدم قبول مجئ أية جهة خارجيَّة لـ (تقييم) أداء الجهاز القضائي السوداني، بعد اتهام مدعي المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة للرئيس عمر البشير بارتكاب جرائم حرب في دارفور. فالوكيل، عندما ووجه، في حواره مع بعض الصحفيين، بتصريح الوزير عن أن لجاناً أمميَّة وأفريقيَّة ستأتي لتقوم بهذا (التقييم)، نفى الأمر جملة وتفصيلاً، وفي أكثر من موقع في إفاداته (الأحداث، 3/8/08)؛ ثم إن الوزير نفسه عاد ليقطع بأنهم لن يسمحوا، البتة، لجهات دوليَّة بـ (تقييم) القضاء السوداني، نافياً أن تكون الحكومة قد وافقت على استقبال جهات دوليَّة لـ (تقييم) هذا الجهاز، كونه "فوق الشبهات ولا يمكن أن يكون محل (تقييم) من أيَّة جهة خارجيَّة"؛ غير أنه ما لبث أن أكد، في الوقت ذاته، "عدم ممانعة الحكومة في قيام أيَّة جهة دوليَّة بـ (الاطلاع) على (مسيرة) القضاء السوداني" (الرأي العام، 3/8/08).
ولما لم يكن (الاطلاع) على (مسيرة) القضاء السوداني ليعني، في سياق هذه الحالة المحدَّدة، سوى (تقييمه)، فقد حلَّ الغموض، ووقع الارتباك، ونشأت الحيرة إزاء تصريحات الرجلين، بل إزاء الموقف الرسمي كله، بالأساس، خصوصاً عندما أوردت وكالة الأنباء الفرنسيَّة تصريح رئيس مفوضيَّة الاتحاد الأفريقي، جين بينغ، بأن الاتحاد يرتب لابتعاث مجموعة من 7 إلى 10 محامين "رفيعي المستوى!" لتقصِّي (الوضع) في السودان، ولدراسة (الحالة) بأنفسهم، ولإجراء (تحقيق مماثل) لتحقيق المحكمة الدوليَّة، لمعرفة ما فعلته وما لم تفعله، وأن بعض أعضاء المجموعة قد يأتي من أفريقيا، والبعض من الجامعات في انجلترا وأمريكا أو أيِّ أماكن أخرى، وأن الحكومة السودانيَّة قد وافقت على هذا الترتيب (الأحداث، 6/8/08).
فإذا علمنا، من جهة، أن خيار الاتحاد الأفريقي المفضَّل، على عكس الموقف السوداني الرسمي، هو التعاطي مع الأزمة في إطار الاعتراف بالمحكمة وبقانونها الأساسي (نظام روما لسنة 1998م) الذي تحظر المادة/16 منه البدء أو المضي قدماً فى أى تحقيق أو مقاضاة، بناءً على قرار من مجلس الأمن، تحت الفصل السابع، مشمول بطلب فى هذا المعنى إلى المحكمة، لمدة قد تصل إلى اثنتى عشر شهراً، الأمر الذي أثار حفيظة مساعد رئيس الجمهوريَّة، د. نافع على نافع، فأعلن أن "الخرطوم لن تقبل الارجاء لسنة أو سنتين أو يوم أو يومين" (الأحداث، 30/7/08)، وذلك، استطراداً، في نفس الوقت الذي بدأت تتضح فيه ملامح الصورة الاقليميَّة والدوليَّة العامة لتبنِّي ذات الخيار من قِبَل الجامعة العربية وأمينها العام (الرأي العام، 31/7/08)، ومنظمة المؤتمر الاسلامي (الرأي العام، 28/7/08)، والرئيسان المصري حسني مبارك والجنوب أفريقي ثابو مبيكي، فضلاً عن سبع دول أعضاء في مجلس الأمن ـ المكوَّن من خمسة عشر دولة ـ هي ليبيا وجنوب أفريقيا وروسيا والصين وفيتنام وأندونيسيا وبوركينا فاسو (أجراس الحرية، 31/7/08)؛ وإذا علمنا أيضاً، من جهة أخرى، أن أوجب واجبات المحكمة الدوليَّة (التحقق)، إبتداءً، من توفر أو عدم توفر عنصري (القدرة) و(الرغبة) لدى الدولة المعنيَّة و(قضائها) في تعقب الجناة ومحاكمتهم، حسب نصِّ المادة/1 من (النظام)، والتى تحول دون انعقاد الولاية والاختصاص التكميليين Complementary لهذه المحكمة إلا إذا ثبت انعدام هذين العنصرين أو أحدهما؛ فإننا نستطيع أن نخلص منطقياً، إذن، إلى أن أيَّ تحقيق سيجريه فريق المحامين الأجانب "رفيعي المستوى!"، والذين سيبعث بهم الاتحاد الأفريقي، سيطال، من باب أولى، مسألة ما إن كانت المحكمة الدوليَّة، قبل قبول الولاية والاختصاص بملف دارفور، قد استوفت أم لم تستوف الوقوف على توفر أو عدم توفر العنصرين المذكورين في القضاء السوداني، مِمَّا يعني، منطقياً وبالضرورة، أن يجري هذا الفريق (تقييماً) للقضاء السوداني كي يتمكن من أن يقول كلمته في عمل المحكمة الدوليَّة!
وهكذا يعود السؤال يراوح مكانه في انتظار إجابة موحَّدة وقاطعة وشافية من الحكومة: هل ستسمح لجهة أجنبيَّة بـ (تقييم) القضاء السوداني، أم لن تسمح؟!

الأحد
لسبب ما، وكثيراً ما يحدث لي هذا، تهشُّ في خاطري، هذه الأيام، ذكرى صديقي الراحل علي المك. وفي ذات الوقت أكاد لا أملُّ الاستماع إلى خريدة المسَّاح (غصْنَ الرِّياضَ المَايدْ)، مرَّات بصوت أبو داؤد، ومرَّات بصوت رمضان زايد، ولا أعرف صوتاً ثالثاً يضارعهما في الشدو بها. وربما وقع الارتباط من كون عليٍّ هو الذي أعداني بذائقتها، وللذائقة عدوى، وأيُّ عدوى، وحبَّبني فيها، لديهما وحدهما، حين أهداني، مطالع ثمانينات القرن المنصرم، شريطاً نادراً من تسجيلاتهما لها، شئ بالأوركسترا، وشئ بعود برعي الفخيم. ومن يومها لم أعد أعرف لغيرهما مثل هذا الاقتدار الرفيع على التفنن في أداء نصِّها الراقي، تطريباً عذباً ترفرف به أجنحة الصداح المتمايح بين (ألِفات مدِّها) المتكاثفة، صعوداً وهبوطاً، في بنية لحنها المعجز الشجي. هكذا أضحت (غصْنَ الرِّياضْ)، عندي، (نشيد إنشاد) الأغنية الأمدرمانيَّة، وليت (لجنة الأصوات) اتخذتها امتحاناً أساسياً يُجاز باجتيازه مغنوها الجُدُد!
جلسنا، مرَّة، في بيت صديق مشترك نستمع، حتف أنوفنا، إلى (فنان حيرة!) يرمينا بوابل من طرقعات حنجرة معطوبة التمسنا الاستعانة عليها وعليه بالانصراف إلى رائق مؤانسات عليٍّ ونكاته. غير أن الهاشميَّة ما لبثت أن شالت فناننا الأحمق ذاك، بغتة، فحدَّثته نفسه الأمَّارة بالسوء، في لحظة طيش، ليعرُج، مباشرة، عُروجاً غير محسوب، بطرقعاته تلك، وبلا سابق (إنذار)، إلى (غصْنَ الرِّياضْ)! وما أن توحَّل في قول المسَّاح المُعْجز: "عَانيتْ في ليالي هَوَاكْ صنوفْ وأحَايدْ/ مُشكِلة بين هَوَايْ وُجَفاكَ وانتَ مُحَايدْ"، حتى راح يعرق ويجفُّ، ويجفُّ ويعرق، ويزفُّ زفاً، وينخر نخراً، ويشهق شهيقاً، ويزفر زفيراً، ويثغو ثغاءً، ويرغو رغاءً، ويخور خواراً، فما أخرجه وأخرجنا من تلك الورطة ذات الجلاجل غير صوت أبو المك حين انطلق ناصحاً له بقفشة مدوِّية:
ـ "أوعك .. بتعمل ليك ديسك"!



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن