البسيط والهيئة العليا - 17 - سيرة

ناس حدهوم أحمد

2008 / 6 / 14


عدت من البيضاء إلى تطوان وانضممت الى فرقة موسيقية صغيرة بالحي الذي أقطنه . يترأسها فنان من نفس الحي إسمه عبد العزيز يعزف على العود بمهارة ويغني كذلك بشكل شيد . كنت نحضر حفلات الزفاف وأفراح الميلاذ وسهرات أخرى مختلفة . وكان القسم الأكبر من الريع يسفرد به الرئيس . ولم يكن بمقرتنا أن نفعل شيئا كما لم يكن يهمني ذلك رغم فقر ي لأنني بالدرجة الأولى كنت هاويا ولست محترفا .
وقد شاءت الطروف أن يحضر بالمدينة وبنفس الحي - الباريو مالكا – ملحن شعبي يقيم بفرنسا كان يسمى عبد الرزاق الحسين لحن مجموعة من قصائد الزجل للأستاذ الغربي الذي كان معروفا على الصعيد الوطني
آنذاك . وقد إجتمع نفر من خيرة فناني تطوان وتكونت فرقة موسيقية أطلقنا عليها إسم الأركسترا العصري التطواني فكانت القيادة والرئاسة للفنان الشعبي عبد الرزاق الحسين وكان نائبه الفنان عبد العزيز فكنت أنا مطربا مع هذه الفرقة في نفس الوقت كنت كاتبا عاما أقوم بشؤون الفرقة الإدارية بينما صديقي سيمحمد
الشنتوف كان مكلفا على برامج السهرات مذيعا ومقدما ومنسقا . وعدد من المستشارين وأمين الصندوق تم
اختيارهم من الأفراد نفسهم وقد تم ذلك بدون أي انتخاب أو ما شابه ذلك . وكان عدد المطربين سبعة. أما
الأركسترا فقد وصل أعضاؤها الى الثلاثين فردا ونيف .
أقمنا أول الأمر تدريبا مكثفا حفظنا خلاله ما يقرب عشرة أغاني كلها للملحن المذكور وتم تخصيص اغنية
لكل فرد منا وكانت أغنيتي هي صباح الخير وللمطرب الوهابي أغنية – سبع أيام سبع أيام - وللآخر لا
يحضرني إسمه – اغنية للاحليمة - وهلم جرا .
أول شيء قام به الرئيس هو إحضار المصحف الكريم وأدينا القسم بوضع أيادينا عليه . حينئذ ركبني الشك حول نجاح هذا المجمع . وفعلا تحققت تنبؤاتي المشؤومة لاحقا. المهم هو أن الفرقة تألقت بالمدينة خلال أول سهرة أقمناها على خشبة أحد مسارح المدينة . ونجحت الصهرة بشكل ملفت للنظر .وكنت أنا ( هذا الشخص البسيط ) هو النجم الذي صفق له الجمهور طويلا بدون انقطاع مطالبا بأن أضيف أغنية أخرى قاطعا الطريق على مطربين آخرين كانوا ينتظرون دورهم . وعندما كنت أغني كانت أسرتي حاضرة ولأول مرة
في حياتي رأيت والدتي جنب إخوتي بالصف الأمامي وهي مندهشة مني وفمها مفتوح عن آخره . ألم يقل
أبي بأن الشيطان سيتعجب مني ؟ أثناء حياته ؟ ..
مع تصفيق الجمهور والصفير ومطالبته بأن أؤدي أغنية أخرى خرج الرئيس معترضا قائلا
( إنكم بهذه الطريقة لا تسجعوننا بل بالعكس . هناك مطربون آخرون ينتطرون دورهم وعليكم أن تستمعوا
لهم وبعد ذلك إحكموا عليهم ) وكان هو يتعاطف مع مطرب آخر يسمى الجديددي في حين هو لم يعطه أي
أغنية من تلحينه بل كان هذا المطرب يغني أغنية عبد الواح التطواني - طلمتيني - . لكن رغم هذا القمع لجمهوري والإستماع لباقي المطربين بقيت أنا النجم الأفضل لهذه السهرة . وقد كان بيننا مطرب أفضل مني
صوتا وهو الأخ الوهابي لكن الجمهور كان له الرأي الحاسم .
فوجئنا ونحن بدار الشباب حيث مقرنا الذي نجتمع فيه بدعوة من السيد العامل حاكم المدينة يطلب حضورنا
بمكتبه . لقد كانت هذه الدعوة علامة النجاح الأول الذي حصدناه في تلك السهرة . وكان علينا أن نلبي الدعوة فورا فتم اختيار وفدا صغيرا ينهض بهذه المهمة ( الرئيس ونائبه وصديقي منسق السهرات ) وتم تجاوزي وأنا بصفة الكاتب العام للأركسترا مما جعلني ذلك أحتج على هذا التهميش الذي فرضه الرئيس وحده . فاحتدم
الصراع ووصفني الرئيس بالصعلوك لأنني ركبت موجة الهيبز بسبب لباسي المهلهل . واقترح نائب الرئيس
أن يمدني ببذلة أحضر بها مقابلة عامل صاحب الجلالة على تطوان فرفض الرئيس الإقتراح .وكان علي أن
أتحدى السيد الرئيس لكنه فاجأني قائلا ( أنت مطرود ) قلت بغضب ( بل أنت المطرود ) حينئذ إلتفت إلى
الجميع قائلا ( إما أنا وإما هو فلكم الإختيار ) وانفض الجمع على هذا الإيقاع .
أثناء خروجنا من المقر دون تحديد الأمر النهائي . انفرد بي نائب الرئيس وطلب مني بغير قليل من الود
أن أنسحب مؤقتا بدعوى أن الرئيس رغم خطئه فإننا نعتمد عليه لأن كل الأغاني ملحنة من طرفه كما انه
يقود الأركسترا ومعارفه كلها من الأعيان ووجوده ضروري لنجاح الفرقة . كان علي أن أتفهم الموقف وأنسحب وتقديم إستقالتي التي بقيت بدرج مكتبي إلى غاية رجوعي إليه .
مر أسبوع كامل فإذا بنائب الرئيس يطلب حضوري . كان ينتظرني بمحل صغير بجانب مقهى كان يمتلكها بالحي الذي نقيم فيه . كنا نطلق عليه ( el cortijo - ) داخل هذا المكان البسيط كنا دائما نتدرب على الأغاني الرفيعة أيام الزمن الجميل . وهناك استمعت إلى ملحنين كبار وعازفين مهمين بالبلد حينما كانوا
لا زالوا في أول مسيرتهم . لن أنسى أبدا يوم حضر عازف مرموق مغربي اسمه الشاعر وكان يعزف قطعة
سيرة الحب مع الفنان عبد العزيز كانت لحظة رائعة وأنا لا زلت في مرحلة الصبا هاويا للفن بجنون .
المهم حضرت ملبيا دعوة نائب الرئيس فزف إلي خبر رجوعي للأركسترا وأن الرئيس الذي طردني هو
نفسه الذي يطلبني . رافقت النائب إلى مكان الرئيس ببيت أحد أقاربه صافحته ونهض واقفا إحتراما لي ثم طلب مني الجلوس وقدم لي كأس قهوة بالحليب . لكنه بدلا من أن يعتذر هنأني كمطرب أول بالفرقة على
النجاح الذي حققنه خلال السهرة منوها بقدرتي على إقناع الجمهور بموهبتي وأخبرني كذلك بأنه عند إنسحابي لم يستطع أحد حلول مكاني ورغم نقل أغنيتي إلى أفضل مطرب بالفرقة لم تكن هي نفس الأغنية
التي إستمع إليها أفراد الجوق عندما كنت أنا صاحبها . لقد كانت بدوني أغنية فاترة وباردة وهذا الأمر الواقع
فرض وجودي وأنا غائب عن الفرقة . وعن المكان .
عادت الأمور إلى طبيعتها . لكن شاءت الظروف من جديد أن ينشب خلاف جديد لكن هذه المرة بين الرئيس
ونائبه وكانت الضربة القاسية للفرقة وتشتت الشمل . وعاد الرئيس إلى مكانه بفرنسا وانتهت الفرقة بعد النجاح الكاسح الذي حصدته وجعلها فوق كل فرق وأجواق البلدة .
وكان علي أن أستقبل الرئيس مرة أخرى بعد سنة حيث وقعت معه عقدا أعفيه من أي مستحقات لفائدتي
وأقنع فقط بسماع نفسي وأنا أغني أغنيتي صباح الخير على أمواج الإذاعة الجزائرية آنذاك ولم أتوصل ولو بسنتيم واحد على ذلك . هكذا نحن .....

- يتبع -



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن