الوداع يا جمال

سامر سليمان

2008 / 6 / 2

هذا نص كتبته لأصدقائي وزملائي منذ سنة بعد وفاة صديقي الفنان الجزائري جمال سي العربي. واليوم أنشرها في الجريدة التي طالما حلمنا لها سوياً والتي لم يلحق جمال بها لكي ينشر رسوماته كما كان مقرراً.
عرفت جمال سي العربي منذ أكثر من عشر سنوات عندما عملنا سوياً في جريدة الأهرام ابدو. لجأ جمال إلى مصر عقب اندلاع الحرب بين النظام الجزائري والجماعات الاسلامية، تلك الحرب التي أكلت في طريقها العديد من الناس.. مواطنين أبرياء لا ناقة لهم ولا جمل في صراع الذئاب.. كتاب، مثقفين ويساريين سقطوا برصاص غادر أعمى القلب والبصيرة. كنت مع جمال حينما تلقى خبر اغتيال أحد أصدقائه. كان لجمال "تار بايت" مع العسكر والاسلاميين في الجزائر، معه سمعت قصة الجزائر الدموية مراراً وتكراراً. كان كارهاً للاسلاميين الدمويين بشكل لا تخطئه عين. قلت له أنه سجين "الحالة الجزائرية". ولكني في واقع الأمر كنت اضمر له اعجاباً شديداً بسبب غيرته على رفاقه الذين سقطوا. "بيني وبينهم دم رفاق". هكذا قال لي منهياً الحديث ذات مرة.
ولكن لم يكن هذا فقط الذي دفعه لمغادرة الجزائر، ولكن القصة فيها خلاف مع الرفاق في حزب الطليعة الجزائري. إنها التسعينيات التي شهدت انفجار العديد من التشكيلات اليسارية. فخرج معظم الرفاق منها إلى الحياة. منهم من واصل النضال بطريقته في المجتمع، ومنهم ظل على رغبته في العمل السياسي، ومنهم من ضل طريقه سواء داخل السياسة أو خارجها.
ضاقت الجزائر على جمال فأتي إلى مصر حيث تعيش أختاه دليلة وراجية المتزوجتين من مصريين: جمال صدقي وياسر. لم يكن جمال غريباً على مصر. حتى اسمه، جمال، كان اسماً مصرياً، فهو من مواليد 1956، أي عام النصر على العدوان الثلاثي، فسماه والده جمال تيمناً بالرئيس جمال عبد الناصر. جاء جمال إلى مصر ثم لحقت به زوجته بشرى بعد قليل من الوقت. وأصبح جمال جزءاً من مصر أصبحت هي جزئاً منه.
هوية جمال الجزائرية لا تظهر بسهولة بسبب نزعته الانسانية الطاغية، ولكنها هناك لمن يعرفه عن قرب. عرفتها عنه حينما صرح أنه في أخر الليل، عندما يسدل الستار، يلجأ إلى موسيقاه الجزائرية التي سمعها من أفواه ومن أيادي مبدعيها. منه تعرفت على موسيقى جزائرية من أجمل ما سمعت.. معه تعرفت مثلاً على دحمان الحراشي وتعجبت.. في الوقت الذي كانت مصر في حالة من الطرب ابان الخمسينات والستينات، كان هذا المغنى الفذ يفرض حالة من الحركة والحيوية تشتعل في جسدك.
"جيمي" متعدد المواهب والملكات. مدرس، رسام، كاريكاتوريست، مترجم، كاتب، مثقف حقيقي، قاريء نهم، مستمع جيد لأنواع مختلفة من الموسيقى، طباخ ماهر. كل هذا اختلط في تركيبة انسانية فريدة. "جمال" حالة فنية وثقافية تمشي على قدمين. معه يمكن أن تتكلم في كل شيء وأي شيء، من أول الفلسفة، مروراً بالسياسة ووصولاً للجنس والطبيخ. معه تتعلم الكثير. فهو ينهل من الثقافة لكي يهضمها ويفيض بها على من حوله. هو مدرس حتى النخاع. وهذه النزعة التدريسية تظهر في حبه للاطفال وارتباط الأطفال الشديد به، فهو يفتح لهم عوالم من الخيال والاثارة واللعب والمتعة والمعرفة. هو مدرس بدون عصا، ليس لديه ما يشد إذن الناس له إلا معارفه الممتزجة بالحياة والمغلفة بإطار من المتعة والتشويق. رغم أن فارق السن بيننا لم يكن كبيراً إلا أنه كان يذكرني بأبي، الأستاذ، الذي كان يفيض على من حوله بالمعرفة بكل حب وكرم.
كرم جمال لا يقتصر على بيته وبيت رفيقته بشرى الذي فتحه لكي نتسامر فيه بحميمية، ولكي نأكل فيه ونشرب ما لذ وطاب ونستمع إلى أجمل الموسيقى من مشارق الأرض ومغاربها. إنه كريم في معارفه، فهو يشاركك فيما يعرف بعطاء غير محدود. وهو يفتح لك أبواب التعرف على ناس جميلة مثله. رأيت في بيته ناس من أجمل ما يمكن أن ترى في مصر.
لقد تعلمت منه الكثير والكثير. وأهم ما تعلمت حب الحياة وفن أن تحيا حياة جميلة وأن تفيض على من حولك بالجمال. جمال كان فعلاً اسم على مسمى. فهو فعلاً جميل محب للجمال.
الوداع يا جمال، يا أعز الأصدقاء.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن