فشل الحركة الاجتماعية في تيان ان مين في أساس النيوليبيرالية في الصين

وانغ هوي

2002 / 5 / 23



WANG HUI

منذ أواخر السبعينات، وخصوصاً منذ العام 1989، اتبعت الحكومة الصينية سياسة تحرر جذرية وانضمت الى أكثر الفاعليات حماسة لنظام العولمة. واذا كانت الاصلاحات المهيأة لاقتصاد السوق قد حظيت بالكثير من التعليقات، فبالعكس لم يعر أحد التفاعل بين الدولة والاسواق اهتماماً. والحال أن الاصلاحات وتحديداً تلك التي تناولت التنظيم المدني الذي بوشرمنذ العام 1984، قد أدت الى إعادة توزيع الثروات. فتالحويل والخصخصة في الموارد التي كانت الدولة تمسك بها حتى ذلك الحين قد أتت لفائدة مجموعات جديدة ذات مصالح خاصة حولت المسار الاصلاحي لأهدافها الشخصية. وقد ظهرت بعض المظالم الشديدة كما يشهد على ذلك تفكك عطاءات الضمان الاجتماعي والهوة المتزايدة بين الاغنياء والفقراء والبطالة الكثيفة وهجرة سكان الريف الى المناطق المدينية.

وما كان لكل هذه الأمور ان تحدث لولا تدخل الدولة التي أبقت النظام السياسي قائماً، لكنها تخلت عن بقية المهمات التي كانت تمارسها في المجتمع. أضفت هذه الازدواجية بين الاستمرارية السياسية والانقطاع الاقتصادي والاجتماعي على النيوليبيرالية الصينية طابعاً خاصاً. فقد كان من الاهداف الرئيسية للسلطة حل أزمة شرعيتها التي باتت موضع بحث مع الحركة الاجتماعية التي قامت في العام 1989. ومذّاك أصبح الخطاب النيوليبيرالي طاغياً، مانعاً اي بحث في الخطط والبدائل المختلفة. وجاء انضمام الصين الى منظمة التجارة العالمية كمرحلة نهائية من هذه المسيرة.

ولفهم اصول هذه المسيرة يجب العودة الى التحولات الاقتصادية التي جرت ما بين العام 1978 و1989، وتحليل دور الدولة في تطبيق اقتصاد السوق. أما فشل الحركة الاجتماعية في العام 1989، والتي سحقت بتطلعاتها الاجتماعية والديموقراطية في 4 حزيران/يونيو على ساحة تيان ان مين، فإنه يمثل اللحظة الحاسمة لهذا التطور.

وإذا كانت معظم الدراسات قد أبرزت دور الطلاب والمثقفين وبعض العناصر "الاصلاحية" داخل الدولة، فقد جندت هذه الحركة الاجتماعية في الواقع قطاعات أوسع في المجتمع. طبعاً، اضطلع الطلاب بدورهم إذ ان التحرر الثقافي وعصر "الأنوار" من الثمانينات كانت قد أسقطت الايديولوجيات السابقة وفتحت آفاقاً جديدة أمام الفكر النقدي، لكن عفوية تحرك العام 1989 واتساعه يبيّنان أن أساسه الاجتماعي هو أكثر شمولاً وتنوعاً.

ففي الواقع برهن المثقفون أنهم كانوا عاجزين عن اقتراح أهداف اجتماعية واقعية، وهم لم يفهموا تماماً العمق الفعلي لهذه الحركة. فالفكر النقدي، الذي استهدف في شكل اساسي الدولة الاشتراكية، لم يتمكن من رؤية ولا من فهم المميزات الخاصة لهذه التناقضات الاجتماعية الجديدة. ففيما كانت الدولة الماوية تحافظ بالاكراه والتخطيط على تفاوت في النظام تحت ستار المساواة، حوّلت "الدولة الاصلاحية" الجديدة هذا التفاوت اختلافاً في المداخيل بين مختلف شرائح المجتمع. غير أن النقاد لم يستطيعوا تبيّن النزعات الاجتماعية العميقة التي أجّجت معارضة الثمانينات، فهي لم تكن "اشتراكية" الايديولوجية القديمة للدولة المتميزة بالاحتكار، بل كانت اشتراكية جديدة، لا تزال في بداياتها طامحةً الى الحماية الاجتماعية والمساواة والعدالة والديموقراطية، في سياق تطور متسارع لاقتصاد السوق.

ورغم تنوعها الايديولوجي كانت هذه الحركة في الاجمال موجهة ضد الاحتكار وأصحاب الامتيازات، وتدعو الى الديموقراطية والحماية الاجتماعية. وباستثناء المزارعين الذين لم يشاركوا فيها مباشرة فقد اجتذبت أناساً من جميع الطبقات، الوسطى والكبرى، في المناطق المدينية. وهذا التمرد الواسع من قطاعات واسعة ممثلة لقسم كبير من المجتمع، كشف النقاب كلياً عن التناقضات الكامنة داخل السلطة.

ويمكن ملاحظة مرحلتين متميزتين في العمليات الاصلاحية. الأولى، ما بين العام 1978 و1984، وقد استهدفت المناطق الريفية حيث زيادة اسعار المنتجات الزراعية والتشجيع على الاستهلاك وتطوير التصنيع المحلي قد ردمت تدريجياً الهوة بين مداخيل المدن ومداخيل الريف. وإذا كان إدخال آليات السوق جزئياً قد أدى دوراً رديفاً في هذا التطور الإيجابي فإن الاصلاحات كانت قائمة على سياسات تقليدية صينية لتوزيع الأراضي وخاضعة لمبدأ المساواة. فقد زادت الانتاجية الزراعية، وخلال بعض الوقت، خفت حدة الفرز ما بين المناطق المدينية والمناطق الريفية.

وفي العام 1984 بدأت مرحلة ثانية، مدينية، واعتبرت في شكل عام حاسمة في تطوير اقتصاد السوق. ومن وجهة النظر الاجتماعية تميزت هذه الفترة بـ"الغاء مركزية السلطة والمصالح" في عملية إعادة توزيع المنافع الاجتماعية والمصالح الاقتصادية عبر تحويل الموارد التي كانت تمسك بها وتنسقها الدولة، الى مصالـح خاصة (2) . فانخفض بقوة، بعد العام 1978، انفاق القطاع العام واكتسبت الحكومات الاقليمية سلطة واستقلالية متزايدتين (3) .

وبحسب ما يؤكد عالم الاجتماع السيد زهانغ والي، فإن اللامركزية "لم تعطل بأي شكل سلطة الكيانات العامة في توزيع مداخيل الشعب، بل كل ما فعلته هو أنها قلصت من سلطة الحكومة المركزية (...). وبالعكس فإن التدخل الاداري في الحياة الاقتصادية قد تعزز بدلاً من ان يعدَّل، بل أخذ دوراً مباشراً أكثر مما كان يمارس على يد الحكومة المركزية. فالغاء المركزية لم يعنِ قط زوال الاقتصاد التقليدي الموجه، بل بكل بساطة عنى تجزئة هذه البنية التقليدية" (4) .

وقد تركز الاهتمام خصوصاً على اصلاح شركات الدولة، إذ منحت في بداية الامر استقلالية أكبر ثم جرى تشجيعها لإعادة تنظيم نشاطاتها وتغيير نمط إدارتها، ثم، وتحت ضغط البطالة المتزايدة، فضلت الدولة ان تحول الموجودات على إغلاق الشركات، محافظةً في الوقت نفسه على التوجيه الأساسي نحو اقتصاد السوق. فما كان من مجمل هذا المسار، أي عمليات الدمج وتحويل الموجودات وإغلاق الشركات، الا ان غيّر في طبيعة علاقات الانتاج. فمبجرد ان بدأت الدولة تتخلى عن امتيازاتها في المجالين الصناعي والتجاري وانتقلت من إعداد الخطط وتطبيقها الى عملية تعديل اقتصادية ضخمة، خرج الى العلن التفاوت في توزيع الموارد الذي كان سائداً في النظام السابق، الأمر الذي ترجم على الفور بتفاوت جديد بين بعض الشرائح الاجتماعية والأفراد.

وفي غياب رقابة ديموقراطية ونظام اقتصادي ملائم، بدا ذلك أمراً محتماً. وقد لحق الضرر بشكل بالغ بموقع العمال وبمصالحهم وحتى بالموظفين. والدليل على ذلك تراجع دورهم الاقتصادي والفرز لصالح فئة اجتماعية محددة، وتجميد التقديمات الاجتماعية والمداخيل العمالية، ناهيك بغياب أي وقاية في العمل بالنسبة الى المسنّين والضعفاء والمرضى والمعوقين والنساء الحوامل (5) . ومع هذا فإن الاصلاحات اكتسبت شرعيتها بما لا يقبل الجدل بفعل انعكاساتها التحريرية والنقاش الفكري الذي أثارته. فالدولة لا تدين باستقرارها الى القمع فقط، بل أيضاً لأنها عرفت كيف تحافظ على هذه الدينامية.

وفي أواسط الثمانينات، ومع التضخم المتزايد، ومع أخطار الفوضى الاقتصادية والتوتر الاجتماعي على مستوى واسع، انطلق النقاش مجدداً، وكان السؤال المطروح هو حول اختيار الطريق ما بين الاصلاح الجذري لقانون الملكية وخصخصة مجمل شركات القطاع العام من جهة، وبين الاصلاح البنيوي في إطار الدولة مع تحرير جزئي في الأسعار من جهة أخرى. وقد وقع الخيار على الحل الثاني الذي حقق نجاحاً في الإجمال، لأن تعديل الاسعار أجبر الشركات المحتكرة السابقة على التكيف، منشطاً في الوقت نفسه آليات السوق. وتبرز اهمية النجاح في شكل واضح حين نقابل النتائج مع نتائج "الخصخصة الفورية" التي حدثت في روسيا.

الا أن هذا الخيار طرح أيضاً مجموعة من المشكلات. فالصين كانت تطبق "نظام تسعير مزدوجاً"، فأسعار وسائل الانتاج تحدَّد بموجب الخطة، وأسعار المواد الاستهلاكية تحدَّد وفق السوق. وهذان المستويان سهّلا عملية الفساد من جانب كوادر الدولة والأجهزة الرسمية. فالموارد التي كانت الدولة تمسك بها قد حولت "شرعياً" و لاشرعياً لتخدم المصالح الاقتصادية لأقلية صغيرة. وفي هذه المبادلة بين السلطة والمال ذهب جزء من ثروات القطاع العام الى جيوب "الساعين الى الربح" (6) . وأكثر فإن توسيع نظام "العقود" في العام 1988 والذي سمح بموجبه لشركات الدولة وللحكومات المحلية وللوزارت بعقد اتفاقات تجارية ومالية مع الخارج، قد ادى الى موجة تضخم أخرى والى بروز التفاوت إذ تحولت "منتجات الخطة" وكأنها منتجات السوق (7) .

ولكي تتمكن السلطة من التغلب على هذه العوائق أعلنت في أيار/مايو وحزيران/يونيو عام 1988 أنها ستضع حداً لنظام التسعير المزدوج وانها ستسلك طريق الليبيرالية العامة. وهذا ما أثار صدمة واضطرابات مهمة أجبرت الحكومة على العودة الى الرقابة الدقيقة على الاقتصاد. وعلى الأثر تفاقمت التناقضات بين الدولة والكيانات التي كانت هي نفسها قد أوجدتها، اي مجموعات المصالح الخاصة على المستويين الاقليمي والوطني.

وجاءت الفروقات الاجتماعية الرهيبة عاملاً حاسماً في تفجير الحركة الاجتماعية في العام 1989. ففي المناطق المدينية اتسعت الهوة بين المداخيل الى حد كبير، فأجور العمال انخفضت الى درجة ان "طاسة الأرزّ" التي يأكلونها باتت مهددة. وارتفعت البطالة بين عمال شركات الدولة (مع أنها لم تبلغ الحد المأسوي الذي هي عليه اليوم)، وأدى التضخم الى ارتفاع سعر المعيشة فيما التقديمات الاجتماعية مجمدة. ولم يكن العمال هم الضحايا الوحيدين، فهذه الظاهرة أصابت أيضاً الموظفين في حياتهم اليومية مولّدةً هوة في المدخول في ما بينهم وبين شرائح اجتماعية اخرى، ثم وسط الموظفين انفسهم، ما بين الذين دخلوا نظام السوق واولئك الذين ظلوا في القطاع العام (8) .

ولم يكن من شأن تجميد عملية الاصلاح في الريف ما بعد العام 1985 الا ان فاقم خيبة الأمل المتنامية بالنسبة الى برنامج الاصلاح. وإذا أضفنا الى هذا كله احتدام صراعات المصالح داخل الدولة، تكون جميع المقومات قد توافرت لنشوء أزمة شرعية بكل ما للكلمة من معنى. لم يكن الرأي العام الصيني يؤيد الاقتصاد الموجه، لكن عملية تحويل النظام التي بدأت في السبعينات أوحت عدم الثقة عندما برزت الى العلن أشكال التفاوت الجديدة، فطرح مجدداً على بساط البحث موضوع شرعية الاصلاحات وأسسها السياسية والقانونية.

راح الطلاب والمثقفون يطالبون في شكل أساسي بالحقوق الدستورية وبسياسة ديموقراطية موثوق بها وبحرية الصحافة وبحرية الاجتماع وبدولة القانون. وقد ايدت هذه المطالب شرائح أخرى من الشعب الا أنها أعطتها مضموناً اجتماعياً أكثر تلمساً، فاعترضت على الافساد وعلى اختلاسات المسؤولين، وهاجمت "حزب المير" (الطبقة ذات الامتيازات) وطالبت بتثبيت الاسعار وبضمانات وبعدالة اجتماعية وباستعادة "يانغبو" مثلاً في جزيرة هاينان، وهي نوع من منطقة حرة كانت مؤجرة للرأسمال الأجنبي. وقد سارت المطالبة بالديموقراطية على قدم وساق مع المطالبة بتوزيع أكثر عدالة للثروات.

وإذ كانت الحركة تنتقد بكل وضوح النظام "السابق"، فإنها كانت ترفع مطالبها الى "دولة الاصلاح الجديدة" وتحتج على سياستها. غير أن التمييز بين الاثنين لم يعنِ الفصل بين نظامي الدولة وبين تحول في مهماتها، فـ"دولة الاصلاح الجديدة" كانت كلياً في الواقع أسيرة الارث السياسي الذي خلفته الدولة "السابقة".

وفي الاجمال كانت الحركة تعبيراً عن ردة فعل عفوية من أجل الحماية الاجتماعية الذاتية ومن أجل الاحتجاج على الاستبداد. الا انها كانت تضم في صفوفها المتنوعة مجموعات المصالح الخاصة التي سبق أن كانت المستفيد الكبر من إلغاء مركزية السلطة ومن الثروات. وهذه المجموعات أولت الاهمية لمطالبها الخاصة مطالبةً الحكومة بتنفيذ برنامج جذري للخصخصة، وقد استغلت الحركة من أجل تعديل موازين القوى داخل الحكومة بما يحقق اهدافها (تجمعات اقتصادية مثل كانغهوا كومباني وسيتونغ كومباني مارست ضغوطاً كبيرة). والظاهرة نفسها برزت في اوساط المثقفين المرتبطين في شكل وثيق بسلطة الدولة.

وفي نظر سائر العالم انتقل النيوليبيراليون الى موقع معارضة النظام، مناضلين ضد "الطغيان" ومن اجل "الحرية"، وقد تكتموا على علاقاتهم المعقدة بالسلطة والتي كانوا قد اعتمدوا قبلاً من أجل تنشيط السوق الداخلي وإمرار سياستهم في الغاء المركزية وخصخصة الثروات الوطنية. وفي غياب الرقابة الديموقراطية "شرعت" هذه المصادرة لموارد الدولة باللجوء الى أجراءات تشريعية جديدة. وبفعل الروابط بين "النيوليبيرالية" الصينية والنظام العالمي، فرض هؤلاء "الاصلاحون الجذريون" نظرتهم الخاصة الى الحركة الاجتماعية التي قامت في العام 1989 وبدت كأنها تعبير عن خطوة الى الأمام لليبيرالية الاقتصادية.

ولا يجوز تفسير الاحداث وفق ترسيمة "مع او ضد" الاصلاحات. فالنقاش بين النيوليبيراليين وسائر أطراف الحركة لم يتناول الاصلاح في حد ذاته بقدر ما تناول طبيعته. فاذا كان الجميع يؤيدون فكرة الاصلاحات الديموقراطية السياسية والاقتصادية، فإن الاختلاف نشأ حول مضمونها وما يتوخى منها. فقد كانت غالبية المعارضين ترغب في إعادة تنظيم جوهرية في السياسة والنظام القضائي مما يضمن العدالة الاجتماعية وقيام عملية ديموقراطية فعلية في الحياة الاقتصادية، وهذه التطلعات تحولت في العمق موضع نزاع مع تطلعات مجموعات المصالح الخاصة.

وكما هو معروف فإن المعركة من اجل الديموقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية قد سحقتها السلطة بعنف في ساحة تيان ان مين، وقضت على الامكانات التاريخية التي كانت تذخر بها الحركة، لكن فشلها نتج بطريقة غير مباشرة من أنها لم تكن قادرة على مد الجسور بين المطالب الديموقراطية والمطالب الاجتماعية، ولا على ان تثبت نفسها كقوة اجتماعية ثابتة.

هذه الحركة يمكن تصنيفها في الاطار العام لنهضة الاسواق ولبروز القوى الاجتماعية المعارضة للنظام العالمي المهيمن. وهي تعتبر جزءاً من المجموعات المتواصلة التي قادت حركات الاحتجاج ضد منظمة التجارة العالمية في سياتل، خلال تشرين الثاني/نوفمبر وكانون الأول/ديسمبر عام 1999، وضد صندوق النقد الدولي في واشنطن في أيار/مايو ونيسان/أبريل عام 2000. وكل هذه التحركات كانت تعبيراً عن آمال طوباوية في المساواة والحرية. وبدلاً من الاعتراف بهذا البعد المزدوج لحركة 1989، فإن الخطاب الذي ساد، جعل منها الدليل الساطع على النموذج الغربي، وهكذا افرغ الحدث من مضمونه ومن قوته النقدية، فجرِّد من أهميته التاريخية كحركة احتجاج على العلاقات الجديدة داخل السلطة وعلى الهيمنة الطارئة والاستبداد المستجد (وليس فقط على الاستبداد السابق).

بعد تيان ان مين حصرت حركة الاحتجاج الاجتماعية في حيز ضيق جداً وتحول الخطاب النيوليبيرالي خطاباً تسلطياً. ففي أيلول/سبتمبر عام 1989 طبقت الحكومة عملية اصلاح الاسعار التي لم تتمكن من فرضها قبل سنوات، وبعد جولة السيد دنغ كسياوبنغ في الجنوب في العام 1992 سرعت الكومة من تطبيق اقتصاد السوق، وباتت السياسة النقدية أداة مهمة للرقابة وجرى تصويب معدل سعر الصرف من أجل تشجيع عمليات التصدير. وأدت المنافسة في مجال الصادرات الى ظهور شركات الادارة ونموها، وتقلصت الفروقات في الاسعار التي كانت قائمة بسبب "النمظام المزدوج"، واذا مقاطعة بودونغ في شانغهاي تنفتح على النمو وانتشرت في كل مكان "مناطق تنمية" جديدة.

في السنوات التالية تعمقت الهوة بين مداخيل الشرائح الاجتماعية وبين المناطق، ولم يتوقف انتشار المزيد من الفقر في أوساط الشعب (9) . ولأنه لم يعد في الامكان العودة الى الايديولوجيا السابقة، فقد أحل مكانها مفهوم استراتيجيا "القوة على جبهتين" (الايديولوجية والاقتصادية) الذي اقترن بالاصلاحات الاقتصادية ليصبح نوعاً جديداً من الاستبداد. لقد حلت "النيوليبيرالية" محل إيديولوجيا الدولة كأيديولوجيا مهيمنة تؤمن التوجيه والانسجام في خيارات الحكومة وفي سياستها الخارجية وفي القيم الجديدة المحددة لوسائل الاعلام.

لم يلغ تطبيق سياسة مجتمع السوق الأسباب التي أدت الى قيام الحركة الاجتماعية في العام 1989، بل "شرعن" هذه الأسباب. فالقضايا الاجتماعية الكبرى التي قامت في التسعينات، من الفساد الى المضاربات العقارية، وتراجع الحماية الاجتماعية، والبطالة والاتجار بالعمل الريفي، والهجرة المكثفة من الريف الـى المدن (10) ، وازمات البيئة الخ، كلها مرتبطة في شكل وثيق بالظروف الاجتماعية التي قامت قبل العام 1989. أما العولمة فزادت من هذه المشكلات ومن حجمها ومن اتساعها جغرافياً. وفي المختصر أدت نهضة الاسواق الى عملية فرز اجتماعية والى عملية تنمية غير عادلة، مزعزعةً بذلك أسس المجتمع، كما أنها ساهمت في مدّ الأرض للاستبدادية الجديدة.

وبالطبع لم يكن لعملية الاصلاح والانفتاح الاقتصادي سوى نتائج سلبية، فصحيح انها حررت الصين من التزاماتها ومن مآزقها الناتجة من الثورة الثقافية، وأنها شرعت في عملية تنمية اقتصادية فعلية ومهمة، وكان لها انعكاسات تحريرية مما جعل المثقفين الصينيين يرحبون بها، الا أنه إذا القينا نظرة من الزاوية التاريخية فإنها ولدت أيضاً جروحاً عميقة.

فبالنسبة الى الجيل الذي نشأ بعد الثورة الثقافية، فإن المعرفة الوحيدة القيمة هي تلك الآتية من الغرب، وبالتحديد اكثر من الولايات المتحدة. أما آسيا وافريقيا وأميركا اللاتينية ناهيك باوروبا، أي رواد المعرفة والثقافة، فقد خرجت من الدائرة الثقافية الصينية. والتخلي عن الثورة الثقافية قد اصبح وسيلة للدفاع عن الايديولوجيا المهيمنة وعن السياسة الحكومية، فاي انتقاد للنيوليبيرالية يوصم بأنه "ارتداد لا عقلاني" فيما يجري التحريض على انتقاد الاشتراكية والتقاليد الصينية بغية تبرير اعتماد نماذج التنمية الغربية والخطابات الغائية حول عملية التحديث.

ولا يمكن الصين في أي حال أن تقيس نفسها بمقياس النمو التاريخي للرأسمالية الغربية، بل بالعكس يجب إخضاع هذه الرأسمالية لعملية نقدية ليس للتسلسة وحسب، وإنما لالقاء نظرة تقويمية جديدة على خط المسار الصيني والعالمي ولاكتشاف الامكانات الجديدة التي يوفرها لنا التاريخ. وليس مطلوباً رفض تجربة الحداثة وهي قبل كل شيء حركة تحرير بالنسبة الى الغائية التاريخية والى النظرة الحتمية والتأليهية للنظام السابق. فالمطلوب جعل التجارب التاريخية للصين ولبقية الدول موارد يمكن ينهل منها التجديد النظري والتطبيقي.

وفي اللغة التاريخية يمكن اعتبار أن الحركة الاجتماعية الصينية كانت حركة مقاومة وتحديث. ومن أجل الامساك بالصعوبات التي واجهت الصين في سعيها الى المساواة والحرية، من المفترض اليوم مساءلة مسيرتنا التحديثية وإيجاد الطرق الديموقراطية والاجتماعية الكفيلة تجنب عملية الفرز والتفكك.



--------------------------------------------------------------------------------

(1) مؤلف في تاريخ الفكر، رئيس تحرير صحيفة "دوشو"، بكين.

(2) اقرأ Zhang Wali, “Twenty years of Research on Social Class and Strata in China”, Shehuiwue janjiu, Pekin, 2000

(3) Wang Shaoguang, “La construction d’un Etat democratique puissant”, in Dangdai zhongguo yanjiu…, vol.4, 1991

(4) راجع كتابZhang Wali

(5) راجع:

Lire Zhao Renwei, … Quelques aspects particuliers de la répartition des revenus en Chine pendant la transition î , in Zhao, Recherches sur la répartition des revenus au sein de la population chinoise , Pékin 1994. (Feng Tongqing et al., … La situation des travailleurs chinois, structure interne et relations mutuelles î Zhongguo sheshui chubanshe, Pékin, 1993 et Zhang Wanli, …Twenty Yearsî, op. cit

(6) اقرأ:

Hu Heyuan, … Une estimation de la valeur de la rente en Chine en 1988 î, in Jingji tizhi bijiao (Systèmes économiques comparatifs), vol.7,1989

(7) راجع:

Guo Shuqing, … Transformation du systéme économique, macro-ajustements et contrôle, Tianjin renmin chubanshe, 1992. p. 181

(8) حول التغييرات في صفوف الكوادر قبل الاصلاحات وبعدها اقرأ:

Li Qiang … Stratification et mouvement dans la société chinoise contemporaine î in Zhongguo jingji chubanshe , Pékin 1993

(9) راجع أعمال مجموعة الأبحاث الاقتصادية حول توزّع المداخيل التابعة للأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية

Zhao Renwei et al. … Recherches sur la répartition des revenus en Chine î in Zhongguo sheshui kexue chubanshe, Pékin,1994

راجع:

Voir Wang, … ?tude du développement urbain et de ses antécédents î in Shehuixue yanjiu , vol ;, 2000 (1), pp. 65-75 (10)



http://www.mondiploar.com/

جميع الحقوق محفوظة 2001© , العالم الدبلوماسي و مفهوم



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن