الحداثة والبحث عن نظرية نقدية

كريم الهزاع
kareem.h.9@Gmail.com

2008 / 4 / 25

يسعى البعض إلى إيجاد نظرية نقدية عربية خاصة وحديثة، حيث إن للحداثة معنيين: معنى غربي ومعنى شرقي. وفي هذا المنحى، يجتهد الأديب والناقد إدوار الخراط في كتابه “أصوات الحداثة” في تقديم إجابة يؤكد فيها أن الكتابة الإبداعية الحداثية في الأدب العربي تستديم كمحتوى، أي تظل على صلة وثيقة بالتراث القديم الذي مازال صحيحا وسليما، ولكنها في الوقت نفسه تسعى بالتأكيد للخروج على المنحى الواقعي القديم. والحداثة في الأدب العربي ليست وليدة اليوم، وليست قالبا واحدا في الوقت نفسه، ولا ترجع في دوافعها إلى سبب واحد خارجي مجتمعي، أو داخلي يكمن في عملية الإبداع.

الحداثة العربية في الأدب ترجع في بداياتها -حسب الناقد إدوار- إلى حقبة الأربعينيات، وإن كانت قد وجدت زخمها منذ الخمسينيات، وتحقق اكتمالها منذ الستينيات. أما أصولها، فينسبها إدوار إلى البناء الواقعي الاشتراكي الذي هيمن على الساحة العربية في هذين العقدين، وبخاصة بعد ثورة يوليو المصرية، وبالأخص بعد حرب السويس، إذ تساوى أو توازى مع الخروج المهين للقوات الغربية من السويس، وحضور متزايد للاتحاد السوفييتي في شرقنا العربي تخلله إعجاب متزايد بأيديولوجيات الاشتراكية والماركسية التي كانت قد وجدت لها أرضا خصبة في قلب الحركة الوطنية المصرية منذ الأربعينيات، والتي كانت قد نجحت في إكساب الحساسية الأدبية المصرية ميلا إنسانيا ويساريا حتى لدى الكتاب من ذوي الميول الغربية مثل طه حسين، خصوصا في روايته الشهيرة “المعذبون في الأرض” والتي منعها الملك لأنه رآها ثورية، وإن كانت ثوريتها مثالية. لقد تنامى هذا الاتجاه حتى ساد العالم العربي تقريبا منذ الستينيات، حيث تجاوبت أصداؤه السياسية في العراق وسورية والمشرق العربي مع صوته في مصر لتشكيل حساسية جديدة في الأدب العربي سرعان ما تجاوزت أحاديتها الواقعية الاشتراكية أو الاجتماعية إلى تنويعات شتى، وإن كانت تمثل حساسية واحدة تتقارب تياراتها في الروح واحتفظت بتباينها في القوالب. ويذكر إدوار منها خمسة تيارات أساسية، وإن كان يمكن لنا اختزالها في ثلاثة أساسية مثلا يتداخل التيار الأسطوري المعاصر مع التيار الواقعي السحري، وكذلك يتداخل تيار الكتابة الشيئية المتجهة إلى الخارج مع تيار الواقعية الجديدة.

الرؤية الداخلية

أول هذه التيارات هو التيار العضوي، أو تيار الرؤية الداخلية، والاتجاه الباطني إذ ليست العين الداخلية وحدها هي التي تلعب دورها، بل الحياة الداخلية كلها هي التي تتحدث، سواء كان ذلك على مستوى الحس أم على مستوى الإدراك والرؤية. إذ يمكن للأعمال التي تنتمي إلى هذا التيار أن تنفذ إلى حقيقة أساسية غير سافرة للإنسان، سواء كان ذلك عن دأب وتقص أم بإلهام عفوي. وتتهم الأعمال المنتمية إلى هذا التيار بأنها رد على المشكلات الاجتماعية التي عالجها تيار الواقعية الاجتماعية واستسلام لضغوط نفسانية أو انفعالية، وإن كانت هذه الأعمال تتورط بشكل غير واضح في هذه المشكلات، لأنها تتستر في طرحها لها بقضايا نظرية أكثر مثل الحقيقة والوجود والمصير وغيرها. وينسب المؤلف إلى هذا التيار أعمال مبدعين مثل حيدر حيدر وخليل النعيمي السوريين، واللبنانية هدى بركات والجزائرية أحلام مستغانمي والمغربي أحمد المدني.. ومن مصر هناك حافظ رجب، ومحمد مبروك ومحمود عوض عبدالعال، ويمكن من جانبنا أن نضيف إدوار الخراط نفسه.

الكتابة الشيئية

أما التيار الثاني فهو تيار الكتابة الشيئية المتجهة إلى الخارج، وهو حسب التعريف يمثل أسلوبا في الكتابة يعكف على وصف الواقع الخارجي وصفا دقيق التفاصيل، محايدا حيث يبدو معه اغتراب الإنسان واضحا، فتبدو كما لو كانت في إطار صور فوتوغرافية وبعين تبدو مفتقرة إلى الانفعال. ويعتبر الخراط أن إنجاز هذا التيار من الحساسية الجديدة، هو أنه بينما يحتفظ بهذه الظواهر، فهو يصل إلى نقيضها تماما. وينسب المؤلف إلى هذا التيار من الستينيات في مصر إبراهيم أصلان في رواية “بحيرة المساء” وبهاء طاهر صاحب “الخطوبة”، وإن كان هذا التيار قد وصل إلى مأزق الآن تحت وطأة تغيرات اجتماعية وثقافية عديدة حدثت ودفعت إلى عودة العناصر الشعرية والأسطورية والميلودرامية إلى مادة بعض أعمال هذا التيار.

الاتجاه الثالث والأكثر تركيبا وثراء سواء على مستوى الإنجاز والتحقق أم على مستوى البشارة والوعد هو الذي يسميه المؤلف التيار الأسطوري المعاصر والذي يلجأ إلى الخرافة والخيال والحكاية الشعبية، في الوقت الذي يثير فيه موضوعات تجري مجرى الحياة اليومية بمشاهدها وأشخاصها سواء كان ذلك في موقف تاريخي أم معاصر. وهذا التيار، على عكس سابقيه، لا يفترض أن هناك واقعا تام الصنع جاهزا لتصويره أو التعبير عنه، أو حتى لتغييره، وإنما هذا الواقع قيد التشكل ويمكن الإسهام في تشكيله باستدعاء ووصف نماذج تاريخية، أو حتى أسطورية تلهم هذا الواقع. وهذا التيار تمثله أعمال يحيى الطاهر عبد الله الأخيرة، ومعظم أعمال جمال الغيطاني، وعلى رأسها “الزيني بركات”، ونبيل نعوم ويوسف أبورية.

إن هذا المعطى الذي طرحناه من خلال قراءة حداثوية للنصوص الأدبية، ولكننا إذا أردنا أن نتحدث عن الحداثة كتيار فلسفي، فسيكون لنا عبور آخر بأن نعود إلى ماهية الأشياء، وحتى لا تسيل الأمور بعضها صوب بعض، سنتوقف عند هذا الحد.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن